فهمت أن المرء يُعاقب إن مات قبل أن يسدد الدين الذي عليه.
لكن السؤال هو: هل تظل العقوبة قائمة عليَّ إن لم أسدد الدين وإنما عوضاً عن ذلك قامت الحكومة أو البنك بإسقاطه عني بعد أن حجزت جميع ممتلكاتي فلم تغطي الدين كاملاً؟
هل تبرأ ذمة المدين ، إذا أسقطت عنه الحكومة ، أو البنك ما عليه من الدين ؟
السؤال: 196316
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
ينبغي أن لا يتهاون المسلم بشأن الدين ، فلا يستدين إلا لحاجة ، فإذا استدان فمتى قدر على سداد دينه سدده ، دون أن يؤخر أو يماطل ، فإذا لم يقدر على السداد أوصى به ورثته من بعده ، أو تحلل من صاحبه .
روى مسلم في صحيحه (1885) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْإِيمَانَ بِاللهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِي ذَلِكَ .
قال ابن الجوزي رحمه الله :
” وَهَذَا الحَدِيث يتَضَمَّن التحذير من الدّين، لِأَن حُقُوق المخلوقين صعبة شَدِيدَة الْأَمر تمنع دُخُول الْجنَّة حَتَّى تُؤَدّى، وَقد كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يمْتَنع فِي أول الْإِسْلَام من الصَّلَاة على ذِي الدّين، كل ذَلِك للتحذير من حُقُوق المخلوقين، فَكيف بالظلم؟ …
وَالْأولَى الحذر من الدّين، والأغلب أَنه لَا يكَاد يُؤْخَذ إِلَّا بِفُضُول الْعَيْش ..” انتهى من “كشف المشكل من حديث الصحيحين” (2/150) .
ثانيا :
من استدان في حق ، وهو ينوي الوفاء :
فإن كان عنده وفاء دينه ، لكنه مات قبل محله ، أو لم يتمكن من أدائه ، فأوصى ورثته بأداء دينه : فقد أدى ما عليه .
فإن لم يكن عنده وفاء دينه ، وكان قد عزم على أدائه ، فهو في محل الرجاء من الله أن يحمل عنه دينه ، ويؤديه لصاحبه :
روى أحمد (24455) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ حُمِّلَ مِنْ أُمَّتِي دَيْنًا، ثُمَّ جَهِدَ فِي قَضَائِهِ، فَمَاتَ وَلَمْ يَقْضِهِ، فَأَنَا وَلِيُّهُ )
وصححه الألباني في “صحيح الترغيب” (1800)
وروى البخاري (2387) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ )
وروى الطبراني في “المعجم الكبير” (1049) عَنْ مَيْمُونَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( مَنِ ادَّانَ دَيْنًا يَنْوِي قَضَاءَهُ أَدَّى الله عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) صححه الألباني في “صحيح الجامع” (5986)
قال القاري رحمه الله :
” (أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ) : أَيْ: أَعَانَهُ عَلَى أَدَائِهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ أَرْضَى خِصْمَهُ فِي الْعُقْبَى ” انتهى .
“مرقاة المفاتيح” (5/ 1957)
وروى الترمذي (1078) عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( نَفْسُ المُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ ) صححه الألباني في “صحيح الترمذي”
قال الشوكاني رحمه الله :
” فِيهِ الْحَثُّ لِلْوَرَثَةِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ، وَالْإِخْبَارُ لَهُمْ بِأَنَّ نَفْسَهُ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ، وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِمَنْ لَهُ مَالٌ يُقْضَى مِنْهُ دَيْنُهُ ، وَأَمَّا مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَمَاتَ عَازِمًا عَلَى الْقَضَاءِ فَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْضِي عَنْهُ ” انتهى من “نيل الأوطار” (4/ 30)
راجع لتمام الفائدة جواب السؤال رقم : (118124) .
ثالثا :
الإفلاس لا يسقط به الدين ، وإنما يبقى الدين في ذمته حتى يتمكن من سداده ، أو يسدده عنه غيره ، أو يسقطه عنه صاحبه .
فإذا قامت الحكومة بالحجز على ممتلكاتك مقابل الدين ، فلم يف ذلك به ، فأسقطته عنك ، فلا يخلو الأمر من حالتين :
الأولى : أن يكون هذا الدين لمعين فأسقطته عنك القوانين الوضعية لثبوت الإفلاس ، فهذا باق في الذمة لا يسقط ، وإن حكمت به المحكمة .
وينظر جواب السؤال رقم : (127591) .
الثانية : أن يكون هذا الدين للبنك أو الحكومة ، فلما تم الحجز ولم يف بالدين أسقطت المتبقي برضا وطيب نفس ، للعجز عنه ، فهنا لا شيء عليك ؛ لأن صاحب الدين قد تنازل عن بقيته .
فإن كان التنازل عن غير رضا ، إنما هو إمضاء لقوانين تلك البلاد فالدين باق في الذمة يجب سداده عند القدرة ، أو الوصية بسداده ، إلا عند العجز التام فإذا كان بحق فإن الله يؤديه عنك كما تقدم ، ولا شيء عليك .
والواقع أن تحقق الرضا في مثل ذلك متعسر ، أو متعذر ، فالدين هنا ليس حقا لمعين ، يمكن رضاه ، ومسامحته ، بل هو حق لجهة ، لا يكاد يطرأ للقائم عليها : قضية المسامحة من عدمها ، وإنما الغالب في مثل ذلك : العمل بالقانون العام الذي تخضع له الجهة الدائنة ، ولذلك لا يمكن القائم على البنك ونحوه أن يسقط الدين عن المدين ، وإن كان راغبا في ذلك ، إلا إذا كان هناك قانون يسمح بمثل ذلك الإسقاط .
لكن إن كان الدين للحكومة مباشرة ، أو لجهة مملوكة للحكومة ، ومات صاحبه وليس عنده أداء له : فأسقطته الحكومة ، فإنه يسقط عن صاحبه ، ولا يحلقه به إثم ولا تقصير ؛ لأن هذا واجب له على الحكومة : أن تحمل عنه ، وتؤدي دين المعسر من المال العام ؛ فكيف إذا كان الدين لها مباشرة .
روى البخاري (8/150) ومسلم (1619) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَعَلَيْنَا قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
” وَهَلْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ أَوْ يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ بَعْدَهُ وَالرَّاجِحُ الِاسْتِمْرَارُ لَكِنَّ وُجُوبَ الْوَفَاءِ إِنَّمَا هُوَ من مَال الْمصَالح” انتهى من “فتح الباري” (12/10) ، وينظر : “نيل الأوطار” (4/31) .
والله تعالى أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة