تنزيل
0 / 0
13,05304/03/2014

أثر استماع المعازف وشرب النبيذ في حكم رواية الراوي

السؤال: 192975

هل يطعن في الرواة أنهم موسيقارية ويشربون ؟
كما في الأمثلة الآتية :
جاء في ” الإرشاد في معرفة علماء الحديث “: يوسف بن يعقوب ، أبو سلمة الماجشون ، ثقة ، سمع الزهري ويحيى بن سعيد وغيرهما ، روى عنه الكبار ، وعمر حتى سمع منه يحيى بن معين ، وعلي بن مسلم الطوسي ، وهو وإخوته يرخصون في السماع ، قال ابن معين : كنا نأتي يوسف الماجشون فيحدثنا في بيت ، وجواريه في بيت يضربن بالمعزفة ، وهو وإخوته وابن عمه يعرفون بذلك ، وهم في الحديث ثقات مخرجون في الصحاح .
عبد العزيز بن سلمة الماجشون ، مفتي أهل المدينة ، سمع الزهري وعبد الله بن دينار ، وروى عنه الأئمة ، مخرج في الصحيحين ، يرى التسميع ويرخص في العود .
والمراد بالتسميع سماع الأغاني من الجواري المملوكة ، روى له البخاري ، ومسلم ، والترمذي والنسائي ، وابن ماجه .
وفي كتاب ” المعجم في أسامي شيوخ أبي بكر الإسماعيلي”: ” أبو الحسن علي بن السراج المصري ببغداد ، وكان مستهترا بالشراب حافظا ، أملى من حفظه ، قال السهمي : سمعت محمد بن مظفر الحافظ يقول : رأيته سكران على ظهر رجل يحمله من ماخور ، قال الدارقطني : صالح ، وقيل إنه ربما تناول الشراب وسكر ، وقال : كان يعرف ويفهم ، ولم يكن بذا ، فإنه كان يشرب المسكر ويسكر ، وقال الخطيب : كان حافظا عارفا بأيام الناس وأحوالهم ، وكذا وصفه الذهبي بالحفظ والإتقان والإمامة ، ثم قال : لكنه كان يشرب المسكر . وقال ابن حجر : وهذا ينبغي احتمال شربه النبيذ المختلف فيه .
واعتذار ابن حجر غير مسلّمٍ به ؛ لأن الحرمة واقعة على كل شراب مسكر ، نبيذ أو غيره ، وهذا كان يحمل على أظهر الرجال لشدة سكره .
وقول الإسماعيلي : هذا دليل واضح على أمانته في الأداء ، واستيفائه لشروطه في مقدمة كتابه ، حيث يذكر شيوخه ، ثم يوضح من ذم طريقه منهم ، لتجنب الرواية عنه.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
عدالة الراوي أحد ركني شروط قبول روايته ، إلى جانب الحفظ والضبط ، وقد دل على هذا
الشرط أدلة شرعية كثيرة ، منها قول الله سبحانه وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) الحجرات/6 ، وقول الله عز
وجل : ( وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
) النور/4.
يقول الحافظ ابن الصلاح رحمه الله :
” أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلا ،
ضابطا لما يرويه ، وتفصيله : أن يكون مسلما ، بالغا، عاقلا ، سالما من أسباب الفسق
وخوارم المروءة ، متيقظا غير مغفل ، حافظا إن حدث من حفظه ، ضابطا لكتابه ” .
انتهى من ” المقدمة في علوم الحديث ” (ص/104) .
ولهذا رد العلماء أحاديث بعض الرواة الذين عرفوا بالفسق والمجون وارتكاب كبائر
المنكرات ، قال عباس الدوري : سمعت يحيى بن معين – وذكرت له شيخا كان يلزم ابن
عيينة ، يقال له: ابن مناذر – فقال :
” أعرفه ، وكان صاحب شعر ، ولم يكن من أصحاب الحديث ، زاد ابن حماد : وكان يتعشق بن
عبد الوهاب الثقفي ، وكان يقول فيه شعر ، وكان يشبب بنساء ثقيف ، فطردوه من البصرة
، فخرج إلى مكة . وقالا : وكان يرسل العقارب في المسجد الحرام حتى تلسع الناس ،
وكان يصب المداد بالليل في المواضع التي يتوضأ منها الناس حتى يسود وجوه الناس ،
ليس يروي عنه رجل فيه خير ” انتهى من ” الكامل في الضعفاء ” (7/520) .
ثانيا :
لكن المعصية التي ترفع العدالة وتثبت الجرح : هي القادحة المتفق على كونها معصية ،
وبشرط أن تبلغ حد الكبيرة التي تُرَدُّ بها الشهادة ، ولم تقع بتأويل سائغ .
يقول ابن قدامة رحمه الله :
” ولا يجرحه عن العدالة فعل صغيرة ؛ لقول الله تعالى : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ
كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ) النجم/32. قيل : اللمم صغار
الذنوب . ولأن التحرز منها غير ممكن ” .
انتهى من ” المغني ” (10/148) .
وهكذا فسر الإمام الصنعاني عبارة ابن الصلاح السابقة – في اشتراط سلامة الراوي من
أسباب الفسق – فقال :
” أجمل ابن الصلاح أسباب الفسق ، فبينها المصنف بقوله بارتكاب الكبيرة والإصرار على
الصغيرة ” كما في ” توضيح الأفكار ” (2/86)، وقد توسع الأمير الصنعاني نقلا عن ابن
الوزير في ” العواصم من القواصم ” في بيان قبول رواية من وقع في المفسق أو المكفر
متأولا .
ينظر ” توضيح الأفكار ” (2/127-159) .
ويقول الشيخ عبد الله الجديع :
” المعصية القادحة هي المعلومة التي لا تقبل التأويل ، وليس منها الصغائر ” انتهى
من ” تحرير علوم الحديث ” (1/379) ، وانظر (1/236-237) ثم نقل عن يحيى بن معين
تضعيف كل من عمر بن سعد ؛ لأنه قتل الحسين رضي الله عنه ، وتضعيف يعقوب بن حميد بن
كاسب لأنه محدود ، أي أقيم عليه الحد . وكلها مفسقات متفق عليها لا يقبل فيها
التأويل .
ثالثا :
ثم إن وقوع المسلم في السكر من كبائر الذنوب التي يتفق العلماء على أنها تخرم
العدالة ، ولا تقبل معها الشهادة ولا الرواية ، وليست محلا للتأويل ولا للمعذرة .
سئل ابن المبارك عن العدل , فقال : ” من كان فيه خمس خصال ، يشهد الجماعة ، ولا
يشرب هذا الشراب ، ولا تكون في دينه خربة ، ولا يكذب ، ولا يكون في عقله شيء ” .
انتهى من ” الكفاية في علم الرواية ” للخطيب البغدادي (ص/79) .
رابعا :
لم نقف على أحد من الرواة الثقات الذين قبِل العلماءُ أحاديثَهم ، وصححوا مروياتهم
: قد ثبت عليه السكر بالشراب المسكر .
وما ورد في السؤال من نقول وأقوال فهمت على غير وجهها ، وتحتاج إلى شيء من البيان :
أما علي بن سراج المصري ، المتوفى سنة (308هـ)، فليس له رواية في الكتب الستة ، ولا
في المسانيد المشهورة المعتبرة ، وإنما له روايات متفرقة في بعض الكتب التاريخية ،
وقد رد النقاد حديثه لأجل ثبوت السكر عليه ، وإن كانوا أقروا بحفظه وإتقانه ، قال
الدارقطني رحمه الله : ” كان يعرف ويفهم ، ولم يكن بذاك ؛ فإنه كان يشرب المسكر ،
ويسكر ” انتهى من ” سؤالات السلمي ” (ص/209)، وهذا ليس حكما بقبول حديثه ، بل فيه
جرح ظاهر للراوي ، ولا يعرف للدارقطني تصحيح حديث فيه هذا الراوي .
وأما قول حمزة السهمي : ” سمعت محمد بن مظفر الحافظ يقول : رأيت علي بن سراج المصري
سكران على ظهر رجل يحمله من ماخور ” انتهى من ” سؤالات السهمي ” (ص223). فهو يؤكد
ما سبق ، ويؤكد أنه لا يغني الحفظ مع ثبوت السكر على الراوي ؛ لذلك لا يقبل تفرده
بحديث دون غيره من الرواة ، كما قال الحافظ الذهبي رحمه الله : ” ضُعِّف لشربه
المسكر ” ينظر ” ذيل ديوان الضعفاء ” (ص/49).
وإن كان قد يستأنس بكلامه في بعض الأمور التاريخية ، كما قال الخطيب البغدادي رحمه
الله : ” كان حافظا عارفًا أيام النّاس وأحوالهم ” انتهى من ” تاريخ بغداد ”
(13/385)، وانظر ترجمته في ” تاريخ دمشق ” (41/507)، لكن ذلك لا يعني أن المحدثين
قبلوا حديثه ، فَفْهم كلام المحدثين يجب أن يكون دقيقا ؛ لأنهم أصحاب مصطلحات دقيقة
وعناية فائقة ، ولم نرَهم قبِلوا حديثَ هذا الراوي في كتب الحديث ، ونقلهم عنه بعض
الأمور التاريخية أو في علم الرجال كان على سبيل الاستئناس ، وليس على سبيل الديانة
، ولهذا لا مانع من وصف الراوي السكير بكونه يحفظ ويفهم ، ولكن العبرة بعد ذلك
بقبول حديثه والأخذ به .
ثم إن الحافظ ابن حجر لم يدافع عن علي بن السراج في كتابه ” لسان الميزان “، ولم
يقل : ” ينبغي احتمال كونه كان يشرب النبيذ المختلف فيه “، بل قال ” هذا ينفي
احتمال كونه كان يشرب النبيذ المختلف فيه “، يريد أن يؤكد أنه كان يسكر تماما فيقع
في المحذور إجماعا ، مستندا إلى الرواية السابقة أنه كان يحمل على ظهور الرجال
لسكره . ولكن وقع تصحيف في الطبعة المتداولة ، فأصل الكلمة ( ينفي ) كما هي في
الطبعة التي بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله (5/542)، تصحفت في الطبعة
المتداولة لدائرة المعارف النظامية في الهند (4/231) إلى ( ينبغي )، وبهذا نكون قد
أجبنا على إشكال السائل بحمد الله .
خامسا :
أما إذا كانت المعصية مما يقبل التأويل ، أو كانت محل اختلاف بين الفقهاء والعلماء
، فالصواب الذي عليه جمهور المحدثين هو عدم جرح الراوي بتلك المعصية ، وعذره
لتأويله فيها ، وأخذه بقول المرخِّص من أهل العلم .
ومثال ذلك الترخص في المعازف الذي نقل عن يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجشون ،
المتوفى سنة (185هـ)، قال فيه يحيى بن معين : ” كنا نأتي يُوسُف الماجشون
فيُحدِّثنا في بيته وجواريه في بيتٍ آخر له يضربن بمعزفة ” انتهى من ” التاريخ
الكبير ” لابن أبي خيثمة (2/362) وقال الخليلي رحمه الله : ” هو وإخوته وابن عمه
يُعرَفون بذلك , وهم في الحديث ثقات مخرجون في الصحاح ” انتهى من ” الإرشاد ”
(1/309) .
وعلق عليه الذهبي رحمه الله بقوله : ” أهل المدينة يترخصون في الغناء ، هم معروفون
بالتسمح فيه ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الأنصار يعجبهم اللهو )”
انتهى من ” .
سير أعلام النبلاء ” (8/372) .
ومع ذلك فقد وثقه ابن معين وأبو داود ، وأخرج حديثَه الشيخان البخاري ومسلم ، ولم
يضعف العلماء حديثه لأجل مذهبه في الغناء .
وهكذا جاء في ترجمة ” عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ، مفتي أهل المدينة ، سمع
الزهري ، وعبد الله بن دينار ، وغيرهما ، روى عنه الأئمة ، مخرج في الصحيحين ، يرى
التسميع ، ويرخص في العود ” انتهى من ” الإرشاد ” (1/310).
وفي ترجمة ابنه عالم المدينة ومفتيها ، عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي
سلمة الماجشون ، تلميذ الإمام مالك رحمه الله المتوفى سنة (212هـ) ، قال ابن عبد
البر رحمه الله : ” كان فقيها فصيحا ، دارت عليه الفتيا في زمانه إلى موته ، وعلى
أبيه عبد العزيز قبله ، فهو فقيه ابن فقيه ، وكان ضرير البصر ، وقيل إنه عمي في آخر
عمره ، روى عن مالك وعن أبيه ، وكان مولعا بسماع الغناء ارتحالا وغير ارتحال . قال
أحمد بن حنبل : قدم علينا ومعه من يغنيه ” انتهى من ” الانتقاء في فضائل الثلاثة
الأئمة الفقهاء ” (ص/57)، وينظر ” سير أعلام النبلاء ” (10/359) .
ومع ذلك : فلم يرد النقاد حديثه لأجل مذهبه في سماع المعازف ؛ لأنها من مسائل
الخلاف بين التابعين ، ثم استقر الاتفاق في معتمد مذاهب الفقهاء الأربعة على
التحريم ، لذلك قبلوا بعض مروياته ، وضعفوا أخرى لأجل عدم حفظه وضبطه ، وكثرة
الأخطاء فيها ، قال أبو داود : ” كان لا يعقل الحديث ” ، وقال أحمد بن حنبل : ” من
يأخذ عن عبد الملك ؟! ” .
ينظر ” تهذيب التهذيب ” (6/408) .
ويلحق به أيضا : الرواة الذين يرون شرب بعض أنواع النبيذ على مذهب أهل العراق في
ذلك الزمن ، بحيث لا يبلغ حد الإسكار ، قال يحيى بن معين رحمه الله : ” وكيع وابن
نمير كانوا يشربون النبيذ ، وإنما كان نبيذهم يجعلونه في التنور ، يشربونه اليوم
واليومين والثلاثة ويهريقونه ، ولا يشربون كل نبيذ يزداد على الترك جودة “.
انتهى من ” كلام يحيى بن معين في الرجال ” رواية ابن طهمان (ص/73) .
وقد قال أبو حاتم الرازي رحمه الله : ” جاريت أحمد بن حنبل من شرب النبيذ من محدثي
الكوفة ، وسميت له عدداً منهم ، فقال : هذه زلات لهم ، ولا تسقط بزلاتهم عدالتهم ”
.
ينظر ” الجرح والتعديل ” (2/26) .
وقد قال العلامة المعلمي رحمه الله : ” على مذهب العراقيين في الترخيص في النبيذ ،
ومثل ذلك لا يجرح به اتفاقاً ” انتهى من ” التنكيل ” (1/439) .
ومن أراد أن يتوسع في معرفة الفرق بين قول الجمهور وقول الحنفية وفقهاء العراق
والكوفة في باب الأشربة ، وتحديد نوع النبيذ الذي اختلفوا في حكمه ، فيمكنه مراجعة
” الموسوعة الفقهية ” (5/11-20)، أما السكر بالشراب فمحرم بإجماع العلماء .
وما سبق يبين دقة المحدثين في منهجهم في الحكم على الرواة ، وإقامة موازين الحق
والقسط في قبول المرويات أو رفضها ، وما ذلك إلا بفضل الله أولا ، ثم بفضل جهود
علمية ممتدة عبر قرون الزمان ، بُذلت في سبيلها الدماء والأعمار والأموال .
والله أعلم .
 

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android
at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android