0 / 0

شرح حديث : ( إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ) .

السؤال: 217044

جاء في الحديث : ( إنَّ من عبادِ اللهِ مَن لو أقسَم على اللهِ لأبَرَّه ) ، فكيف نجمع بين هذا ، وبين الحديث الذي رواه أبو هريرة عن سليمان عليه السلام أنه أقسم أن يطوف على تسعين امرأة…الحديث المعروف. أليس الأنبياء أفضل الناس ، وهم أولى بأن يبر الله أيمانهم ؟ كيف نوجه هذا بارك الله فيكم ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
روى البخاري (2703) – واللفظ له – ، ومسلم (1675) عن أنس : أَنَّ الرُّبَيِّعَ وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ ، فَطَلَبُوا الأَرْشَ ، وَطَلَبُوا العَفْوَ ، فَأَبَوْا ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَمَرَهُمْ بِالقِصَاصِ ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ : أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ ، لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا ، فَقَالَ : ( يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ القِصَاصُ ) ، فَرَضِيَ القَوْمُ وَعَفَوْا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ) .
وروى مسلم (2622) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ( رُبَّ أَشْعَثَ ، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ ) .
قيل : المعنى : أنه لو حلف على شيء أن يقع ؛ ثقة بالله وحسن ظن به لأبره الله ، وقيل : معنى القسم في الحديث : الدعاء .
قال النووي رحمه الله :
” (لَوْ أقسم على الله لأبره) أي لو حلف على وقوع شَيْءٍ أَوْقَعَهُ اللَّهُ إِكْرَامًا لَهُ بِإِجَابَةِ سُؤَالِهِ وَصِيَانَتِهِ مِنَ الْحِنْثِ فِي يَمِينِهِ ، وَهَذَا لِعِظَمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقِيلَ مَعْنَى الْقَسَمِ هُنَا الدُّعَاءُ ، وَإِبْرَارُهُ إِجَابَتُهُ ” انتهى .
وقال الحافظ رحمه الله :
” أَيْ لَوْ حَلَفَ يَمِينًا عَلَى شَيْءٍ أَنْ يَقَعَ طَمَعًا فِي كَرَمِ اللَّهِ بِإِبْرَارِهِ لَأَبَرَّهُ وَأَوْقَعَهُ لِأَجْلِهِ ، وَقِيلَ هُوَ كِنَايَةٌ عَن إِجَابَة دُعَائِهِ ” انتهى .
وقال ابن عثيمين رحمه الله :
” الإقسام على الله أن يقول الإنسان : والله ، لا يكون كذا وكذا ، أو والله لا يفعل الله كذا وكذا ، والإقسام على الله نوعان:
أحدهما : أن يكون الحامل عليه قوة ثقة المقسم بالله -عز وجل- وقوة إيمانه به مع اعترافه بضعفه وعدم إلزامه الله بشيء ، فهذا جائز ، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: ( رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ) .
النوع الثاني: من الإقسام على الله : ما كان الحامل عليه الغرور والإعجاب بالنفس ، وأنه يستحق على الله كذا وكذا ، فهذا – والعياذ بالله – محرم ، وقد يكون مُحبِطا للعمل ” انتهى ملخصا من “مجموع فتاوى ورسائل العثيمين” (3/ 78-79) .
ثانيا :
روى البخاري (6639) ، ومسلم (1654) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( قَالَ سُلَيْمَانُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً ، كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : قُلْ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ ، وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ ) .
وفي رواية لمسلم : ( فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ – أَوِ الْمَلَكُ -: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللهُ ، فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ ) .
ولا شك أن الأنبياء أفضل الناس، وهم أولى بأن يبر الله أيمانهم من غيرهم ، ولكن نبيَ الله سليمان عليه السلام لما ترك نسيانا ذكر المشيئة ، وكان نبيا ينظر إليه ويقتدى به ، لم يسامح بترك ذكر المشيئة والاستثناء في يمينه ، فترتب على ذلك عدم تحقيق ما تمنى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” المُرْسَلُونَ لَهُم مأمورات لَو تركوها كَانَ ذَلِك سيئات ، وَإِن كَانَ فعل مَا دونهَا حَسَنَات لغَيرهم مِمَّن لم يُؤمر بذلك ” انتهى من”جامع الرسائل” (1/ 254) .
وقال ابن الجوزي رحمه الله :
” تَعْلِيق الْأَمر بِالْمَشِيئَةِ تَسْلِيم للقدر. وَإِنَّمَا ترك سُلَيْمَان الإستثناء نِسْيَانا فَلم يسامح بِتَرْكِهِ وَهُوَ نَبِي كريم، حَتَّى أثر التّرْك فقد الْغَرَض ، ونفع قَول إِن شَاءَ الله قوما كَافِرين ، فَإِنَّهُ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة : ( إِن يَأْجُوج وَمَأْجُوج يحفرون السد كل يَوْم وَيَقُولُونَ: غَدا نتمه ، فيجيئون وَقد عَاد كَمَا كَانَ ، فَإِذا أذن فِي خُرُوجهمْ قَالَ قَائِلهمْ : إِن شَاءَ الله ، فيجيئون وَهُوَ على حَاله فيفتحونه ) ، فَبَان لهَذَا مرتبَة الْمَشِيئَة .
فَإِن قَالَ قَائِل : من أَيْن لِسُلَيْمَان أَن يخلق من مَائه فِي تِلْكَ اللَّيْلَة مائَة غُلَام ، لَا يجوز أَن يكون بِوَحْي لِأَنَّهُ مَا وَقع ، وَلَا يجوز أَن يكون الْأَمر فِي ذَلِك إِلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا مَا يُريدهُ الله؟ فَالْجَوَاب : إِنَّه من جنس التَّمَنِّي على الله ، وَالسُّؤَال لَهُ أَن يفعل، وَالْقسم عَلَيْهِ ، كَقَوْل أنس بن النَّضر: (وَالله لَا تكسر سنّ الرّبيع) غير أَنه لما خلا لَفظه من اسْتثِنَاء لم يسامح مثله بِتَرْكِهِ ، ذَلِك لِأَنَّهُ نَبِي يقْتَدى بِهِ ” انتهى .
“كشف المشكل” (3/ 445-446) .
فالمقربون من أهل التقوى والصلاح ليسوا كغيرهم ، فإنهم قد لا يسامحون بترك ما لو تركه غيرهم لم يعاتبوا عليه ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي ، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ ، فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ ) رواه مسلم (2702) .
مع أنه صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قَالَ القاضي عِيَاضٌ رحمه الله : ” الْمُرَادُ بِالْغَيْنِ فَتَرَاتٌ عَنِ الذِّكْرِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا فَتَرَ عَنْهُ لِأَمْرٍ مَا عَدَّ ذَلِكَ ذَنْبًا فَاسْتَغْفَرَ عَنْهُ ” انتهى .
“فتح الباري” (11/ 101) .
ونبي الله سليمان عليه السلام دعا ربه فقال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) سورة ص/ 35 ، فملّكه الله مشارق الأرض ومغاربها ، وسخر له الجن والإنس والريح ، وصار كل شيء تحت هيمنته وسلطانه بإذن الله ، فهو أعظم جاها عند الله من أفراد الصالحين الذين إذا أقسم أحدهم على الله أبره الله ، ولكن الله تعالى أراد أن يؤدب نبيه حيث نسي أن يذكر مشيئة الله التي تسبق مشيئة العباد .
ومع ما أنعم الله به عليه كان حريا به صلى الله عليه وسلم أن يتذكر الاستثناء ولا ينساه ، وخاصة مع قول الملك له : ( قل إن شاء الله ) .
وهذا كما روى البخاري (122) ومسلم عن ابن عباس قال : حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ ؟ فَقَالَ : أَنَا أَعْلَمُ ، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إِلَيْهِ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ : أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ ، هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ … ) ، فذكر حديثه مع الخضر .
مع أن موسى عليه السلام أفضل وأكرم على الله من الخضر ، ولكنه تأديب الله تعالى لأنبيائه وأصفياء خلقه .
والله تعالى أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android