رجلان يتمازحان بمسدس ، فقال أحدها للآخر : سأقتلك . فأجابه : لا تمزح ، فالمسدس ربما يكون به طلقة . وتجادلا أفيه طلقة أم لا ، فأطلق عليه النار فقتله .
فما هي دية القتل الخطأ ؟
علماً أن المقتول يبلغ من العمر ثمانية عشر عاما ، وهو يتيم الأب ووحيد لأمه .
كانا يتمازحان بالمسدس فقتل صاحبه ، فماذا يلزمه ؟
السؤال: 222791
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
أعظم من الجواب على مقدار الدية هو الجواب على شنيع هذا الفعل ، وسوء تلك النفس التي تمازح بما فيه الحتف والموت ، تستبيح القتل ، وتتهاون في أسباب الأذى والموت بما يبلغ مدى لا أبعد منه استهتارا واستخفافا وجرأة على شريعة الله سبحانه وتعالى .
فليأخذ العبرة كل من تسول له نفسه مثل هذه الأفعال الفظيعة ، وليتعلم الدرس كل المستكبرين الذين لا يراعون الحرمات ، ولا يحتاطون لدماء الناس وأعراضهم ، فيتسببون بالفجيعة للأم المكلومة التي فقدت وحيدها ، وكأنها لا يكفيها ما فجعت به في بلدها السليب لأعمال القتل والدمار ، وأهلها الذين شردتهم الحرب في بلاد الله الواسعة !!
فلنتق الله تعالى في أنفسنا أولا ، ولنعلم أننا محاسبون على أعمالنا ، وأنه لا يضيع عند الله عز وجل مثقال ذرة من ظلم وعدوان .
يقول الله عز وجل : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ) فاطر/45 .
ثانيا :
أما حساب مقدار الدية ، فهي مائة من الإبل ، يسلمها القاتل إلى أهل المقتول كاملة غير منقوصة ، مهما بلغ ثمنها وقيمتها . فإن لم تتوفر الإبل في بلادكم ، أو كانت بأعلى من سعر المثل نتيجة بعض الظروف ، أو تم التوافق مع أولياء المقتول على دفع قيمة الإبل بدلا عنها ، أو التصالح على مبلغ أقل من قيمة الدية : فلا حرج في ذلك .
يقول الله تعالى : ( ومَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ ) النساء/92 ، فقد دل هذا القول الكريم على أن الواجب في القتل الخطأ الكفارة والدية . ولقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم المراد بالدية في الآية الكريمة في أحاديث كثيرة ، منها في قصة قتل عبد الله بن سهل رضي الله عنه ، قال : ( فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ ) رواه البخاري (7192) ، ومسلم (1669) .
وأيضا الحديث الذي رواه مالك في ” الموطأ ” (2/849) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ؛ أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي الْعُقُولِ : ( أَنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ ) ، ودل عليه أيضا حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ، وَهُوَ عَلَى دَرَجِ الْكَعْبَةِ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ، أَلَا إِنَّ قَتِيلَ الْعَمْدِ الْخَطَإِ بِالسَّوْطِ أَوِ الْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ – وَقَالَ مَرَّةً : الْمُغَلَّظَةُ – فِيهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً ، فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا ) رواه أحمد في ” المسند ” (8/188) وقال المحققون : إسناده صحيح على شرط الشيخين .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فِي دِيَةِ الْخَطَإِ عِشْرُونَ حِقَّةً ، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ ، وَعِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ ذُكُرٍ ) رواه أبو داود في ” السنن ” (4545) ، ولكن في إسناده ضعفا بسبب حجاج بن أرطأة ، والاختلاف في أوجه روايته بين الرفع والوقف ، وقد أعله الدارقطني في ” السنن ” (3364) ، وضعفه محققون آخرون ، منهم الألباني في ” ضعيف سنن أبي داود ” .
وقد نص فقهاء الشافعية ، وفي رواية عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، أنه لا يجزئ سوى ذلك ، إما مائة من الإبل ، أو قيمتها مهما بلغت ، إلا أن يعفو أولياء المقتول .
يقول النووي رحمه الله :
” في قتل الحر المسلم مائة بعير … ومن لزمته وله إبل فمنها ، وقيل من غالب إبل بلده ، وإلا فغالب قبيلة بدوي ، وإلا فأقرب بلاد ، ولا يعدل إلى نوع وقيمة إلا بتراض ، ولو عدمت فالقديم ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم . والجديد قيمتها بنقد بلده ” انتهى من ” منهاج الطالبين ” (ص/279)
وقال الخطيب الشربيني الشافعي رحمه الله – في شرح ما سبق – :
” الجديد الواجب قيمتها ، أي الإبل ، وقت وجوب تسليمها ، بالغة ما بلغت ؛ لأنها بدل متلف فيرجع إلى قيمتها عند إعواز أصله ، وتقوَّم بنقد بلده الغالب ؛ لأنه أقرب من غيره وأضبط ” انتهى من ” مغني المحتاج ” (5/300) .
ويقول المرداوي رحمه الله :
” وعن [ الإمام أحمد ] : أن الإبل هي الأصل خاصة . وهذه أبدال عنها . فإن قدر على الإبل أخرجها . وإلا انتقل إليها . قال ابن منجا في شرحه : وهذه الرواية هي الصحيحة من حيث الدليل . قال الزركشي : هي أظهر دليلا ، ونصره . وهي ظاهر كلام الخرقي . حيث لم يذكر غيرها . وقال جماعة من الأصحاب ، على هذه الرواية : إذا لم يقدر على الإبل انتقل إليها . وكذا لو زاد ثمنها ” انتهى من ” الإنصاف ” (10/58) .
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” هذا هو ظاهر كلام الخرقي رحمه الله ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وجماعة من الأصحاب ، وهذا هو الذي عليه العمل عندنا ، فلا يزال الناس من قديم الزمان يحكمون بأن الأصل في الدية الإبل ” انتهى من ” الشرح الممتع على زاد المستقنع ” (14/119) .
وبناء على ما سبق ، فالواجب على القاتل أداء دية شبه العمد ، مائة من الإبل مغلظة ، بالأسنان الآتية : خمساً وعشرون بنت مخاض ( دخلت في السنة الثانية ) ، وخمساً وعشرون بنت لبون ( دخلت الثالثة ) ، وخمساً وعشرون حقة ( دخلت عامها الرابع )، وخمساً وعشرون جذعة ( دخلت الخامسة من العمر ) .
أو تقدير قيمتها في البلد التي وقعت فيها جريمة القتل ، ودفع تلك القيمة لأولياء المقتول .
وإنما قلنا إنها دية شبه عمد ؛ لأن القاتل قصد المقتول بالمسدس ، ولكنه ظن أنه لا يشتمل على الرصاص ، فوقع القتل ، ولو غلب على ظن القاضي أن القتل عمد فله أن يحكم بذلك ، فمثل هذا التصرف الأهوج قد يكون عمداً ، ولا يجوز أن يمر بسهولة وخاصة إذا وجدت عداوة سابقة بينهما أو ادعى أولياء الدم عليه بأنه متعمد ، فلا بد من نظر القاضي الشرعي ، ولا تؤخذ الفتوى به من موقعنا دون النظر في جميع الملابسات ، فإذا قضى القاضي بأنه ليس بعمد تؤدى دية ( شبه العمد ) كما سبق ، وليست دية ( الخطأ ) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” النوع الثاني : الخطأ الذي يشبه العمد . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا إن في قتل الخطأ شبه العمد ما كان في السوط والعصا مائة من الإبل ، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها ) سماه شبه العمد ؛ لأنه قصد العدوان عليه بالضرب ؛ لكنه لا يقتل غالبا . فقد تعمد العدوان ، ولم يتعمد ما يقتل ” انتهى من ” مجموع الفتاوى ” (28/378) .
وللمزيد ينظر الفتوى رقم : (52809) .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة