0 / 0

تجنب النسل المريض من المقاصد المشروعة

السؤال: 214158

أخبرني أحدهم أن هناك حديثاً يقول : إن الإسلام لا يشجع الأشخاص الذين يعانون من تاريخ طويل في الأمراض العقلية على إنجاب الأطفال ، وأن الحديث ينص أيضاً على تجنب مثل هذه العائلات لسبعة أجيال ، فما صحة هذا الأمر ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
الصحة الإنجابية : جانب مهم ، ينبغي اعتباره والنظر إليه للخاطبين ، كما أن مراعاة قضايا الصحة العامة ، والتوقي من البلاء ، وإزالة الضرر ، هي مقاصد معتبرة في الشرع بوجه عام . وقد دل على اعتبار ذلك ومراعاته في النظر : مجموع الأدلة الكثيرة ، والمتنوعة ، التي تحث على الصحة الوقائية ، كمثل قوله صلى الله عليه وسلم : (لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ ) رواه البخاري (5771) ، ومسلم (2221)، وقوله عليه الصلاة والسلام : ( فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ ) رواه البخاري (5707) ، وأيضا حديثه عليه الصلاة والسلام حين قال : ( إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا ) رواه البخاري (5728) ، ومسلم (2218) .

وقد ورد في السنة ما يدل على تأثير العامل الوراثي في انتقال الصفات ، ولو من أجيال بعيدة ، فقد ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : ” أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وُلِدَ لِي غُلاَمٌ أَسْوَدُ ، فَقَالَ : ( هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ ؟ ) ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : ( مَا أَلْوَانُهَا ؟ ) ، قَالَ : حُمْرٌ ، قَالَ : ( هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ ) ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : ( فَأَنَّى ذَلِكَ ؟ ) ، قَالَ : لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ ، قَالَ : ( فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ ) ” رواه البخاري (5305) ، ومسلم(1500).

فهذه الأدلة ، ونحوها ، مما يدل على أن الوقاية سلوك شرعي صحيح ، وردت السنة النبوية بالأمر به والحث عليه ، واعتباره في النظر ، من حيث الجملة ، وهو سلوك متغير ومتجدد بحسب ما يستجد للناس من علوم ، وبحسب ما يتغير في الزمان والمكان من وسائل الوقاية وأسباب الإصابة .

والوقاية من الأمراض الوراثية هي إحدى الصور التي تندرج في هذا المقصد الشرعي العام ، فقد أصبح الطب الحديث قادرا على التنبؤ بكثير من تلك الأمراض قبل الزواج ، من خلال الفحوص المخبرية الدقيقة للمورثات الجينية لكل من الرجل والمرأة ، والنظر في “التاريخ المرضي” للأسر .
وحين يتبين احتمال وقوع الإصابات الوراثية أو التشوهات الخلقية والعقلية ، فحينئذ تصبح المسؤولية متجهة إلى كل من الخاطبين ، كي يعيدا حساباتهما ، ويتخذا قرارهما في ضوء معطيات عديدة : منها صيانة النفس وإعفافها ، ومنها تجنب حصول الضرر لأحد الزوجين أو ذريتهما ، ومنها : مدى إمكان تحصيل المقاصد الشرعية ، من النسل ، والعفة ، من خلال اختيارات أخرى ، يتجنب فيها الطرفان ، أو أحدهما تلك الاحتمالية المذكورة على الذرية .
وهكذا ، يحتاج الأمر ، حين تحقق هذه الإشكالية الوراثية : إلى نوع من التأمل والتريث ، والدراسة المتعقلة لجوانب المشكلة .
سئل الشيخ ابن جبرين رحمه الله السؤال الآتي :
ما حكم إجراء الفحص الطبي للزوجين قبل الزواج ؟
فأجاب :
” لا بأس بذلك إذا خيف من مرض داخلي ، مما يؤثر على الصحة ، ويمنع من راحة الزوجين ، واستقرار الحياة والطمأنينة فيها ، فربما كان في أحدهما مس أو صرع ، أو مرض مزمن ولو سهل ، كربو أو سكر أو بلهارسيا أو روماتيزم ، وهكذا مرض العقم ، وعدم الإنجاب .
لكن إذا كان ظاهر الزوجين السلامة ، والبيئة والمجتمع الذي هما به : لا توجد فيه هذه الأمراض ونحوها ، فالأصل أن لا مرض ولا خوف ، فلا حاجة إلى فحص طبي لكل زوجين ، لكن إذا قامت قرائن ، وخيف من وجود مرض خفي ، وطلب أحد الزوجين أو الأولياء الكشف : لزمه ذلك ، حتى لا يحصل بعد العقد خلاف ونزاع ” .
انتهى من ” فتاوى الشيخ ابن جبرين ” (21/ 17، بترقيم الشاملة آليا) .
ثانيا :
لم نقف على حديث يحذر من انتقال العلة بين الأجيال حتى الجيل السابع ، وإنما هو مثل معروف بين الناس يقولون فيه : ” العرق يمد لسابع جد “، وإنما صح عندنا الحديث السابق ( نزعه عرق ).
وأما حديث ( العرق دساس ) : فقد روي عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ – وَهُوَ يُوصِي رَجُلًا – يَقُولُ : ( يَا أَبَا فُلَانٍ : أَقِلَّ مِنَ الدَّيْنِ تَعِشْ حُرًّا ، وَأَقِلَّ مِنَ الذُّنُوبِ يَهُنْ عَلَيْكَ الْمَوْتُ ، وَانْظُرْ فِي أَيِّ نِصَابٍ تَضَعُ وَلَدَكَ ؛ فَإِنَّ الْعِرْقَ دَسَّاسٌ ) .
والحديث : رواه ابن الأعرابي في ” معجمه ” (2/501) ، وهو حديث ضعيف جدا بسبب محمد بن عبد الرحمن البيلماني ، ترجمته في ” تهذيب التهذيب ” (9/293)، قال فيه ابن حبان : ” حدث عن أبيه بنسخة ، شبيها بمائتي حديث ، كلها موضوعة ، لا يجوز الاحتجاج به ، ولا ذكره في الكتب إلا على جهة التعجب ” انتهى من ” المجروحين ” (2/264) .
وهكذا حكم على الحديث بالضعف الشديد : الشيخ الألباني رحمه الله في ” سلسلة الأحاديث الضعيفة ” (5337).
وقد وردت له شواهد أخرى ، عن جماعة من الصحابة ، لكنها كلها طرق ضعيفة ، أو شديدة الضعف ، أو موضوعة .
وكذلك حديث عائشة رضي الله عنها أنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ ، وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ ، وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ ) رواه ابن ماجه (1968) وغيره من طريق ( اثني عشر من التلاميذ ) أخذوه عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا .

وهؤلاء الرواة عن هشام كلهم من الضعفاء والمتروكين ، إلا أحدهم اسمه الحكم بن هشام ، ثقة ، ولكنه أدخل بينه وبين هشام بن عروة راويا ضعيفا ، فقال عن مندل بن علي ، عن هشام بن عروة ، فشيخه في الرواية مندل ، وهو متفق على ضعفه ، حتى قال فيه ابن حبان : ” كان ممن يرفع المراسيل ويسند الموقوفات من سوء حفظه ، فاستحق الترك ” .
ينظر ” تهذيب التهذيب ” (10/299)
وهذه العلة غفل عنها محققو ” سنن ابن ماجه ” في طبعة ” دار الرسالة العالمية ” (3/142) فحسنوا الحديث بطرقه وشواهده ، وكان تحسينهم متكئا على متابعة الحكم بن هشام هذا ، وكذلك وقع للشيخ الألباني في ” السلسلة الصحيحة ” (1067) .
والصواب أن متابعته منكرة ليست صحيحة ؛ لأنها ترجع إلى مندل بن علي .
ولهذا فقد تواردت عبارات الأئمة والنقاد على رد هذا الحديث ، والحكم ببطلانه ، بل ونفي أصله ، وعدوا رفعه ووصله خطأ منكرا .
قال أبو حاتم :
” ليس له أصل…هذا حديث منكر….هذا حديث باطل ” انتهى من ” علل الحديث ” (3/720).
وقال أبو زرعة :
” لا يصح هذا الحديث ” انتهى من ” علل الحديث ” (4/18) .
وقال ابن حبان :
” أصل الحديث مرسل ، ورفعه باطل ” انتهى من ” المجروحين ” (1/225) .
وقال ابن عبد البر :
” هذا الحديث منكر باطل لا أصل له ” انتهى من ” التمهيد ” (19/165) .
وقال الدارقطني :
” رواه هشام بن زياد ، عن هشام ، عن أبيه ، مرسلا ، وهو أشبه بالصواب ” .
انتهى من ” العلل ” (15/61) .
وقال الخطيب البغدادي :
” كل طرقه واهية ” انتهى من ” تاريخ بغداد ” (2/80).
وقال ابن الجوزي :
” هذه الأحاديث لا تصح ” انتهى من ” العلل المتناهية ” (2/124)
وقال أيضا :
” ليس له أصل ” انتهى من ” الضعفاء والمتروكين ” (1/182) .
وقال الزيلعي :
” روي من طرق عديدة كلها ضعيفة ” انتهى من ” نصب الراية ” (3/196) .
وقال الذهبي :
” أصل الحديث مرسل ” انتهى من ” ميزان الاعتدال ” (1/ 439) .
وضعفه العراقي في ” تخريج أحاديث الإحياء ” (1/479) .
وقال ابن حجر رحمه الله :
” مداره على أناس ضعفاء ” انتهى من ” التلخيص الحبير ” (3/309) .
ينظر تخريج الحديث بتوسع في ” تحقيق جزء من علل ابن أبي حاتم ” للدكتور علي الصياح (2/475-486) .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android