لماذا لا يواكب الإسلام المتغيرات التي تحدث في زماننا ، حيث لا زلنا نتمسك بالأحكام التي كانت قبل (1400) سنة ، مما يجعلنا نشعر بالعزلة والغربة في هذا النظام العالمي . فالنظام المالي في الدول المتقدمة يعتمد على الربا ، واقتصاد هذه الدول جعل من هذه الدول غنية وناجحة ، مع أنّ الربا حرم بسبب مناسبة الزمان الذي كان به . والحجاب فرض لمناسبة الزمان أيضاً .
ولكن لا زالت هذه الأحكام ثابتة لا تتغير ، مع العلم أنّ الأحكام تغيرت في الماضي .
فعلى سبيل المثال :
شرعت صلاة التراويح 11 ركعة ، ثم جعلها أبو بكر رضي الله عنه 23 ركعة .
وكانت صلاة الجمعة بأذان واحد ، ثم جعل عثمان بن عفان رضي الله عنه للصلاة أذانين .
وأباح النبي صلى الله عليه وسلم المتعة ، ثم حرمها علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وكانت السنة أن تصلى صلاة العيد بعد الخطبة ، ثم جعل مروان بن عبد الملك الخطبة قبل الصلاة .
ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بناء المساجد على المقابر ، ثم قام الوليد بن عبد الملك بفعل ذلك .
وحرم الله أنواعاً معينة من الطعام ، ثم جاء النبي وحرم أكل الحمار ، وما إلى ذلك .
فهل التماشي مع أحوال المسلمين ، ومواكبة التغيرات في الحياة من جهة الأحكام يخالف أصول الدين ؟
لماذا لا تتغير الأحكام الشرعية بتغير الزمان ؟
السؤال: 223482
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
في كل الشرائع والأديان والمذاهب الفكرية والفلسفية ثمة مجموعتان كبيرتان من اختيارات المذهب الفكرية والعقائدية والتشريعية ، لا تخفيان على النقاد والباحثين :
أولاهما : مجموعة الثوابت والأركان والمبادئ ، أي الفلسفة العامة ، والخطوط العريضة التي تحدد ملامح هذا التشريع ، وتميزه عن غيره ، وهذه لا تتبدل ولا تتغير .
والمجموعة الثانية : هي تلك التقريرات التفصيلية التي تنبثق عن المبادئ العامة ، لتغطي الحوادث الجزئية ، والمواقف الإجرائية ، بما يخدم المبادئ العامة ويحققها .
فالملكية الفردية في الرأسمالية مثلا أساس وركن ركين في هذا النظام الاقتصادي أو الفلسفي ، لا يمكن أن يتغير يوما ما ، وإن تغير لم نعد نتحدث عن الرأسمالية ، بل عن مذهب جديد مختلف كليا ، ومن يطالب هذا النظام بإلغاء الملكية الفردية ، أو إضعافها ، فإنما يطالب بالانقلاب إلى مذهب آخر : كالاشتراكية مثلا ، أو الأنظمة المختلطة . ولكن إذا عمل هذا النظام على وضع بعض القوانين التي يعالج فيها آثارا سلبية لصور خاصة من صور تغول الملكية الفردية ، فإن أحدا لا يمكنه اتهام النظام بالتبدل الكلي ، ولكن يمكن أن يقع الخلاف في تفسير هذا السلوك ، وقياس انسجامه مع المبدأ العام أو انتقاصه منه ، وفرْقٌ بين التغييرين .
وهكذا ليست الشريعة الإسلامية خارجة عن هذا القانون ، ولهذا فإن أحدا من المفكرين العقلاء – سواء من المسلمين أو غير المسلمين – لا يطالب الشريعة بالتخلي عن ثيابها التي تجللها وتميزها عن غيرها من الشرائع الأرضية ، بدعوى تغير الزمان والعصر ، من غير مراعاةٍ للفرق بين الثوابت والمتغيرات ، ولا يطالبون بالانسلاخ عن الثوابت ؛ لأنهم يعلمون أن أحدا لا يملك أصلا تبديلها أو تغييرها !!
وهذه الثوابت تتمثل في العقائد وأمور التوحيد ومقاصد الشريعة العامة ، والقواعد الفقهية الكلية ، والقيم التشريعية ، والمفردات الإجماعية التي هي موارد اتفاق الأمة عبر الدهور والعصور ، والمسائل الجزئية التي ورد الشرع بحكمها (الوجوب أو التحريم) لأن ارتباطها بالمصلحة أو المفسدة ارتباط وثيق لا ينفك في أي زمان أو مكان .
فمثلا : وجوب الحجاب على النساء هذا الحكم ثابت لا يجوز تغييره ، لأنه مرتبط بغريزة الإنسان وميل كل من الجنسين إلى الآخر ، وهذا أمر ثابت في جميع البشر ، والإخلال بهذا الحكم يترتب عليه الانزلاق إلى الفوضى الخلقية التي تعاني منها دول العالم أجمع بلا استثناء .
فكيف يصح أن يقال بعد ذلك : إنه ينبغي إلغاء هذا الحكم بعد أن رأى العالم ما ترتب على الإخلال به من مفاسد ؟ بل يجب أن يزيد ذلك المسلمين تمسكا بهذا الحكم ويقينا بحكمة الشريعة الربانية .
وأما ما ذكرته من فروع في سؤالك فهي ليست من هذه الثوابت التي هي من خصائص الإسلام، فصلاة التراويح تعبد مفتوح بأصل الوضع الشرعي ، فلم يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم عددا لا يجوز تجاوزه .
وأذان عثمان رضي الله عنه الثاني يوم الجمعة هو تأكيد لواجب الأذان نفسه ، من غير تبديل ولا تغيير ، وإنما التأكيد بالتكرار .
وأما ما أحدثه الأمويون بتقديم خطبة العيد على الصلاة ، فهو بدعة أنكرها جميع العلماء من السلف والخلف ، وعدوه تلاعبا بالدين ، وإحداثا في التشريع ، لغرض سياسي لا لغرض مقصود مشروع ؛ ولذلك فقد عاد الأمر إلى نصابه في عامة البلدان ، وظل الناس يصلون العيد قبل الخطبة .
وأما حكم المتعة وتحريم لحوم الحمر : فهو نسخ وقع من المشرع نفسه ، وليس من العباد المتلقين للشريعة ، فلم يحرم علي بن أبي طالب رضي الله عنه المتعة ، بل حرمها النبي صلى الله عليه وسلم .
ومع ذلك لم ينكر العلماء إمكان تغير الأحكام لتغير خمسة أشياء ذكرها ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى ، وهي : الزمان ، والمكان ، والعادات ، والأحوال ، والنيات .
ولكن هذا التغير مقصور على الأحكام التي هي من طبيعتها متغيرة ، وليست ثابتة في أصل الوضع الشرعي .
وهذه الأحكام ذات الطبيعة المتغيرة والمتبدلة هي تلك الأحكام التي بنيت مآخذها على العرف ، أو المصلحة ، ولم يكن أصل بنائها على أصل شرعي ثابت . كما قال الإمام القرافي رحمه الله : ” القاعدة المجمع عليها : أن كل حكم مبني على عادة ؛ إذا تغيرت العادة : تغير ” ينظر : ” الفروق ” (4/103) ، فتأمل قوله ” مبني على العادة “؛ لتعلم أن التغير لا ينال إلا الأحكام التي بنيت على العادة .
أما الأحكام التي بنيت على أساس مقاصدي عام ، أو أساس إنساني مشترك في كل العصور والدهور ، كتحريم الربا مثلا ، فلا يمكن أن تتغير ؛ وهنا تتميز الشريعة الإسلامية بالمرونة من خلال هذا النوع من الأحكام ، وفي نفس الوقت بالثبات من خلال الأحكام الثابتة عبر الزمان والمكان .
ومن أعظم هذه المقاصد الشرعية المرعية : استسلام الملكف التام لرب العالمين وشرعه ، وإخراج النفس عن داعية الهوى ، وهو مدار كثير من الأحكام التعبدية المحضة . وهذا الباب لا مدخل فيه للتغير أصلا ، كما يعرفه من له أدنى مساس بالشرع وأصوله وحكمته .
يقول الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله :
” من المقرر في فقه الشريعة أن لتغير الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيرا كبيرا في كثير من الأحكام الشرعية الاجتهادية . فإن هذه الأحكام تنظيم أوجبه الشرع ، يهدف إلى إقامة العدل وجلب المصالح ودرء المفاسد . فهي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع والوسائل الزمنية وبالأخلاق العامة . فكم من حكم كان تدبيرا وعلاجا ناجعا لبيئة في زمن معين ، فأصبح بعد جيل أو أجيال لا يوصل إلى المقصود منه ، أو أصبح يفضي إلى عكسه بتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق .
وعن هذا أفتى الفقهاء المتأخرون من شتى المذاهب الفقهية في كثير من المسائل بعكس ما أفتى به أئمة مذاهبهم وفقهاؤها الأولون ، وصرح هؤلاء المتأخرون بأن سبب اختلاف فتواهم عمن سبقهم هو اختلاف الزمان وفساد الأخلاق . فليسوا في الحقيقة مخالفين للسابقين من فقهاء مذاهبهم ، بل لو وجد الأئمة الأولون في عصر المتأخرين ، ورأوا اختلاف الزمان والأخلاق لعدلوا إلى ما قال المتأخرون .
وعلى هذا الأساس أسست القاعدة الفقهية القائلة : لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان .
وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس : هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية ، أي التي قررها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة ، وهي المقصودة بالقاعدة آنفة الذكر .
أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة الناهية ، كحرمة المحرمات المطلقة ، وكوجوب التراضي في العقود ، والتزام الإنسان بعقده ، وضمان الضرر الذي يلحقه بغيره ، وسريان إقراره على نفسه دون غيره ، ووجوب منع الأذى وقمع الإجرام ، وسد الذرائع إلى الفساد ، وحماية الحقوق المكتسبة ، ومسؤولية كل مكلف عن عمله وتقصيره ، وعدم مؤاخذة بريء بذنب غيره ، إلى غير ذلك من الأحكام والمبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها ومقاومة خلافها ، فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان ، بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان والأجيال ، ولكن وسائل تحقيقها وأساليب تطبيقها قد تتبدل باختلاف الأزمنة المحدثة .
فوسيلة حماية الحقوق مثلا – وهو القضاء – كانت المحاكم فيه تقوم على أسلوب القاضي الفرد ، وقضاؤه على درجة واحدة قطعية ، فيمكن أن تتبدل إلى أسلوب محكمة الجماعة ، وتعدد درجات المحاكم ، بحسب المصلحة الزمنية التي أصبحت تقتضي زيادة الاحتياط لفساد الذمم .
فالحقيقة أن الأحكام الشرعية التي تتبدل بتبدل الزمان : مهما تغيرت باختلاف الزمن ، فإن المبدأ الشرعي فيها واحد ، وهو إحقاق الحق ، وجلب المصالح ودرء المفاسد .
وليس تبدل الأحكام إلا تبدل الوسائل والأساليب الموصلة إلى غاية الشرع ، فإن تلك الوسائل والأساليب في الغالب لم تحددها الشريعة الإسلامية ، بل تركتها مطلقة لكي يختار منها في كل زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجا ، وأنجح في التقويم علاجا ” .
انتهى من ” المدخل الفقهي العام ” (940-942) .
ويقول الدكتور عابد السفياني :
” إن تغير الأحوال والأزمنة لم تغفله الشريعة ، بل وضعت له أحكاما تخصه … فاختلاف الأزمنة التي تأتي على المسلمين فترة القوة ، وفترة الضعف ، جعل الله لكل زمن حكما يخصه في حال القوة ، وكذلك في حال المجاعة والحاجة ، وفي حال الاكتفاء … ولا تعني مراعاة الشريعة للأزمان والأحوال والقدرات ، أنها تركت تحديد المصلحة وتشريع الحكم للعقل البشري ، كلا ، فإنها لم تترك ذلك له ، لا في العبادات ولا في المعاملات ..
وإن تغير الفتوى إذا تغير تحقيق المناط ، لكي تنتظم كل واقعة تحت حكمها الشرعي ، لا صلة له البتة بتغير أحكام الشريعة بزعم تغير المصالح بتغير الأزمنة ، ومن هنا فإن الفقه الإسلامي يتجدد ولا يجمد ، حيث يأخذ كل واقعة بخصوصها فيدخلها تحت حكمها الشرعي حسب تحقق مناطها ، فإن جاء زمن آخر تجددت تلك الواقعة على صورة أخرى وتغير تحقيق مناطها ، وضعت تحت حكمها الخاص بها ، وهكذا … ولكل واقعة بحسب تحقق مناطها حكم ثابت يحقق المصلحة في جميع الأزمان ” انتهى من ” الثبات والشمول ” (ص/540) .
وللتوسع ينظر رسالة بعنوان : ” محاولات التجديد في أصول الفقه “، هزاع الغامدي (ص823-828) فقد ناقش هذه المسألة بتوسع .
كما سبق في موقعنا التطرق لهذه المسألة في الفتوى رقم : (39286) ، (130689) .
ومن المهم هنا أن يتذكر السائل الباحث معنا أن النجاح المؤقت الذي حققته الحضارة الغربية لم يكن بفضل النظام الربوي الرأسمالي ، فقد حققت الاشتراكية فترة الاتحاد السوفييتي نجاحا كبيرا أيضا في بناء دولة قوية ، واقتصاد متين ، ولكن الزمن كان كفيلا بإثبات الفشل الذريع لهذه الأنظمة الوضعية ، وإثبات أن نجاحها بهرج مؤقت لا يلبث أن ينكشف على حقيقته .
وهكذا يقرأ اليوم كثير من كبار المحللين والمفكرين الاقتصاديين سقوط النظام المالي ( الرأسمالي ) العالمي بعد الأزمة المالية الأخيرة ، حيث تساقطت الدول في تداعياتها إلى القدر الذي أصبحت معه عاجزة عن تحقيق معدلات النمو المطلوبة ، وغدا الفرد الأوروبي يفكر في الهجرة إلى حيث يجد فرصة العمل التي تحقق له كفايته ، كما رصدت ذلك العديد من الدراسات والبرامج الوثائقية المنشورة على الإنترنت .
وإذا تذكر الباحث معنا أن النظام المالي العالمي الرأسمالي لا يتجاوز عمره المائة عام إلا بقليل ، علم أن من المبكر جدا الاستدلال بما تحقق اليوم على نجاح ” الربا ” في تحقيق التنمية المنشودة ، وإن سلمنا بذلك فلا نسلم بأن النظام الخالي من الربا لن يحقق رخاء أعظم ، ولا تنمية أكبر ، ومن ينفي ذلك يخوض في مجازفة غير علمية ولا برهانية . فقد حققت الخلافة العثمانية والإسلامية عبر التاريخ نجاحا منقطع النظير في بناء الدنيا والدين ، مع خلو أنظمتها الاقتصادية من فكرة الربا كلها .
بل لا دليل أصلا على أن عنصر “الربا” في الاقتصاد المالي ، هو العامل الإيجابي في نموه ، من حيث المجموع ؛ ومن ينظر في حقيقة المجتمعات الرأسمالية ، وما تعانيه من الآثار الكارثية للربا ، يعلم ذلك ، وإلا فما مصلحة البشر في أن تتجمع الثروات في أيدي ثلة من المرابين ، والرأسماليين ، الذين ينهبون خيرات البلاد ، ويستنزفون طاقات البشر ، من أجل تضاعف الثروة في أيدي نسبة ضئيلة ، تتراوح ما بين النصف في المائة ، إلى خمسة بالمائة ، بينما تحرم الغالبية العظمى من فرص الرفاه والعيش الكريم .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة