كيف أفهم ما يؤيد ربنا من الآيات تشريعيا : قال الله تعالى : ( فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) (يوسف 28) أريد أعرف ( إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) هو على سبيل نقل الأخبار فقط ، أو النقل والتأييد ؟
الاستدلال بما حكاه القرآن من أقوال في قصص السابقين
السؤال: 211800
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
بداية لا بد أن ننبه إلى أن الآية الكريمة ( إن كيدكن عظيم ) ليست في مقام التشريع ، ولا تحمل حكما شرعيا ، وسواء قلنا إن المقام مقام إخبار فقط ، أو هو مقام إخبار وإقرار .
وإنما وردت في سياق تبين عزيزِ مصر أن ما وقع ليوسف في قصره ، إنما وقع من كيد النساء ، وحيلتهن في قلب الحقائق ، وإلقاء التهم على الآخرين ، فحكى الله عز وجل قوله : ( فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) يوسف/28.
روى ابن أبي حاتم في ” التفسير ” (7/2130) عن محمد بن إسحاق قال :
” لما رأى أطيفير [اسم العزيز] قميصه قُد من دبر ، عرف أنه من كيدها ، قال : ( إنه من كيدكن ، إن كيدكن عظيم )” انتهى . وانظر ” جامع البيان ” (16/59) .
ومحل الشاهد في مثل هذه المواقف ينظر فيه إلى الموقف المحكي ، أو الكلام المروي ؛ فإن وجد فيه رد هذا الكلام المحكي ، وإبطاله : فأمره واضح ؛ وإلا ، فلا بد أن يوجد في القرائن والسياق ما يستدل به على رده ، إن كان مردودا .
فإن لم يوجد رد الكلام المحكي ، لا تصريحا ، ولا باعتبار سياق الكلام وقرائنه ، فذلك دليل على صحة الكلام المحكي ، وأنه لا مناقضة فيه للمشروع .
وإن كان “الاحتجاج” بمثل هذا الكلام ، له مقام آخر .
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله :
” كل حكاية وقعت في القرآن ؛ فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها – وهو الأكثر – رد لها ، أو لا:
فإن وقع رد ؛ فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه .
وإن لم يقع معها رد ؛ فذلك دليل صحة المحكي وصدقه .
أما الأول فظاهر ، ولا يحتاج إلى برهان ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : ( إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ) [الأنعام: 91] فأعقب بقوله : ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ) الآية [الأنعام: 91] .
وقال تعالى: ( وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ) [الفرقان: 4] فرد عليهم بقوله : ( فقد جاءوا ظلما وزورا ) [الفرقان: 4] إلى آخر ما هنالك . ومن قرأ القرآن وأحضره في ذهنه ، عرف هذا بيسر .
وأما الثاني ؛ فظاهر أيضا ، ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها ، فإن القرآن سمي فرقانا ، وهدى ، وبرهانا ، وبيانا ، وتبيانا لكل شيء ، وهو حجة الله على الخلق على الجملة والتفصيل والإطلاق والعموم ، وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق ، ثم لا ينبه عليه .
ومن أمثلة هذا القسم جميع ما حكي عن المتقدمين من الأمم السالفة مما كان حقا ؛ كحكايته عن الأنبياء والأولياء ، ومنه قصة ذي القرنين ، وقصة الخضر مع موسى عليه السلام ، وقصة أصحاب الكهف ، وأشباه ذلك .
ولاطراد هذا الأصل اعتمده النظار ؛ فقد استدل على أن أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم ، بأن الله تعالى لما حكى من قولهم أنهم : ( ثلاثة رابعهم كلبهم ) [الكهف: 22] ، وأنهم : ( خمسة سادسهم كلبهم ) [الكهف: 22] ، أعقب ذلك بقوله : ( رجما بالغيب ) [الكهف: 22] ؛ أي : ليس لهم دليل ولا علم غير اتباع الظن ، ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئا . ولما حكى قولهم : ( سبعة وثامنهم كلبهم ) [الكهف: 22] ؛ لم يتبعه بإبطال ، بل قال : ( قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل ) [الكهف: 22] ؛ دل المساق على صحته دون القولين الأولين.
ومن تتبع مجاري الحكايات في القرآن عرف مداخلها ، وما هو منها حق مما هو باطل .
وقال تعالى : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث … ) إلى قوله : ( وكلا آتينا حكما وعلما ) [الأنبياء: 78] ؛ فقوله : ( ففهمناها سليمان ) [الأنبياء: 79] تقرير لإصابته عليه السلام في ذلك الحكم ، وإيماء إلى خلاف ذلك في داود عليه السلام ، لكن لما كان المجتهد معذورا مأجورا بعد بذله الوسع قال : ( وكلا آتينا حكما وعلما ) [الأنبياء: 79] ، وهذا من البيان الخفي فيما نحن فيه .
قال الحسن : والله لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين ؛ لرأيت أن القضاة قد هلكوا ، فإنه أثنى على هذا بعلمه ، وعذر هذا باجتهاده .
والنمط هنا يتسع ، ويكفي منه ما ذكر ، وبالله التوفيق ” .
انتهى باختصار من ” الموافقات ” (4/158-166).
ولهذا قال الإمام ابن كثير رحمه الله في الآية التي ذكرت عدة “أصحاب الكهف” :
” فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَدَبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَتَعْلِيمِ مَا يَنْبَغِي فِي مِثْلِ هَذَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ، ضَعَّفَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثِ ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ إِذْ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَرَدَّهُ كَمَا رَدَّهُمَا، ثُمَّ أَرْشَدَ عَلَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى عِدَّتِهِمْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ ، فَقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ فَإِنَّهُ مَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إِلَّا قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ ، مِمَّنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا أَيْ: لَا تُجْهِدْ نَفْسَكَ فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَلَا تَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا رَجْمَ الْغَيْبِ. فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ : أَنْ تَسْتَوْعِبَ الْأَقْوَالَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ ، وَأَنْ تُنَبِّهَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَتُبْطِلَ الْبَاطِلَ ، وَتَذْكُرَ فَائِدَةَ الْخِلَافِ وَثَمَرَتَهُ ؛ لِئَلَّا يَطُولَ الْنِزَاعُ وَالْخِلَافُ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ ، فَتَشْتَغِلُ بِهِ عَنِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ ، فَأَمَّا مَنْ حَكَى خِلَافًا فِي مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِيهَا فَهُوَ نَاقِصٌ ، إِذْ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِي الَّذِي تَرَكَهُ ، أَوْ يَحْكِي الْخِلَافَ وَيُطْلِقُهُ وَلَا يُنَبِّهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ، فَهُوَ نَاقِصٌ أَيْضًا. فَإِنْ صَحَّحَ غَيْرَ الصَّحِيحِ عَامِدًا فَقَدْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ، أَوْ جَاهِلًا فَقَدْ أَخْطَأَ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَصَبَ الْخِلَافَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ ، أَوْ حَكَى أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً لَفْظًا وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ مَعْنًى، فَقَدْ ضَيَّعَ الزَّمَانَ، وَتَكَثَّرَ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، فَهُوَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.” انتهى، من “تفسير ابن كثير” (1/9).
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” هنا قاعدة وهي : إذا جاء في النصوص ذكر أشياء ، فأنكر بعضها ، وسكت عن بعض ؛ دل على أن ما لم ينكر فهو حق ، مثال ذلك قوله تعالى : ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) [الأعراف: 28] ، فأنكر قولهم : ( وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ) ، وسكت عن قولهم: ( وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا ) ؛ فدل على أنها حق ، ومثلها عدد أصحاب الكهف ، حيث قال عن قول : ( ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ )، وسكت عن قول : ( سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) [الكهف:22] ” .
انتهى باختصار من ” مجموع فتاوى ورسائل العثيمين ” (10/ 1099) .
ولأجل ما تقرر من مراعاة السياق ، وفهم ما هو مقرر مقبول ، مما هو مردود مرذول ، قال القرافي رحمه الله : ” وقال بعض العلماء : كُلُّ قصةٍ مذكورةٍ في كتاب الله تعالى فالمراد بذكرها: الانزجارُ عما في تلك القصة من المفاسد التي لابَسَها أولئك الرَّهْط ، والأمر بتلك المصالح التي لابسها المحكي عنه انتهى من ” نفائس الأصول ” (9/3832).
وليست هذه المسألة هي ذاتها مسألة ” شرع من قبلنا ” هل هو شرع لنا أم لا ، وذلك أن قول عزيز مصر ( إن كيدكن عظيم ) ، ليس شرعا ولا عبادة ، ولم يكن هذا “العزيز” صاحب شرع ودين إلهي أصلا ، ولذلك لا يصح تنزيل كلام الأصوليين عن شرع من قبلنا تحت هذه المسألة .
وكلام الإمام الشاطبي رحمه الله الذي سبق نقله يتحدث عن هذه المسألة خصوصا ، مسألة القصص القرآني وضوابط الاستدلال به ، وقد عرض في وسطه لقضية ” شرع من قبلنا “، فعلق عليها الشيخ عبد الله دراز رحمه الله بقوله :
” هذا نوع آخر غير ما ذكر في صدر المسألة ؛ فإن الأول ليس من الشرائع ، وهذا من الشرائع ، وما في حكمها ، وما دخل عليها من تحريف ، وغير ذلك ” انتهى.
والحاصل مما سبق : أن قول عزيز مصر : ( إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم )، ورد في سياق القصص القرآني من غير نكير ولا إبطال ، وهو كلام مقبول في نفسه ، لكن في سياقه الخاص ، بمعنى أنه كان خطابا لنساء معينات حاضرات ، فوجه الكلام إليهن ، باعتبار ما فعلن وقلن ، فقال العزيز لهؤلاء النسوة : ( إن كيدكن عظيم ) ؛ نظرا لما فعلته امرأة العزيز من الحيلة للتخلص من فضيحتها ومعصيتها .
وهكذا يكون حال كل امرأة ، تحتال لتقلب الحق باطلا ، أو الباطل حقا ، فتتوسل بالحيلة والكيد ، لتغيير الحقائق ، وتعويض ما جبلت عليه من ضعف النفس .
يقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله – في معرض ذكر ما يستنبط من قوله تعالى : ( فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ )-: ” عظمة كيد النساء ، وذكره تعالى ذلك غير منكر له ، مع قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنكن لأنتن صواحب يوسف)” انتهى من ” الدرر السنية في الأجوبة النجدية ” (13/ 244).
وليس في هذا دليل على أن جميع نساء العالمين : كيدهن عظيم ، ولا أن جميع النساء يحتلن لقلب الحق باطلا ، وقلب الباطل حقا .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب