0 / 0

هل ترك إنكار المنكر مع الاستطاعة بسبب الخجل من الناس يعدّ من الشرك ؟

السؤال: 216652

سمعت في إحدى المحاضرات أنّ عدم إنكار المنكر مع الاستطاعة ، بسبب الاستحياء من فعل ذلك : هو من الشرك الأصغر ، فأرجو توضيح المسألة ، فالأمر يخيفني جداً ، وهل يعتبر ذلك من كبائر الذنوب أم الصغائر ؟ وهل هذا الشرك يقع في نفس مرتبة الرياء ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
روى الإمام مسلم في صحيحه (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ) .

جاء في ” فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الأولى ” (9/57) :
” يجب على المسلم إنكار المنكر بقدر استطاعته ، إذا علم أنه منكر بالأدلة الشرعية ، إما بيده إن كان أهلا لذلك ؛ كولي الأمر في رعيته ، ورب الأسرة في بيته ، ومن جعل له السلطان ذلك ، وإلا فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ” .

ثانيا :
الحياء خير كله ، والحياء لا يأتي إلا بخير ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند القدرة عليه : ليس من هذا الخير الذي يأتي به الحياء ، وليس هذا هو الحياء الشرعي الممدوح ، بل هذا ضعف ، وخجلة تعتري النفوس ؛ فالحياء الممدوح هو : ما منع صاحبه من فعل القبائح والرذائل ، وسفاسف الأخلاق والأفعال والأقوال .

ثالثا :
روى البيهقي في ” الشعب ” (6469) عن الفضيل بن عياض رحمه الله ، قال : ” تَرْكُ الْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ ، وَالْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُعَافِيَكَ اللهُ عَنْهُمَا ” .

وقد تلقى هذا الكلام عن الفضيل رحمه الله بالقبول عامة أهل العلم والسنة ، وجعلوه من جليل الكلام ؛ إلا أنه ليس معناه على ما ظنه السائل ، كما وجهه بذلك أهل العلم ، بل هو في باب آخر : أن يعرض له العمل من الخير ، فيتركه ، يتحسَّن بذلك الترك أمام الناس .

قال الإمام النووي رحمه الله :
” ومعنى كلامه رحمه الله تعالى: أن من عزم على عبادة ، وتركها مخافة أن يراه الناس فهو مراء ، لأنَّه ترك العمل لأجل الناس ، أما لو تركها ليصليها في الخلوة فهذا مستحب ، إلاّ أن تكون فريضة أو زكاة واجبة … فالجهر بالعبادة في ذلك أفضل ” انتهى من ” شرح الأربعين ” .

وقال ابن علان رحمه الله :
” وقرره الشيخ زكريا ـ يعني : الأنصاري ـ على وجه لطيف ، فقال : ترك العمل لأجل الناس : رياء ، من حيث يتوهم منهم أنهم ينسبونه إلى الرياء ، فيكره هذه النسبة ، ويحب دوام نظرهم له بالإخلاص ، فيكون حراما بتركه محبة لدوام نسبته للإخلاص ، لا للرياء ” انتهى من ” الفتوحات الربانية ” (1/70) .

وقال الشيخ محمد بن مصطفى ، أبو سعيد الخادمي رحمه الله :
” ( وَقَدْ يَتْرُكُهُمَا ) أَيْ الضُّحَى وَالتَّهَجُّدَ ( لَا خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ بَلْ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الرِّيَاءِ ) أَيْ لِئَلَّا يَنْسُبَهُ أَحَدٌ إلَى الرِّيَاءِ ( وَيُقَالُ إنَّهُ مُرَاءٍ ) فَيَتْرُكُ مَا اعْتَادَهُ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ ( وَهَذَا عَيْنُ الرِّيَاءِ ) لِأَجْلِ النَّاسِ وَأَنَّهُ إذَا صَحَّ مُعَامَلَتُهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يُغَيِّرْ فِي الْوَحْدَةِ وَالْخُلْطَةِ ( لِأَنَّهُ تَرَكَ ) إيَّاهُمَا ( خَوْفًا مِنْ سُقُوطِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُمْ .. ) ” انتهى من ” بريقة محمودية ” (2/160) .

وقال ابن مفلح الحنبلي رحمه الله :
” مِمَّا يَقَعُ لِلْإِنْسَانِ : أَنَّهُ أَرَادَ فِعْلَ طَاعَةٍ يَقُومُ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِهَا ، خَوْفَ وُقُوعِهَا عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ !!
وَاَلَّذِي يَنْبَغِي : عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى ذَلِكَ ، وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ وَرَغَّبَهُ فِيهِ ، وَيَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ – رَحِمَهُ اللَّهُ – : لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِ الرِّيَاءُ ، بَلْ يَذْكُرُ بِهِمَا جَمِيعًا ، وَيَقْصِدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَذَكَرَ قَوْلَ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ – رَحِمَهُ اللَّهُ – : إنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ ، وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ ، قَالَ : فَلَوْ فَتَحَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ بَابَ مُلَاحَظَةِ النَّاسِ ، وَالِاحْتِرَازِ مِنْ تَطَرُّقِ ظُنُونِهِمْ الْبَاطِلَةِ : لَانْسَدَّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَبْوَابِ الْخَيْرِ . انْتَهَى كَلَامُهُ .
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ فَأَمَّا تَرْكُ الطَّاعَاتِ خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ : فَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ غَيْرَ الدِّينِ ، فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ ، وَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى ذَلِكَ الدِّينَ ، وَكَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُخْلِصًا : فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ ؛ لِأَنَّ الْبَاعِثَ الدِّينُ ، وَكَذَلِكَ إذَا تَرَكَ الْعَمَلَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُقَالَ : مُرَاءٍ ، فَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ .
قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : إذَا أَتَاك الشَّيْطَانُ وَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ ، فَقَالَ : إنَّك مُرَاءٍ فَزِدْهَا طُولًا .
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ تَرَكَ الْعِبَادَةَ خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ ، فَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ أَحَسُّوا مِنْ نُفُوسِهِمْ بِنَوْعِ تَزَيُّنٍ فَقَطَعُوا ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَمِنْ هَذَا قَوْلِ الْأَعْمَشِ كُنْتُ عِنْدَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ فَغَطَّى الْمُصْحَفَ ، وَقَالَ : لَا يَظُنُّ أَنِّي أَقْرَأُ فِيهِ كُلَّ سَاعَةٍ ” انتهى من ” الآداب الشرعية ” (1/266) .
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (91763) ، وجواب السؤال رقم : (188050) ، وجواب السؤال رقم : (121553) .

رابعا :
مدار الحال فيمن ترك إنكار المنكر : على نيته ومقصده ، فإن تركه تزينا عند الناس بتركه ، وحفظا لمكانته عندهم ، أو حرصا على أن يقال عنه : إنه مخلص ، أو نحو من ذلك : فهذا من الرياء ، وهذا هو الذي تكلم عنه الفضيل بن عياض ، كما سبق .
وأما إن تركه ضعفا ، أو خوفا ، أو نحو ذلك ، فهذا هو وإن كان حاله مذموما ، إلا أنه لا يبلغ به الشرك ، ولا الرياء ؛ بل حاله كحاله غيره ممن ترك الواجب الشرعي عليه ، مع القدرة عليه .
وأما من تركه مراعاة لمصلحة شرعية معتبرة : فهذا لا حرج عليه ، بل هو بحسب اجتهاده ، وما ترجح عنده .

قال علماء اللجنة :
” قوله : ” إن ترك العمل من أجل الناس رياء ” ليس على إطلاقه ، بل فيه تفصيل ، والمعول في ذلك على النية ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) مع العناية بتحري موافقة الشريعة في جميع الأعمال .
فإذا وقع للإنسان حالة ترك فيها العمل الذي لا يجب عليه ؛ لئلا يظن به ما يضره فليس هذا من الرياء ، بل هو من السياسة الشرعية ، وهكذا لو ترك بعض النوافل عند بعض الناس خشية أن يمدحوه بما يضره أو يخشى الفتنة به ، أما الواجب فليس له أن يتركه إلا لعذر شرعي ” انتهى من ” فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الأولى ” (1/768-769) .

خامسا :
إذا قدر أن العبد ترك إنكار المنكر : إما لعجزه ، أو ضعفه ، أو لمصلحة شرعية ترجحت لديه ، أو غير ذلك ، فإن أضعف مراتب الإنكار : أن يكون ذلك بقلبه ، وهذا يستلزم منه ألا يجامع المنكر في مكانه ، بمعنى ألا يقعد في المكان الذي يُعصَى الله فيه ، وهو يقدر على مفارقته ، من غير عذر شرعي معتبر .

ثم إن الحكم في ذلك : يختلف باختلاف حال المنكر المعين ، فالذي يقعد في مكان يكفر فيه بالله عز وجل ، ويشرك به ، ويستهزأ بآياته ، ليس كمن يقعد في مكان يشرب فيه الدخان ، أو يستمع فيه إلى الغناء .
والمكان الذي يشيع فيه مثل هذا المنكر ، ليس في المكان الذي يقل فيه ، وهكذا ، وهي مراتب من فقه العمل ، وفقه الأمر والنهي ، والموفق من سدده الله ، واستضاء في كل ذلك بنور العلم والحكمة .

قال الله تعالى : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ) النساء/ 140 .

قال النحاس رحمه الله في ” إعراب القرآن ” (1/ 244) :
” فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر ؛ لأنّ من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم ، والرضى بالكفر كفر ” انتهى .

وقال القرطبي رحمه الله :
” فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مُنْكَرٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجْتَنِبْهُمْ فَقَدْ رَضِيَ فِعْلَهُمْ ، وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلّ َ: (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) . فَكُلُّ مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسِ مَعْصِيَةٍ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ يَكُونُ مَعَهُمْ فِي الْوِزْرِ سَوَاءً ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ إِذَا تَكَلَّمُوا بِالْمَعْصِيَةِ وَعَمِلُوا بِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ عَنْهُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ ” انتهى من ” تفسير القرطبي ” (5/418) .

وانظر للفائدة إلى جواب السؤال رقم : (96662) ، وجواب السؤال رقم : (101639) ، وجواب السؤال رقم : (13217) ، وجواب السؤال رقم : (65551) .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android