هل نكون مذنبين بحق أحد من الأئمة الأربعة أو غيرهم ، إذا وصلنا للقناعة بأنهم أخطؤوا في بعض اجتهاداتهم ، سواء بالعثور على اجتهادات أخرى أقرب إلى الصواب ، بفضل سهولة انتشار كتب الفقه والعلم في زمننا الحاضر ، أو بفضل الإدراك المتأخر ؟
هل يأثم المرء إذا حكم بخطأ أحد من أهل العلم في بعض المسائل الشرعية ؟
السؤال: 220570
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
ما من أحد إلا ويؤخذ منه ويرد عليه ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكل مجتهد يخطئ ويصيب ، بما في ذلك أئمة العلماء .
ولم يزل أهل العلم رحمهم الله تعالى يجتهدون ، ويخطئ بعضهم بعضا ، ويقول بعضهم القول اليوم ويرجع عنه بعد ذلك ، وتجد للعالم في المسألة الواحدة القولين المختلفين ، قال زفر: ” كنا نختلف إلى أبي حنيفة ومعنا أَبُو يوسف وَمُحَمَّد بن الحسن، فكنا نكتب عنه، فقال يوما أَبُو حنيفة لأبي يوسف: ويحك يا يَعْقُوب، لا تكتب كل ما تسمع مني، فإني قد أرى الرأي اليوم فأتركه غدا ، وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد ” انتهى من ” تاريخ بغداد ” (15/ 554) .
وقال الإمام مالك رحمه الله :
” إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، أُخْطِئُ وَأُصِيبُ ، فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي ، فَكُلَّمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ , وَكُلَّمَا لَمْ يُوَافِقِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَاتْرُكُوهُ ” انتهى من ” جامع بيان العلم وفضله ” (1/ 775) .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله :
” مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَتَذْهَبُ عَلَيْهِ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَتَعْزُبُ عَنْهُ، فَمَهْمَا قُلْت مِنْ قَوْلٍ أَوْ أَصَّلْت مِنْ أَصْلٍ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خِلَاف مَا قُلْت فَالْقَوْلُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ قَوْلِي ” وَجَعَلَ يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ ” . انتهى من ” إعلام الموقعين ” (2/ 204) .
وقال الإمام أحمد رحمه الله :
” ليس أحد إلا ويؤخذ من رأيه ، ويترك ، يعني : ما خلا النبي صلى الله عليه وسلم ” انتهى من ” مسائل الإمام أحمد ” رواية أبي داود (ص 368) .
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله :
” الواجب عَلَى كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه : أن بيينه للأمة وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره ، وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة ، فإن أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي معظم ، قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ .
ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم من العُلَمَاء عَلَى كل من خالف سنة صحيحة ، وربما أغلظوا في الرد ، لا بغضًا له ؛ بل هو محبوب عندهم ، معظم في نفوسهم ؛ لكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أَحَبّ إليهم ، وأمره فوق أمر كل مخلوق .
فَإِذَا تعارض أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأمر غيره فأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أولى أن يقدم ويتبع ، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره ، وإن كان مغفورًا له ؛ بل ذلك المخالف المغفور له : لا يكره أن يخالَف أمرُه إذا ظهر أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بخلافه ؛ بل يرضى بمخالفة أمره ومتابعة أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ظهر أمره بخلافه ” انتهى من ” مجموع رسائل ابن رجب ” (1/ 245) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
” شَيْخُ الْإِسْلَامِ حَبِيبٌ إِلَيْنَا- يعني الهروي رحمه الله – وَالْحَقُّ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْهُ . وَكُلُّ مَنْ عَدَا الْمَعْصُومِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَتْرُوكٌ ” انتهى من ” مدارج السالكين ” (2/ 38) .
ثانيا :
هذا الذي سبق ذكره : أمر مقرر ، لا تكاد تجد عاقلا منصفا يخالف فيه ؛ لكن السؤال الأهم ، والأمر الحقيق بالنظر والتأمل : من هذا الذي يبين خطأ من أخطأ من أهل العلم ، ويرده عليه ، ويبين وجه الصواب فيما ذهب إليه ؟
من الذي يمكنه أن يقول : قول الإمام الشافعي أصح من قول الإمام مالك ؟
أو قول الحنابلة أرجح من قول غيرهم ؟
أو قول فلان العالم خطأ ؟
لا يصح لأحد أن يسلك هذا السبيل إلا إذا كان على بينة تامة من أمره ، فإما أن يكون عالما مجتهدا مشهودا له بالعلم والفضل والأمانة ، أو يكون طالب علم مجيد قد اجتهد في مسألة ، وجمع فيها الأدلة وكلام أهل العلم حتى ترجح لديه بالدليل قول دون قول .
أما رجل مبتدئ في طلب العلم ، أو واعظ أو خطيب ظن من نفسه أنه يحسن الخوض في مسائل الخلاف والترجيح فيها ، أو عامي من عوام المسلمين : فمثل هؤلاء لا يجوز لهم تخطئة العالم ، كما لا يجوز لهم النظر في مسائل الخلاف ، فضلا عن الترجيح ، وإنما المشروع في حقهم هو التقليد والإتباع .
اللهم إلا أن يحكي أحدهم قول العالم في الترجيح أو التخطئة .
ومجرد وجود خلاف بين العلماء لا يسمح لكل أحد أن يرجح أو يختار ، فلا يجتهد ولا يرجح إلا من تأهل لهذا المقام ، على ما سبق ذكره .
وانتشار الكتب اليوم ، وسهولة الاطلاع عليها لا يكفي في هذا ؛ لأن العلم والفقه مَلَكة في النفس ، وتأهُّل باكتمال أداوت ذلك النظر ، وشرائطه ؛ ولا يمكن إدراك ذلك بمجرد النظر في الكتب والاطلاع فيها على مسائل الخلاف .
فالعالم يجتهد ويرجح ، وطالب العلم يذاكر ويدرس وينظر ويسأل ويتوخى الحذر ، والمبتدئ والعامي : يسأل ويقلد .
فعلى كل مسلم أن يحتاط لدينه ، وألا يتكلم في الدين بغير علم ، وألا يجترئ على تخطئة عالم وتصويب قول غيره إلا ببينة ظاهرة ودليل واضح .
وقد قيل : ” الْأُمُورُ ثَلَاثَةٌ : أَمْرٌ تَبَيَّنَ لَكَ رُشْدُهُ فَاتَّبِعْهُ ، وَأَمْرٌ تَبَيَّنَ لَكَ زَيْغُهُ فَاجْتَنِبْهُ ، وَأَمْرٌ اخْتُلِفَ فِيهِ ، فَكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ ” .
انظر : ” جامع بيان العلم وفضله ” (1/ 754) .
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (22652) .
والله تعالى أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة