عن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَيْرُكُمْ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ) رواه البخاري ومسلم.
والحديث الآخر من رواية الإمام مسلم عن زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا ) .
أسئلتي هي :
– ذكر في الحديث الأول في معرض الذم قوماً يشهدون ولا يُستشهدون ، ثم في الحديث الثاني ذكر أن خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها ، فكيف نوفّق بين الحديثين ؟
– ما معنى قوله : يظهر فيهم السِّمَن ؟
– روي عن إبراهيم النخعي أنه قال : كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار ، فما معنى هذه العبارة ؟
الجمع بين حديث ذم الذين يشهدون ولا يُستشهدون وحديث ( خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها )
السؤال: 199487
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
نعم ، هذان الحديثان قد يبدو عند النظر إليهما لأول وهلة أن بينهما شيئا من التعارض ، غير أنه عند التأمل نجد أنه لا تعارض بينهما ، وقد وفَّق العلماء بينهما ، فحملوا حديث الذم على حال يستحق صاحبها الذم ، وحملوا حديث المدح على حال أخرى يستحق صاحبها المدح .
فحديث عمران بن حصين رضي الله عنه : (وَيَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ ) المراد به قوم يستهينون بأمر الشهادة ولا يبالون بها ، فمنهم من يشهد بالزور ، ومنهم من يشهد وهو ليس أهلا للشهادة ، بأن يكون كثير النسيان والعفلة ولا يتثبت في الأمور ، ومنهم من يشهد قبل أن تطلب منه الشهادة ، وصاحب الحق يعلم بأن هذا الشخص يمكن أن يشهد له ، ولكنه لم يطلب منه الشهادة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ” فتح الباري ” (5/261) :
” قَالَ اِبْن اَلْجَوْزِيِّ : اَلْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَرَّعُونَ وَيَسْتَهِينُونَ بِأَمْرِ اَلشَّهَادَة وَالْيَمِين ” انتهى .
أما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ : ( خَيْرِ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا ) فالمراد به أن يشهد الإنسان شهادة حق وهو متثبت منها ، وأهل لها ، وصاحب الحق لم يعلم بهذه الشهادة ، فلولا هذه الشهادة التي لم يعلم بها صاحب الحق ، لضاع الحق عليه .
فهؤلاء يسارعون بالشهادة لإقامة الحق والعدل ، طاعة لله تعالى ، ومحبة للخير ، من غير أن يطلب الشهادة منهم أحد .
قال النووي رحمه الله :
” ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قبل أن يسألها ) وَفِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَأْوِيلَانِ أَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا : تَأْوِيلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِإِنْسَانٍ بِحَقٍّ وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ شَاهِدٌ فَيَأْتِي إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِأَنَّهُ شَاهِدٌ لَهُ …. ويَلْزَمُ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِإِنْسَانٍ لَا يَعْلَمُهَا أَنْ يُعْلِمَهُ إِيَّاهَا لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ لَهُ … قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُنَاقَضَةٌ لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي ذَمِّ مَنْ يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ ) وَقَدْ تَأَوَّلَ الْعُلَمَاءُ هَذَا تَأْوِيلَاتٍ أَصَحُّهَا : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ مَعَهُ شَهَادَةٌ لِآدَمِيٍّ عَالِمٍ بِهَا فَيَأْتِي فَيَشْهَدُ بِهَا قَبْلَ أَنْ تُطْلَبَ مِنْهُ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى شَاهِدِ الزُّورِ فَيَشْهَدُ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ وَلَمْ يُسْتَشْهَدْ ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يَنْتَصِبُ شَاهِدًا وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ” انتهى من ” شرح صحيح مسلم ” (12/17) .
وقال النووي أيضا :
” قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا) هَذَا الْحَدِيثُ فِي ظَاهِرِهِ مُخَالَفَةٌ لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ (خَيْرُ الشُّهُودِ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا) قَالَ الْعُلَمَاءُ : الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الذَّمَّ فِي ذَلِكَ لِمَنْ بَادَرَ بِالشَّهَادَةِ فِي حق الآدمي هو عالم بها قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهَا صَاحِبُهَا ، وَأَمَّا الْمَدْحُ فَهُوَ لِمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةُ الْآدَمِيِّ وَلَا يَعْلَمُ بها صاحبها فيخبره بها ليستشهد بِهَا عِنْدَ الْقَاضِي إِنْ أَرَادَ… هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَمَالِكٍ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ الصَّوَابُ ” انتهى من ” شرح صحيح مسلم ” (16/87) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الجمع بين الحديثين :
” أَجَاب العلماء بِأَجْوِبَةٍ أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِحَدِيثِ زَيْدٍ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لِإِنْسَانٍ بِحَقٍّ لَا يَعْلَمُ بِهَا صَاحِبُهَا فَيَأْتِي إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِهَا ، أَوْ يَمُوتُ صَاحِبُهَا الْعَالِمُ بِهَا وَيَخْلُفُ وَرَثَةً فَيَأْتِي الشَّاهِدُ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى مَنْ يَتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فَيُعْلِمُهُمْ بِذَلِكَ ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ” انتهىمن “فتح الباري ” (5/260) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” جمع بعض العلماء بينهما بأن المراد بحديث زيد من يشهد بحق لا يعلمه المشهود له ، وجمع بعض العلماء بأن المراد بحديث زيد: من يشهد بشيء من حقوق الله تعالى؛ لأن حقوق الله تعالى ليس لها مطالب ، فيؤدي الشهادة من غير أن يسألها، فيكون المراد بهم رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوهم .
وجمع بعضهم بأن المراد بحديث زيد بن خالد أنه كناية عن السرعة بأداء الشهادة ، فكأنه لشدة إسراعه يؤديها قبل أن يسألها ” .
انتهى من “مجموع فتاوى ورسائل العثيمين” (10/ 1054-1055) .
وانظر للاستزادة إجابة السؤال رقم : (145054) .
ثانيا :
أما قوله صلى الله عليه وسلم : ( ويظهر فيهم السمن ) يعني : أن هؤلاء يبالغون في الاعتناء بأنواع الطعام والشراب والترف حتى تزداد أجسامهم سمنة من الترف والنعيم الذي هم فيه ، فاهتمامهم بالأجسام وشهواتها ولذاتها وليس اهتمامهم بالعقول والقلوب .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” هذا هو الوصف الرابع لهم ، كثرة الشحم واللحم ، وهذا الحديث مشكل ؛ لأن ظهور السمن ليس باختيار الإنسان فكيف يكون صفة ذم ؟
قال أهل العلم: المراد أن هؤلاء يعتنون بأسباب السمن من المطاعم والمشارب والترف ، فيكون همهم إصلاح أبدانهم وتسمينها.
أما السمن الذي لا اختيار للإنسان فيه ، فلا يذم عليه ، كما لا يذم الإنسان على كونه طويلا أو قصيرا أو أسود أو أبيض ، لكن يذم على شيء يكون هو السبب فيه ” .
انتهى من “مجموع فتاوى ورسائل العثيمين” (10/ 1056) .
وانظر للاستزادة في شرح هذا الحديث إجابة السؤال رقم : (137177) .
ثالثا :
أما قول إِبْرَاهِيم النخعي رحمه الله : ( كَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى اَلشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ ) قيل : المراد بالشهادة والعهد هنا : الحلف ، بأن يقول مثلا : أشهد بالله ، وعليّ عهد الله ، أو أعاهد الله على كذا …
وهذا الكلمات هي صيغ من صيغ اليمين ، وهي كلمات جائزة ليس فيها محظور شرعي ، غير أنهم كانوا يضربونهم عليها حتى لا يتساهل أحد فيها ، ويكثر منها بلا داعٍ ، فإن الإكثار من اليمن بالله مكروه مذموم .
قال الحافظ ابن حجر : ” قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ فِي آخِرِ حَدِيث ابن مَسْعُودٍ : ( كَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ ) أَيْ : قَوْلِ الرَّجُلِ أَشْهَدُ بِاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا كَذَا عَلَى مَعْنَى الْحَلِفِ ، فَكُرِهَ ذَلِكَ كَمَا كُرِهَ الْإِكْثَارُ مِنَ الْحَلِفِ ، وَالْيَمِينُ قَدْ تُسَمَّى شَهَادَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( فشهادة أحدهم)” انتهى من ” فتح الباري ” (5/260) .
فهذا الضرب ضرب للتأديب والتعليم والتربية ، حتى يتربى المسلم من صغره على تعظيم الحلف بالله تعالى.
قال الحافظ رحمه الله :
” قَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد اَلْبَرّ : مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ اَلنَّهْيُ عَنْ مُبَادَرَةِ اَلرَّجُلِ بِقَوْلِهِ : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ وَعَلى عَهْد اَللَّهِ لَقَدْ كَانَ كَذَا وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا كَانُوا يَضْرِبُونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا يَصِيرَ لَهُمْ بِهِ عَادَةٌ فَيَحْلِفُوا فِي كُلِّ مَا يَصْلُحُ وَمَا لَا يَصْلُحُ .
قُلْت (ابن حجر) : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اَلْأَمْرُ فِي اَلشَّهَادَةِ عَلَى مَا قَالَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اَلْمُرَادُ اَلنَّهْيَ عَنْ تَعَاطِي اَلشَّهَادَات وَالتَّصَدِّي لَهَا لِمَا فِي تَحَمُّلِهَا مِنْ اَلْحَرَجِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ أَدَائِهَا ; لِأَنَّ اَلْإِنْسَانَ مُعَرَّضٌ لِلنِّسْيَانِ وَالسَّهْوِ وَلَا سِيَّمَا وَهُمْ إِذْ ذَاكَ غَالِبًا لَا يَكْتُبُونَ” انتهى من “فتح الباري ” (5/261) .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة