تنزيل
0 / 0

تشعر برفض عائلتها لها

السؤال: 212059

تَرَكَت أمي والدي قبل ولادتي ؛ لأنها لم ترد لي أن أتربي في بيت مليئ بالمشاحنات ، ونشأت في بلد غربي ، ووجدت نفسي غير قادرة على إيجاد موطىء قدم لي في خضم هذا المجتمع ، ودارت بي الحياة دورتها ، فتهت كثيراً ، وتمردت في سن العشرين ، وحاولت الانصهار مع من حولي من الجموع ، فتعبت ، وشعرت بالإقصاء ، ودرست ودرست وحصلت على الكثير من الشهادات ، ومع هذا لم أستطع الحصول على عمل ، وأصبحت موضع سخرية ومثار سُخط من الكل حتى زوج أمي ، وأصبح كثيرَ النقد لأمي ، ورأيتها تفقد ثقتها شيئاً فشيئاً ، وكثرت الخلافات بينهما ، فتَرَكَتْه عدة مرات ، فكان هو من يعود إليها ، إلى أن استسلمت في الأخير ، وهدء الجميع بتقادم الأعوام ، غير أن الأضرار بقيت هناك . ورزقت أمي بولد من زوجها ، وحاولت أن أقوي أواصر الإخاء بيني وبينه ، فلم أجد تحمساً من قبلهما ، ثم بعد ذلك عثرت على أبي وحاولت التعرف إليه ، فشك الجميع في دوافعي خصوصاً أنه ميسور الحال هناك في بلده ، ومؤخراً شجعتني أمي على إضافة اسم أبي الحقيقي إلى شهادة ميلادي ووثائقي ، ففعلت ، فانتهى بي الأمر إلى مشاكل جمّة . وأصبحت الآن امرأة شديدة الحساسية ، مفرطة في العاطفة ، تشعر بأن الحياة أثقلتها بالجراح ، وتركتني أعاني القلق والانطواء من الناس ، والمكوث في البيت طيلة الوقت إلا ما ندر . فما العمل ، وهل احتفظ باسم أبي أم لا ؟ إنه يسخر مني ومن مشاعري وتجاربي ، وأصبح الجميع يرفضني ، فلماذا ؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

لا بد أن ندرك جميعا أن العلاج دائما ينبع من الذات ، وينطلق من النفس ، هي القادرة على تحقيق " الطمأنينة " في حياتها ولو كانت وسط الابتلاء ، وهي المتسببة أيضا بالمرض والقلق ولو كانت تتقلب في النعيم ، وما دام هناك من الظروف الحياتية ، التي تفرض على المرء فرضا ، ولا يملك في كثير من الأحيان إزاءها شيئا من التغيير أو التحويل ؛ فليس أقل من العمل على تغيير نفسيته ومكنونه .
وأول ذلك يبدأ بإدراك أن المشاكل الحياتية ، والهموم المعاشية ، أنواع ودرجات ، فأعلاها – بحسب خبرتنا – تلك التي تكون الكلمة فيها للمرض الشديد ، أو الأَسْر والسجن ، أو الظلم والقهر والعدوان ، وأدناها تلك الهموم التي ترتبط بالمشاعر النفسية أكثر من الواقع الأليم ، كالشاب الذي يشعر بالإحباط بسبب بطالته ، أو الفتاة التي لم تتزوج ، أو الإنسان الذي لم يتأقلم مع بيئته ومجتمعه ، فهي في حقيقتها من أيسر ما يمكن أن يواجه المرء في حياته ، إذا هو أحسن التعامل معها ، وأصر على العلاج ، خاصة إذا ما قورنت تلك المعاناة النفسية بأنواع الابتلاء العظيمة التي نراها اليوم في بعض بلاد المسلمين .
فإذا أدركت معنا ما سبق عرفت أنه لا أنفع ولا أنجع من إشغال نفسك – بل إغراق نفسك – بالمشاغل النافعة ، والأعمال الصالحة المنتجة ، التي تعود عليك وعلى المجتمع بالخير في الدنيا والآخرة ، فتستثمرين جهدك في البحث عن عمل ملتزم ، ولو اقتضى منك الأمر الأيام كلها في البحث والتفتيش ، وتبحثين عن أنشطة المراكز الإسلامية القريبة ، فتلتزمين بحضورها والتفاعل معها ، خاصة منها ما يتعلق بحفظ القرآن الكريم وتعلمه ، وتنضوين أيضا في جمعيات العمل الخيري التي تقدم المساعدة للمحتاجين أو تقوم بأنشطة مجتمعية محلية ، كما لديك فرصة قوية في الانضمام إلى الدورات التدريبية ، للارتقاء أكثر في مهاراتك وقدراتك ، وغير ذلك الكثير الكثير من الأفكار التي لو استغرقت الأيام في محاولة استجماعها لبان لك منها الشيء الكثير ، وكلها أعمال تستغرق أعمارا طويلة لإنجازها ، فكيف إذا جمعت لها برنامجا خاصا ترتقين فيه بعباداتك بينك وبين الله ، كصيام التطوع – ولو ثلاثة أيام من كل شهر ، على أقل تقدير ، وقيام الليل ولو ركعتين في السحر ، والتسبيح والذكر لله سبحانه .
إنها لحياة جميلة أن يتفرغ المرء فيها لكل هذه الأشياء ، فيستغني بها عن الناس ، ويستمر في نجاحه وتقدمه ، إلى حين أن يجد الفرصة لإثبات كفاءته ، وتقديم مهارته ، ولو بعد سنوات طويلة ، فكم من علم يمكن أن يتعلمه المرء اليوم ، ولا يجد فرصة للعمل به إلا في آخر عمره ، فإن لم تتوفر الفرصة فقد أدينا ما علينا من واجب وقتنا وعمرنا ، وحسبنا أننا قضينا سفرنا إلى ربنا سبحانه ونحن في الحياة الصالحة ، والأعمال النافعة ، وكلها في موازين حسناتنا بإذن الله ، سواء منها العبادات الخاصة أم غيرها ، متى خلصت نية العبد فيها .
عن عبد الرحمن بن مهدي قال :
" لو قيل لحماد بن سلمة : إنك تموت غدا ! ما قدر أن يزيد في العمل شيئا ".
انتهى من " تهذيب الكمال " (7/265) .
فلو كلنا حاولنا أن نكون ذلك الرجل ، أو قريبا من ذلك ؛ فهل ترانا سنصاب بالقلق والاكتئاب !! أم هل ترانا سنكترث كثيرا لإقبال بعض الناس إلينا ، أو انصرافهم عنا !!
نعتقد أن العناية بهذا العلاج من أهم أسباب السعادة .
فكيف إذا قرأت شيئا من كلام العلماء عن مفاسد " كثرة الخلطة " بالناس ، وما تؤدي إليه العلاقات الكثيرة من أضرار على النفس والقلب والروح .
يقول ابن القيم رحمه الله :
" فأما ما تؤثره كثرة الخلطة : فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود ، يوجب له تشتتا وتفرقا ، وهما وغما ، وضعفا ، وحملا لما يعجز عن حمله من مؤونة قرناء السوء ، وإضاعة مصالحه ، والاشتغال عنها بهم وبأمورهم ، وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم ، فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة ؟
هذا ، وكم جلبت خلطة الناس من نقمة ، ودفعت من نعمة ، وأنزلت من محنة ، وعطلت من منحة ، وأحلت من رزية ، وأوقعت في بلية !
وهل آفة الناس إلا الناس !
وهل كان على أبي طالب عند الوفاة أضر من قرناء السوء ؟ لم يزالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمة واحدة توجب له سعادة الأبد …
والضابط النافع في أمر الخلطة أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة ، والأعياد والحج ، وتعلم العلم ، والجهاد ، والنصيحة .
ويعتزلهم في الشر ، وفضول المباحات .. . " .
انتهى من " مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين " (1/ 452-453) .

وأما عن أمر نسبك ؛ فلا تترددي في استمرار نسبتك إلى أبيك الحقيقي ، والحرص عليه كل الحرص ؛ فهذا هو الواجب عليك شرعا ، وليس أمرا تحسينيا ، ولا كماليا في حياتك ، بل نسبك الحقيقي : جزء منك ، يتعلق به أمر دينك ودنياك .
ونحن نرجو لك ، أنك متى حاولت أن تشغلي نفسك بالأمر النافع ، على ما سبق ذكره لك ، واجتناب الخلطة مع من لا تقربك خلطته من ربك ؛ نرجو لك أن تلمسي تغيرا جذريا في حياتك ونفسك ، واعلمي أن تغير النفس سبيل أكيد لانفعال ما حولك ومن حولك معك .
كما ننصحك بمراجعة مزيد من الاستشارات التي سبق تقديمها في موقعنا ، في الأرقام الآتية :
(47026) ، (129102) ، (178693) ، (100267) .
والله أعلم .

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعتم بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android