0 / 0

مفاوضات تيمورلنك مع ابن مفلح الحنبلي الابن ، وليس الأب صاحب ابن تيمية

السؤال: 214875

أنا طالب علم من العراق ، أدرس الفقه الحنبلي ، حدثني أحدهم أنه قرأ أن ابن مفلح الحنبلي – رحمه الله – اصطف مع تيمورلنك في غزو التتار لبلاد الشام .
فهل هذا صحيح ؟ وأنا بصراحة صارت عندي صدمة ، فما القصة ، وهل أَثَّر هذا على ابن مفلح من ناحية علمه ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

حادثة سقوط دمشق في يد القائد المغولي ( تيمورلنك ) من آسف الحوادث التاريخية ؛ لما وقع فيها من قتل وتدمير ونهب لإحدى أعظم عواصم الأمة الإسلامية ( دمشق ) ، وقد وقع ذلك سنة (803هـ) ، حتى قال المقريزي رحمه الله (ت845هـ) : ” وطرق بلاد الشام فيها الأمير تيمورلنك ، فخرّبها كلها وحرّقها ، وعمها بالقتل والنهب والأسر ، حتى فُقد منها جميع أنواع الحيوانات ، وتمزق أهلها في جميع أقطار الأرض ، ثم دهمها بعد رحيله عنها جراد لم يترك بها خضراء ، فاشتدّ بها الغلاء على من تراجع إليها من أهلها ، وشنع موتهم ، واستمرّت بها مع ذلك الفتن ” انتهى من ” المواعظ والاعتبار ” (3/421) .
وقد كان لاسم ابن مفلح حضور ظاهر في قصة سقوط ( دمشق ) ، ولكن ليس هو شمس الدين محمد بن مفلح الفقيه الحنبلي المعروف تلميذ ابن تيمية ، وصاحب الكتب المعتمدة في المذهب ككتاب ” الفروع “، وكتاب ” الآداب الشرعية “، وغيرها ، فهذا قد توفي قبل المحنة أصلا ، توفي سنة (763هـ)، ولم يدرك تيمورلنك ولا سقوط دمشق ، ينظر ترجمته في ” أعيان العصر ” للصفدي (5/269) .
بل المقصود هو ابنه قاضي القضاة ، تقي الدين ، إبراهيم بن محمد بن مفلح الحنبلي ( 751 – 803هـ)، جاء في ترجمته في ” المنهل الصافي ” (1/165) ليوسف بن تغري بردي (ت874هـ) : ” كان إماما فقيها عالما فاضلا دينا ، ولي قضاة دمشق ، وحمدت سيرته إلى أن امتحن في واقعة تيمورلنك ، ومات في شعبان سنة ثلاث وثمانمائة ” انتهى .
ومن يطالع تلك المحنة التي تولى أمرها إبراهيم بن محمد بن مفلح ، أدرك ما في حوادث التاريخ من عظة وعبرة ، من جهة الخيانة التي تعرضت لها دمشق بسبب رجوع العسكر المصري إلى القاهرة قبل اقتحام تيمورلنك لدمشق ، بدعوى الخوف من حدوث انقلاب هناك ، وفيها عظة عظيمة في مقدار الخديعة العظيمة التي تعرض لها قاضي القضاة تقي الدين ابن مفلح ، فقد اطمأن طمأنينة بالغة لتيمورلنك وعهده بالسلم في دخول المدينة ، وقد كان الأولى أن يستفاد الدرس من سيرة ذلك الجبار الذي ما زالت آثار كارثته في مدينة حلب لم تجف بعد ، فلم يكن من المعقول أن يطمئن أهل دمشق إلى وعده وعهده ، ولكننا في الوقت نفسه نلتمس لقاضي القضاة العذر ، فنحن إنما نقدر الظرف بقدر ما اطلعنا من أخبار في كتب التاريخ ، وهي لا تنقل كل شيء ، وقد كانت المخاوف العظيمة على المدينة هي الدافع الأول لإبراهيم بن مفلح للقبول بذلك الصلح والعهد ، وليس التواطؤ مع تيمورلنك ، ولا الخيانة لأمته ودينه ، فرجا أن يكف الله بأس الطاغية بالصلح والسلم ولو على مال ، كما صالح النبي صلى الله عليه وسلم كفار قريش في الحديبية ، ولكن لم يكن اجتهاده صوابا ، نسأل الله تعالى أن يعفو عنا وعنه ، وأن يرحم جميع من قضى في تلك الواقعة ، وفي غيرها من الكوارث التي تعرضت لها الأمة على يد أعدائها .
ونحن ننقل هنا ما حصل في تلك السنة ، من كتاب ” النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ” (12/ 238-246) لأبي المحاسن يوسف بن تغري بردي ، فقد كان قريب العهد من تلك الواقعة ، وتحدث عنها في كتابه هذا بالتفصيل ، فقال رحمه الله :
” لمّا أصبحوا يوم الجمعة وقد فقدوا السلطان والأمراء والنائب غلّقوا أبواب دمشق ، وركبوا أسوار البلد ، ونادوا بالجهاد ، فتهيّأ أهل دمشق للقتال ، وزحف عليهم تيمور بعساكره ، فقاتله الدمشقيون من أعلى السور أشدّ قتال ، وردّوهم عن السور والخندق ، وأسروا منهم جماعة ممن كان اقتحم باب دمشق ، وأخذوا من خيولهم عدّة كبيرة ، وقتلوا منهم نحو الألف ، وأدخلوا رؤوسهم إلى المدينة ، وصار أمرهم في زيادة ، فأعيا تيمور أمرهم ، وعلم أن الأمر يطول عليه ، فأخذ في مخادعتهم ، وعمل الحيلة في أخذ دمشق منهم .
وبينما أهل دمشق في أشدّ ما يكون من القتال والاجتهاد في تحصين بلدهم ، قدم عليهم رجلان من أصحاب تيمور من تحت السور ، وصاحا من بعد : الأمير يريد الصلح ، فابعثوا رجلا عاقلا حتى يحدّثه الأمير في ذلك .
قلت: هذا الذي كان أشار إليه الوالد عند استقراره بغزّة في نيابة دمشق ، وقوله : إن أهل دمشق عندهم قوّة لدفع تيمور عن دمشق ، وأن دمشق بلد كثيرة الميرة والرّزق ، وهي في الغاية من التحصين ، وأنه يتوجّه إليها ويقاتل بها تيمور ، فلم يسمع له أحد في ذلك ، فلعمري لو رأى من لا أعجبه كلام الوالد قتال أهل دمشق الآن ، وشدّة بأسهم ، وهم بغير نائب ، ولا مدبّر لأمرهم ، فكيف ذاك لو كان عندهم متولي أمرهم بمماليكه ، وأمراء دمشق وعساكرها ، بمن انضاف إليهم ، لكان يحق له الندم والاعتراف بالتقصير . انتهى .
ولما سمع أهل دمشق كلام أصحاب تيمور في الصلح وقع اختيارهم في إرسال قاضى القضاة تقي الدّين إبراهيم بن محمد بن مفلح الحنبلي ، فأرخي من سور دمشق إلى الأرض ، وتوجّه إلى تيمور ، واجتمع به ، وعاد إلى دمشق ، وقد خدعه تيمور بتنميق كلامه ، وتلطّف معه في القول ، وترفق له في الكلام ، وقال له : هذه بلدة الأنبياء والصحابة ، وقد أعتقتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة عنّي وعن أولادي ، ولولا حنقي من ( سودون ) نائب دمشق عند قتله لرسولي ما أتيتها ، وقد صار ( سودون ) المذكور في قبضتي وفي أسري ، وقد كان الغرض في مجيئي إلى هنا ، ولم يبق لي الآن غرض إلا العود ، ولكن لا بدّ من أخذ عادتي من التّقدمة من الطّقزات .
وكانت هذه عادته إذا أخذ مدينة صلحا يخرج إليه أهلها من كل نوع من أنواع المأكول والمشروب والدوابّ والملابس والتّحف تسعة ؛ يسمّون ذلك طقزات ، والطّقز باللّغة التركيّة : تسعة ، وهذه عادة ملوك التتار إلى يومنا هذا .
فلما صار ابن مفلح بدمشق شرع يخذّل الناس عن القتال ، ويثني على تيمور ودينه وحسن اعتقاده ثناء عظيما ، ويكفّ أهل دمشق عن قتاله ، فمال معه طائفة من الناس ، وخالفه طائفة أخرى ، وأبوا إلّا قتاله ، وباتوا ليلة السبت على ذلك ، وأصبحوا نهار السّبت وقد غلب رأى ابن مفلح على من خالفه ، وعزم على إتمام الصلح ، ونادى في الناس : إنه من خالف ذلك قتل وهدر دمه ؛ فكفّ الناس عن القتال .
وفى الحال قدم رسول تيمور إلى مدينة دمشق في طلب الطقزات المذكورة ، فبادر ابن مفلح ، واستدعى من القضاة والفقهاء والأعيان والتجار ، حمل ذلك كلّ أحد بحسب حاله ، فشرعوا في ذلك حتى كمل ، وساروا به إلى باب النصر ليخرجوا به إلى تيمور ، فمنعهم نائب قلعة دمشق من ذلك ، وهدّدهم بحريق المدينة عليهم إن فعلوا ذلك ، فلم يلتفتوا إلى قوله ، وقالوا له : أنت احكم على قلعتك ، ونحن نحكم على بلدنا ، وتركوا باب النصر وتوجهوا ، وأخرجوا الطقزات المذكورة من السور ، وتدلّى ابن مفلح من السور أيضا ومعه كثير من أعيان دمشق وغيرهم وساروا إلى مخيّم تيمور ، وباتوا به ليلة الأحد ، وعادوا بكرة الأحد ، وقد استقرّ تيمور بجماعة منهم في عدّة وظائف : ما بين قضاة القضاة ، والوزير ، ومستخرج الأموال ، ونحو ذلك ، معهم فرمان من تيمور لهم ، وهو ورقة فيها تسعة أسطر يتضمّن أمان أهل دمشق على أنفسهم وأهليهم خاصّة ؛ فقرئ الفرمان المذكور على منبر جامع بني أمية بدمشق ، وفتح من أبواب دمشق باب الصغير فقط ، وقدم أمير من أمراء تيمور ، جلس فيه ليحفظ البلد ممّن يعبر إليها من عساكر تيمور ، فمشى ذلك على الشاميّين وفرحوا به . وأكثر ابن مفلح ومن كان توجّه معه من أعيان دمشق الثّناء على تيمور وبثّ محاسنه وفضائله ، ودعا العامّة لطاعته وموالاته ، وحثّهم بأسرهم على جمع المال الّذي تقرّر لتيمور عليهم ، وهو ألف ألف دينار ، وفرض ذلك على الناس كلّهم ، فقاموا به من غير مشقّة لكثرة أموالهم ، فلمّا كمل المال حمله ابن مفلح إلى تيمور ووضعه بين يديه ، فلمّا عاينه غضب غضبا شديدا ، ولم يرض به ، وأمر ابن مفلح ومن معه أن يخرجوا عنه ، فأخرجوا من وجهه ، ووكّل بهم جماعة حتى التزموا بحمل ألف تومان ، والتومان عبارة عن عشرة آلاف دينار من الذّهب ، إلّا أنّ سعر الذهب عندهم يختلف ، وعلى كلّ حال فيكون جملة ذلك عشرة آلاف ألف دينار ، فالتزموا بها ، وعادوا إلى البلد ، وفرضوها ثانيا على الناس كلّها عن أجرة أملاكهم ثلاثة أشهر ، وألزموا كلّ إنسان من ذكر وأنثى حرّ وعبد بعشرة دراهم ، وألزم مباشر كلّ وقف بحمل مال له جرم ، فنزل بالناس باستخراج هذا منهم ثانيا بلاء عظيم ، وعوقب كثير منهم بالضّرب ، فغلت الأسعار ، وعزّ وجود الأقوات ، وبلغ المدّ القمح – وهو أربعة أقداح – إلى أربعين درهما فضّة ، وتعطّلت صلاة الجمعة من دمشق ، فلم تقم بها جمعة إلّا مرتين ، حتى دعي بها على منابر دمشق للسلطان محمود ، ولولي عهده ابن الأمير تيمورلنك ، وكان السلطان محمود مع تيمور آلة ، كون عادتهم لا يتسلطن عليهم إلّا من يكون من ذرّية الملوك . انتهى.
ثم قدم ( شاه ملك ) أحد أمراء تيمور إلى مدينة دمشق على أنه نائبها من قبل تيمور .
ثمّ بعد جمعتين منعوا من إقامة الجمعة بدمشق لكثرة غلبة أصحاب تيمور بدمشق ، كلّ ذلك ونائب القلعة ممتنع بقلعة دمشق ، وأعوان تيمور تحاصره أشدّ حصار ، حتى سلّمها بعد تسعة وعشرين يوما ، وقد رمى عليها بمدافع ومكاحل لا تدخل تحت حصر ، يكفيك أن التمريّة من عظم ما أعياهم أمر قلعة دمشق بنوا تجاه القلعة قلعة من خشب ، فعند فراغهم من بنائها وأرادوا طلوعها ليقاتلوا من أعلاها من هو بالقلعة ، رمى أهل قلعة دمشق نفطا فأحرقوها عن آخرها ، فأنشئوا قلعة ثانية أعظم من الأولى وطلعوا عليها وقاتلوا أهل القلعة .
هذا وليس بالقلعة المذكورة من المقاتلة إلّا نفر يسير دون الأربعين نفرا ، وطال عليهم الأمر ، ويئسوا من النّجدة ، وطلبوا الأمان ، وسلّموها بالأمان .
قلت : لا شلّت يداهم ! هؤلاء هم الرجال الشجعان . رحمهم الله تعالى .
ولما تكامل حصول المال الذي هو ألف تومان، أخذه ابن مفلح وحمله إلى تيمور؛ فقال تيمور لابن مفلح وأصحابه: هذا المال بحسابنا إنما هو يسوى ثلاثة آلاف ألف دينار ، وقد بقي عليكم سبعة آلاف ألف دينار ، وظهر لي أنكم عجزتم .
وكان تيمور لما اتفق أوّلا مع ابن مفلح على ألف ألف دينار يكون ذلك على أهل دمشق خاصة ، والذي تركته العساكر المصرية من السلاح والأموال يكون لتيمور ، فخرج إليه ابن مفلح بأموال أهل مصر جميعها ، فلما صارت كلها إليه ، وعلم أنه استولى على أموال المصريين ألزمهم بإخراج أموال الذين فرّوا من دمشق ، فسارعوا أيضا إلى حمل ذلك كله ، وتدافعوا عنده حتى خلص المال جميعه ، فلما كمل ذلك ألزمهم أن يخرجوا إليه جميع ما في البلد من السلاح جليلها وحقيرها ، فتتبّعوا ذلك ، وأخرجوه له حتى لم يبق بها من السلاح شيء ، فلمّا فرغ ذلك كلّه قبض على ابن مفلح ورفقته ، وألزمهم أن يكتبوا له جميع خطط دمشق وحاراتها وسككها ، فكتبوا ذلك ودفعوه إليه ، ففرّقه على أمرائه ، وقسم البلد بينهم ، فساروا إليها بمماليكهم وحواشيهم ، ونزل كلّ أمير في قسمه ، وطلب من فيه ، وطالبهم بالأموال ، فحينئذ حلّ بأهل دمشق من البلاء ما لا يوصف …
واستمرّ هذا البلاء والعذاب بأهل دمشق تسعة عشر يوما ، آخرها يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر رجب من سنة ثلاث وثمانمائة ، فهلك في هذه المدّة بدمشق بالعقوبة والجوع خلق لا يعلم عددهم إلّا الله تعالى ” انتهى.
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android