تنزيل
0 / 0
34,33306/06/2015

لماذا لا تتغير الأحكام الشرعية بتغير الزمان ؟

السؤال: 223482

لماذا لا يواكب الإسلام المتغيرات التي تحدث في زماننا ، حيث لا زلنا نتمسك بالأحكام التي كانت قبل (1400) سنة ، مما يجعلنا نشعر بالعزلة والغربة في هذا النظام العالمي . فالنظام المالي في الدول المتقدمة يعتمد على الربا ، واقتصاد هذه الدول جعل من هذه الدول غنية وناجحة ، مع أنّ الربا حرم بسبب مناسبة الزمان الذي كان به . والحجاب فرض لمناسبة الزمان أيضاً .
ولكن لا زالت هذه الأحكام ثابتة لا تتغير ، مع العلم أنّ الأحكام تغيرت في الماضي .
فعلى سبيل المثال :
شرعت صلاة التراويح 11 ركعة ، ثم جعلها أبو بكر رضي الله عنه 23 ركعة .
وكانت صلاة الجمعة بأذان واحد ، ثم جعل عثمان بن عفان رضي الله عنه للصلاة أذانين .
وأباح النبي صلى الله عليه وسلم المتعة ، ثم حرمها علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وكانت السنة أن تصلى صلاة العيد بعد الخطبة ، ثم جعل مروان بن عبد الملك الخطبة قبل الصلاة .
ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بناء المساجد على المقابر ، ثم قام الوليد بن عبد الملك بفعل ذلك .
وحرم الله أنواعاً معينة من الطعام ، ثم جاء النبي وحرم أكل الحمار ، وما إلى ذلك .
فهل التماشي مع أحوال المسلمين ، ومواكبة التغيرات في الحياة من جهة الأحكام يخالف أصول الدين ؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

في كل الشرائع والأديان والمذاهب الفكرية والفلسفية ثمة مجموعتان كبيرتان من
اختيارات المذهب الفكرية والعقائدية والتشريعية ، لا تخفيان على النقاد والباحثين :

أولاهما : مجموعة الثوابت والأركان والمبادئ ، أي الفلسفة العامة ، والخطوط العريضة
التي تحدد ملامح هذا التشريع ، وتميزه عن غيره ، وهذه لا تتبدل ولا تتغير .
والمجموعة الثانية : هي تلك التقريرات التفصيلية التي تنبثق عن المبادئ العامة ،
لتغطي الحوادث الجزئية ، والمواقف الإجرائية ، بما يخدم المبادئ العامة ويحققها .

فالملكية الفردية في الرأسمالية مثلا أساس وركن ركين في هذا النظام الاقتصادي أو
الفلسفي ، لا يمكن أن يتغير يوما ما ، وإن تغير لم نعد نتحدث عن الرأسمالية ، بل عن
مذهب جديد مختلف كليا ، ومن يطالب هذا النظام بإلغاء الملكية الفردية ، أو إضعافها
، فإنما يطالب بالانقلاب إلى مذهب آخر : كالاشتراكية مثلا ، أو الأنظمة المختلطة .
ولكن إذا عمل هذا النظام على وضع بعض القوانين التي يعالج فيها آثارا سلبية لصور
خاصة من صور تغول الملكية الفردية ، فإن أحدا لا يمكنه اتهام النظام بالتبدل الكلي
، ولكن يمكن أن يقع الخلاف في تفسير هذا السلوك ، وقياس انسجامه مع المبدأ العام أو
انتقاصه منه ، وفرْقٌ بين التغييرين .
وهكذا ليست الشريعة الإسلامية خارجة عن هذا القانون ، ولهذا فإن أحدا من المفكرين
العقلاء – سواء من المسلمين أو غير المسلمين – لا يطالب الشريعة بالتخلي عن ثيابها
التي تجللها وتميزها عن غيرها من الشرائع الأرضية ، بدعوى تغير الزمان والعصر ، من
غير مراعاةٍ للفرق بين الثوابت والمتغيرات ، ولا يطالبون بالانسلاخ عن الثوابت ؛
لأنهم يعلمون أن أحدا لا يملك أصلا تبديلها أو تغييرها !!
وهذه الثوابت تتمثل في العقائد وأمور التوحيد ومقاصد الشريعة العامة ، والقواعد
الفقهية الكلية ، والقيم التشريعية ، والمفردات الإجماعية التي هي موارد اتفاق
الأمة عبر الدهور والعصور ، والمسائل الجزئية التي ورد الشرع بحكمها (الوجوب أو
التحريم) لأن ارتباطها بالمصلحة أو المفسدة ارتباط وثيق لا ينفك في أي زمان أو مكان
.
فمثلا : وجوب الحجاب على النساء هذا الحكم ثابت لا يجوز تغييره ، لأنه مرتبط بغريزة
الإنسان وميل كل من الجنسين إلى الآخر ، وهذا أمر ثابت في جميع البشر ، والإخلال
بهذا الحكم يترتب عليه الانزلاق إلى الفوضى الخلقية التي تعاني منها دول العالم
أجمع بلا استثناء .
فكيف يصح أن يقال بعد ذلك : إنه ينبغي إلغاء هذا الحكم بعد أن رأى العالم ما ترتب
على الإخلال به من مفاسد ؟ بل يجب أن يزيد ذلك المسلمين تمسكا بهذا الحكم ويقينا
بحكمة الشريعة الربانية .
وأما ما ذكرته من فروع في سؤالك فهي ليست من هذه الثوابت التي هي من خصائص الإسلام،
فصلاة التراويح تعبد مفتوح بأصل الوضع الشرعي ، فلم يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم
عددا لا يجوز تجاوزه .
وأذان عثمان رضي الله عنه الثاني يوم الجمعة هو تأكيد لواجب الأذان نفسه ، من غير
تبديل ولا تغيير ، وإنما التأكيد بالتكرار .
وأما ما أحدثه الأمويون بتقديم خطبة العيد على الصلاة ، فهو بدعة أنكرها جميع
العلماء من السلف والخلف ، وعدوه تلاعبا بالدين ، وإحداثا في التشريع ، لغرض سياسي
لا لغرض مقصود مشروع ؛ ولذلك فقد عاد الأمر إلى نصابه في عامة البلدان ، وظل الناس
يصلون العيد قبل الخطبة .
وأما حكم المتعة وتحريم لحوم الحمر : فهو نسخ وقع من المشرع نفسه ، وليس من العباد
المتلقين للشريعة ، فلم يحرم علي بن أبي طالب رضي الله عنه المتعة ، بل حرمها النبي
صلى الله عليه وسلم .
ومع ذلك لم ينكر العلماء إمكان تغير الأحكام لتغير خمسة أشياء ذكرها ابن قيم
الجوزية رحمه الله تعالى ، وهي : الزمان ، والمكان ، والعادات ، والأحوال ، والنيات
.
ولكن هذا التغير مقصور على الأحكام التي هي من طبيعتها متغيرة ، وليست ثابتة في أصل
الوضع الشرعي .
وهذه الأحكام ذات الطبيعة المتغيرة والمتبدلة هي تلك الأحكام التي بنيت مآخذها على
العرف ، أو المصلحة ، ولم يكن أصل بنائها على أصل شرعي ثابت . كما قال الإمام
القرافي رحمه الله : ” القاعدة المجمع عليها : أن كل حكم مبني على عادة ؛ إذا تغيرت
العادة : تغير ” ينظر : ” الفروق ” (4/103) ، فتأمل قوله ” مبني على العادة “؛
لتعلم أن التغير لا ينال إلا الأحكام التي بنيت على العادة .
أما الأحكام التي بنيت على أساس مقاصدي عام ، أو أساس إنساني مشترك في كل العصور
والدهور ، كتحريم الربا مثلا ، فلا يمكن أن تتغير ؛ وهنا تتميز الشريعة الإسلامية
بالمرونة من خلال هذا النوع من الأحكام ، وفي نفس الوقت بالثبات من خلال الأحكام
الثابتة عبر الزمان والمكان .
ومن أعظم هذه المقاصد الشرعية المرعية : استسلام الملكف التام لرب العالمين وشرعه ،
وإخراج النفس عن داعية الهوى ، وهو مدار كثير من الأحكام التعبدية المحضة . وهذا
الباب لا مدخل فيه للتغير أصلا ، كما يعرفه من له أدنى مساس بالشرع وأصوله وحكمته .

يقول الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله :
” من المقرر في فقه الشريعة أن لتغير الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيرا كبيرا في
كثير من الأحكام الشرعية الاجتهادية . فإن هذه الأحكام تنظيم أوجبه الشرع ، يهدف
إلى إقامة العدل وجلب المصالح ودرء المفاسد . فهي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع
والوسائل الزمنية وبالأخلاق العامة . فكم من حكم كان تدبيرا وعلاجا ناجعا لبيئة في
زمن معين ، فأصبح بعد جيل أو أجيال لا يوصل إلى المقصود منه ، أو أصبح يفضي إلى
عكسه بتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق .
وعن هذا أفتى الفقهاء المتأخرون من شتى المذاهب الفقهية في كثير من المسائل بعكس ما
أفتى به أئمة مذاهبهم وفقهاؤها الأولون ، وصرح هؤلاء المتأخرون بأن سبب اختلاف
فتواهم عمن سبقهم هو اختلاف الزمان وفساد الأخلاق . فليسوا في الحقيقة مخالفين
للسابقين من فقهاء مذاهبهم ، بل لو وجد الأئمة الأولون في عصر المتأخرين ، ورأوا
اختلاف الزمان والأخلاق لعدلوا إلى ما قال المتأخرون .
وعلى هذا الأساس أسست القاعدة الفقهية القائلة : لا ينكر تغير الأحكام بتغير
الأزمان .
وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس
: هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية ، أي التي قررها الاجتهاد بناء على
القياس أو على دواعي المصلحة ، وهي المقصودة بالقاعدة آنفة الذكر .
أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة
الناهية ، كحرمة المحرمات المطلقة ، وكوجوب التراضي في العقود ، والتزام الإنسان
بعقده ، وضمان الضرر الذي يلحقه بغيره ، وسريان إقراره على نفسه دون غيره ، ووجوب
منع الأذى وقمع الإجرام ، وسد الذرائع إلى الفساد ، وحماية الحقوق المكتسبة ،
ومسؤولية كل مكلف عن عمله وتقصيره ، وعدم مؤاخذة بريء بذنب غيره ، إلى غير ذلك من
الأحكام والمبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها ومقاومة خلافها ،
فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان ، بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان
والأجيال ، ولكن وسائل تحقيقها وأساليب تطبيقها قد تتبدل باختلاف الأزمنة المحدثة .
فوسيلة حماية الحقوق مثلا – وهو القضاء – كانت المحاكم فيه تقوم على أسلوب القاضي
الفرد ، وقضاؤه على درجة واحدة قطعية ، فيمكن أن تتبدل إلى أسلوب محكمة الجماعة ،
وتعدد درجات المحاكم ، بحسب المصلحة الزمنية التي أصبحت تقتضي زيادة الاحتياط لفساد
الذمم .
فالحقيقة أن الأحكام الشرعية التي تتبدل بتبدل الزمان : مهما تغيرت باختلاف الزمن ،
فإن المبدأ الشرعي فيها واحد ، وهو إحقاق الحق ، وجلب المصالح ودرء المفاسد .
وليس تبدل الأحكام إلا تبدل الوسائل والأساليب الموصلة إلى غاية الشرع ، فإن تلك
الوسائل والأساليب في الغالب لم تحددها الشريعة الإسلامية ، بل تركتها مطلقة لكي
يختار منها في كل زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجا ، وأنجح في التقويم علاجا ” .
انتهى من ” المدخل الفقهي العام ” (940-942) .
ويقول الدكتور عابد السفياني :
” إن تغير الأحوال والأزمنة لم تغفله الشريعة ، بل وضعت له أحكاما تخصه … فاختلاف
الأزمنة التي تأتي على المسلمين فترة القوة ، وفترة الضعف ، جعل الله لكل زمن حكما
يخصه في حال القوة ، وكذلك في حال المجاعة والحاجة ، وفي حال الاكتفاء … ولا تعني
مراعاة الشريعة للأزمان والأحوال والقدرات ، أنها تركت تحديد المصلحة وتشريع الحكم
للعقل البشري ، كلا ، فإنها لم تترك ذلك له ، لا في العبادات ولا في المعاملات ..
وإن تغير الفتوى إذا تغير تحقيق المناط ، لكي تنتظم كل واقعة تحت حكمها الشرعي ، لا
صلة له البتة بتغير أحكام الشريعة بزعم تغير المصالح بتغير الأزمنة ، ومن هنا فإن
الفقه الإسلامي يتجدد ولا يجمد ، حيث يأخذ كل واقعة بخصوصها فيدخلها تحت حكمها
الشرعي حسب تحقق مناطها ، فإن جاء زمن آخر تجددت تلك الواقعة على صورة أخرى وتغير
تحقيق مناطها ، وضعت تحت حكمها الخاص بها ، وهكذا … ولكل واقعة بحسب تحقق مناطها
حكم ثابت يحقق المصلحة في جميع الأزمان ” انتهى من ” الثبات والشمول ” (ص/540) .
وللتوسع ينظر رسالة بعنوان : ” محاولات التجديد في أصول الفقه “، هزاع الغامدي
(ص823-828) فقد ناقش هذه المسألة بتوسع .
كما سبق في موقعنا التطرق لهذه المسألة في الفتوى رقم : (39286) ، (130689) .
ومن المهم هنا أن يتذكر السائل الباحث معنا أن النجاح المؤقت الذي حققته الحضارة
الغربية لم يكن بفضل النظام الربوي الرأسمالي ، فقد حققت الاشتراكية فترة الاتحاد
السوفييتي نجاحا كبيرا أيضا في بناء دولة قوية ، واقتصاد متين ، ولكن الزمن كان
كفيلا بإثبات الفشل الذريع لهذه الأنظمة الوضعية ، وإثبات أن نجاحها بهرج مؤقت لا
يلبث أن ينكشف على حقيقته .
وهكذا يقرأ اليوم كثير من كبار المحللين والمفكرين الاقتصاديين سقوط النظام المالي
( الرأسمالي ) العالمي بعد الأزمة المالية الأخيرة ، حيث تساقطت الدول في تداعياتها
إلى القدر الذي أصبحت معه عاجزة عن تحقيق معدلات النمو المطلوبة ، وغدا الفرد
الأوروبي يفكر في الهجرة إلى حيث يجد فرصة العمل التي تحقق له كفايته ، كما رصدت
ذلك العديد من الدراسات والبرامج الوثائقية المنشورة على الإنترنت .
وإذا تذكر الباحث معنا أن النظام المالي العالمي الرأسمالي لا يتجاوز عمره المائة
عام إلا بقليل ، علم أن من المبكر جدا الاستدلال بما تحقق اليوم على نجاح ” الربا ”
في تحقيق التنمية المنشودة ، وإن سلمنا بذلك فلا نسلم بأن النظام الخالي من الربا
لن يحقق رخاء أعظم ، ولا تنمية أكبر ، ومن ينفي ذلك يخوض في مجازفة غير علمية ولا
برهانية . فقد حققت الخلافة العثمانية والإسلامية عبر التاريخ نجاحا منقطع النظير
في بناء الدنيا والدين ، مع خلو أنظمتها الاقتصادية من فكرة الربا كلها .
بل لا دليل أصلا على أن عنصر “الربا” في الاقتصاد المالي ، هو العامل الإيجابي في
نموه ، من حيث المجموع ؛ ومن ينظر في حقيقة المجتمعات الرأسمالية ، وما تعانيه من
الآثار الكارثية للربا ، يعلم ذلك ، وإلا فما مصلحة البشر في أن تتجمع الثروات في
أيدي ثلة من المرابين ، والرأسماليين ، الذين ينهبون خيرات البلاد ، ويستنزفون
طاقات البشر ، من أجل تضاعف الثروة في أيدي نسبة ضئيلة ، تتراوح ما بين النصف في
المائة ، إلى خمسة بالمائة ، بينما تحرم الغالبية العظمى من فرص الرفاه والعيش
الكريم .
والله أعلم .

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android