هل يوجد قرين للجان من الشياطين يوسوس لهم ، بما أنهم من نفس الجنس ؟ وكيف أن منهم من آمن بالله ، وأبوهم إبليس اللعين مازال حيا ؟ هل أنهم يتعوذون منه كسائر المسلمين ، ويقرؤون سورة البقرة في منازلهم ؟
مسائل حول الجن ، ووسوستهم ، وأحوالهم ؟
السؤال: 223525
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
الجن خلق من خلق الله تعالى ، وهم عباد مكلفون بالأوامر والنواهي ، كالبشر ، فمنهم المؤمن والكافر والفاسق ، ومحسنهم يدخل الجنة ، ومسيئهم يستحق العذاب ، قال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذريات/56 .
وقال تعالى عن الجن : ( وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ) الجن/11 .
وعالم الجن من عالم الغيب ، لا نعلم عنه إلا ما أعلمنا الله تعالى ، في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
فلا نتكلم عنهم بشيء إلا بما ورد في النصوص الشرعية ، قال تعالى : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ) الإسراء/36 .
انظر إجابة السؤال رقم : (20666).
ثانيا :
الذي وردت به النصوص : أن الله تعالى جعل للإنس قرناء من الجن ، يوسوسون لهم ويأمرونهم بمعصية الله ويؤزونهم على الشر ، ولم يرد أن للجن قرناء من الجن .
قال تعالى :
(وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) فصلت/ 25
” أي: وقضينا لهؤلاء الظالمين الجاحدين للحق قُرَنَاءَ من الشياطين، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) أي تزعجهم إلى المعاصي وتحثهم عليها ” .
“تفسير السعدي” (ص 747).
وقال عز وجل :
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) الزخرف/ 36 – 38
” أَيْ: هَذَا الَّذِي تَغَافَلَ عَنِ الْهُدَى نُقَيِّضُ لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يُضِلُّهُ، وَيَهْدِيهِ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ. فَإِذَا وَافَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يتبرم بالشيطان الذي وكل به ” .
“تفسير ابن كثير” (7/ 228).
وروى مسلم (2814) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ) قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (وَإِيَّايَ، إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ)
ولا يتعدى عمل القرين الوسوسة والإغواء والإضلال ، وبحسب قوة إيمان العبد يضعف كيد القرين . انظر إجابة السؤال رقم : (149459) .
ثالثا :
دلت النصوص ، التي سبق بعضها ، على أن الجن : منهم مؤمنون بالله جل جلاله ، ومنهم كافرون به ، شأنهم في ذلك شأن بني آدم .
وأما أن إبليس : هل أبو الجن كلهم ؟
فهذا قد اختلف فيه أهل العلم ، كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم (102373).
قال الشيخ عمر سليمان الأشقر رحمه الله :
” ليس لدينا نصوص صريحة تدلنا على أن الشيطان أصل الجن ، أو واحد منهم ؛ وإن كان هذا الأخير أظهر ، لقوله تعالى : ( إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) …” انتهى من كتاب “عالم الجن والشياطين” (18) .
وإذا صح أن إبليس ، رأس الكفر ، هو أبو الجن ، مسلمهم ، وكافرهم ؛ فإن هذا ممكن ، فإبليس نفسه مكلف بالإيمان بالله ، وطاعته ، محاسب على ترك ذلك ، وإذا ترك هو بشخصه ذلك كله ، فلا يلزم منه أن تتركه ذريته ، وسواء في ذلك حياته ، أو مماته ، فإنه ليس له سلطان على أتباعه ، أو ذريته ، إلا بالدعوة إلى طريقه ، والإضلال والوسوسة .
ومثل هذا من أمر الله تعالى وتمام علمه وحكمته وقدرته ، كما قال عز وجل : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) الروم/ 19
“فَمِنْ ذَلِكَ: إِخْرَاجُ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِ ” .
“تفسير ابن كثير” (6/ 308).
رابعا :
الذي يظهر أن مسلمي الجن يتعوذون بالله من الشيطان الرجيم كمسلمي الإنس ؛ لأنهم مخاطبون بالشريعة ، ويقرؤون القرآن ويؤمنون به ، وقد قال الله تعالى : (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) النحل/ 98
وهذا خطاب يدخل تحته كل مكلف .
خامسا :
اختلف أهل العلم : هل يوسوس الجني للجني كما يوسوس للإنسي ؟ على قولين في ذلك .
انظر: “تفسير ابن كثير” (8/540) .
القول الأول : أن الشياطين توسوس في صدور الجن ، كما توسوس في صدور الإنس أيضا .
قال الإمام أبو جعفر ابن جرير الطبري رحمه الله :
” وَقَوْلُهُ: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس: 5] يَعْنِي بِذَلِكَ: الشَّيْطَانَ الْوَسْوَاسَ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ: جِنِّهِمْ وَإِنْسِهِمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَالْجِنُّ نَاسٌ، فَيُقَالُ: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [هود: 119] : قِيلَ: قَدْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نَاسًا، كَمَا سَمَّاهُمْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ رِجَالًا، فَقَالَ: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 6] فَجَعَلَ الْجِنَّ رِجَالًا، وَكَذَلِكَ جَعَلَ مِنْهُمْ نَاسًا. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ، إِذْ جَاءَ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ فَوَقَفُوا، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: نَاسٌ مِنَ الْجِنِّ، فَجَعَلَ مِنْهُمْ نَاسًا، فَكَذَلِكَ مَا فِي التَّنْزِيلِ مِنْ ذَلِكَ” انتهى من “تفسير الطبري” (24/756) .
وقالَ أَبُو اللَّيْثِ نَصْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ (ت:375هـ): ( الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ. يعني: يَدخُلُ في صُدورِ الْجِنِّ كما يَدخُلُ في صُدورِ الإِنْسِ، ويُوَسْوِسُ لهم. ويُقالُ: النَّاسِ في هذا الْمَوضِعِ يَصلُحُ للجِنِّ والإِنْسِ؛ فإذا أَرادَ به الْجِنَّ فمَعناه يُوَسْوِسُ في صُدورِ المؤمنينَ الذين هُمْ جِنٌّ). [بحر العلوم: 3/528]
وقال البغوي رحمه الله :
” (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) يَعْنِي يَدْخُلُ فِي الْجِنِّيِّ كَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِنْسِيِّ، وَيُوَسْوِسُ لِلْجِنِّيِّ كَمَا يُوَسْوِسُ لِلْإِنْسِيِّ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ ” انتهى ، من “تفسير البغوي” (8/ 597).
وانظر : “الكشف والبيان” للثعلبي(10/341) ، “تفسير القرطبي” (20/ 264) ، ” تنوير المقباس” (ص: 522) للفيروزآبادي ، “السراج المنير” (4/ 617) للخطيب الشربيني .
وهذا القول : قد رده ابن القيم رحمه الله ، واختار المنع ، وأن الوسوسة إنما تكون في صدور الناس ، لا في صدور الجن .
قال رحمه الله : ” وقولُه تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرون في هذا الجارِّ والمجرورِ بم يَتَعَلَّقُ ؟
فقالَ الفَرَّاءُ وجماعةٌ: هو بيانٌ للناسِ الْمُوَسْوَسِ في صدورِهم. والمعنى: يُوَسْوِسُ في صدورِ الناسِ الذين هم من الْجِنِّ والإنْسِ، أي: الْمُوَسْوَسُ في صدورِهم قِسمان؛ إنسٌ وجِنٌّ، فالوَسواسُ يُوَسْوِسُ للجِنِّيِّ كما يُوَسْوِسُ للإنسيِّ …
وهذا القولُ ضَعيفٌ جِدًّا لوُجوهٍ:
أحدُها: أنه لم يَقُمْ دليلٌ على أنَّ الْجِنِّيَّ يُوَسْوِسُ في صُدورِ الْجِنِّ، ويُدخِلُ فيه ما يُدْخِلُ في الإنسيِّ، ويَجرِي منه مَجراه من الإنسيِّ، فأيُّ دليلٍ يَدُلُّ على هذا حتى يَصِحَّ حَمْلُ الآيةِ عليه.
الثاني: أنه فاسدٌ من جِهةِ اللفظِ أيضًا؛ فإنه قالَ: الذي يُوَسْوِسُ في صُدورِ الناسِ، فكيف يُبَيِّنُ الناسَ بالناسِ؛ فإنَّ مَعنى الكلامِ على قولِه يُوَسْوِسُ في صدورِ الناسِ الذين هم ، أو كائنِينَ ، من الجِنَّةِ والناسِ، أَفيَجوزُ أن يُقالَ: في صدورِ الناسِ ، الذين هم من الناسِ وغيرِهم، هذا ما لا يَجوزُ، ولا هو استعمالٌ فصيحٌ.
الثالثُ: أن يكونَ قد قَسَّمَ الناسَ إلى قِسمينِ: جِنَّةٍ وناسٍ، وهذا غيرُ صحيحٍ، فإنَّ الشيءَ لا يَكونُ قَسيمَ نفسِه.
الرابعُ: أنَّ الْجِنَّةَ لا يُطْلَقُ عليهم اسمُ الناسِ بوجهٍ ، لا أَصْلاً واشْتِقاقًا ولا استعمالاً، ولفْظُهما يَأْبى ذلك؛ فإنَّ الجِنَّ إنما سُمُّوا جِنًّا من الاجتنانِ، وهو الاستتارُ، فهم مُسْتَتِرون عن أَعْيُنِ البَشَرِ ، فُسُمُّوا جِنًّا لذلك، من قولِهم: جَنَّه الليلُ ، وأَجَنَّه : إذا سَتَرَه … ، وأمَّا الناسُ فبَيْنَه وبينَ الإنسِ مناسَبَةٌ في اللفظِ والمعنى ..” ، وطول في بيان ذلك ، ثم قال :
” والمقصودُ أنَّ الناسَ اسمٌ لبني آدمَ ، فلا يَدْخُلُ الجنُّ في مُسمَّاهم ، فلا يَصِحُّ أن يكونَ من الْجِنَّةِ والناسِ بيانًا لقولِه: فِي صُدُورِ النَّاسِ. وهذا واضحٌ لا خَفَاءَ فيه.
فإن قيلَ: لا مَحذورَ في ذلك، فقد أُطْلِقَ على الْجِنِّ اسمُ الرِّجالِ، كما في قولِه تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ [الجن:6] ، فإذا أُطْلِقَ عليهم اسمُ الرجالِ ، لم يَمْتَنِعْ أن يُطلَقَ عليهم اسمُ الناسِ.
قلتُ: هذا هو الذي غَرَّ مَن قالَ: إنَّ الناسَ اسمٌ للجِنِّ والإنسِ في هذه الآيةِ.
وجوابُ ذلك: أنَّ اسمَ الرجالِ إنما وَقَعَ عليهم وُقوعًا مُقَيَّدًا في مُقابَلَةِ ذِكْرِ الرجالِ من الإنْسِ، ولا يَلْزَمُ من هذا أن يَقَعَ اسمُ الناسِ والرجالِ عليهم مُطْلَقًا.
وأنت إذا قُلْتَ إنسانٌ من حِجارةٍ أو رَجُلٌ من خَشَبٍ ونحوَ ذلك، لم يَلْزَمْ من ذلك وُقوعُ اسمِ الرجلِ والإنسانِ عندَ الإطلاقِ على الْحَجَرِ والْخَشَبِ.
وأيضًا فلا يَلْزَمُ من إطلاقِ اسمِ الرجُلِ على الْجِنِّيِّ أن يُطْلَقَ عليه اسمُ الناسِ؛ وذلك لأنَّ الناسَ والْجِنَّةَ مُتقابلانِ.
و كذلك الإنسُ والْجِنُّ فاللهُ سُبحانَه يُقابِلُ بينَ اللفظينِ كقولِه: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ [الأنعام:130] وهو كثيرٌ في القرآنِ.
وكذلك قولُه: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ يَقتضِي أنهما مُتقابلانِ ، فلا يَدْخُلُ أحدُهما في الآخَرِ .
بِخِلافِ الرجالِ والجِنِّ ، فإنهما لم يُستَعْمَلا متقابلينِ ، فلا يُقالُ: الْجِنُّ والرجالُ، كما يقالُ: الجِنُّ والإنْسُ .
وحينئذٍ ، فالآيةُ أَبْيَنُ حُجَّةٍ عليهم في أنَّ الْجِنَّ لا يَدخُلونَ في لفظِ الناسِ؛ لأنه قابَلَ بينَ الْجِنَّةِ والناسِ، فَعُلِمَ أنَّ أحدَهما لا يَدْخُلُ في الآخَرِ.
فالصوابُ القولُ الثاني ، وهو أنَّ قولَه: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيانٌ للذي يُوَسْوِسُ، وأنهم نوعان إنسٌ وجِنٌّ، فالْجِنِّيُّ يُوَسْوِسُ في صدورِ الإنْسِ، والإنسيُّ أيضًا يُوَسْوِسُ إلى الإنسيِّ .
فالْمُوَسْوَسُ نوعان: إنسٌ وجِنٌّ، فإنَّ الوَسوسةَ هي الإلقاءُ الْخَفِيُّ في القَلْبِ ، وهذا مُشْتَرَكٌ بينَ الجِنِّ والإنْسِ، وإن كان إلقاءُ الإنسيِّ ووَسْوَسَتُه إنما هي بِواسِطَةِ الأُذُنِ، والجنِّيُّ لا يَحتاجُ إلى تلك الواسِطَةِ؛ لأنه يَدخُلُ في ابنِ آدمَ ويَجرِي منه مَجرى الدَّمِ .
على أنَّ الجِنِّيَّ قد يَتَمَثَّلُ له ويُوَسْوِسُ إليه في أُذُنِه كالإنسيِّ، كما في البخاريِّ، عن عُروةَ، عن عائشةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: ( إِنَّ الْمَلائِكَةَ تُحَدِّثُ فِي الْعَنَانِ، وَالْعَنَانُ الْغَمَامُ، بِالأَمْرِ يَكُونُ فِي الأَرْضِ فَتَسْتَمِعُ الشَّيَاطِينُ الْكَلِمَةَ فَتُقِرُّهُا فِي أُذُنِ الْكَاهِنِ كَمَا تُقِرُّ الْقَارُورَةَ فَيَزِيدُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ) .
فهذه وَسوسةٌ وإلقاءٌ من الشيطانِ بواسِطَةِ الأُذُنِ.
فالشيطانُ يُوحِي إلى الإنسِيِّ باطِلَه ويُوحيهِ الإنسُ إلى إنسيٍّ مِثلِه فشياطينُ الإنْسِ والجِنِّ يَشتركان في الوَحْيِ الشيطانيِّ ، ويَشتركان في الوَسوسةِ.
وعلى هذا فتَزولُ تلك الإشكالاتُ والتَّعَسُّفاتُ التي ارْتَكَبَها أصحابُ القولِ الأوَّلِ. وتَدُلُّ الآيةُ على الاستعاذةِ من شَرِّ نَوْعَي الشياطينِ؛ شياطينِ الإنْسِ والجِنِّ.
وعلى القوْلِ الأوَّلِ : إنما تَكونُ الاستعاذةُ من شَرِّ شياطينِ الجِنِّ فقط ، فتَأَمَّلْهُ، فإنه بَديعٌ جِدًّا ” انتهى، مختصرا ، من “بدائع الفوائد” (2/803-809) ط عالم الفوائد .
وهو كذلك اختياره شيخه ، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، كما في “منهاج السنة” (5/188) ، و”مجموع الفتاوى” (17/509) .
سادسا :
هذا عن الوسوسة الحاصلة بالصدر، أما حصول الإضلال والإغراء من شياطين الجن للجن: فلا يمتنع، ولهذا حكى الله تبرؤ إبليس اللعين من أتباعه من أهل النار ، وهذا يعم إنسهم وجنهم : (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) إبراهيم/22
وقد أخرج ابن أبي حاتم في “تفسيره” (4/ 1372) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ” إِنَّ لِلْجِنِّ شَيَاطِينَ يُضِلُّونَهُمْ، مِثْلَ شَيَاطِينِ الإِنْسِ يُضِلُّونَهُمْ ” وإسناده ضعيف .
على أنه يقال بعد ذلك كله : إن التشقيق والتنقير في مثل ذلك ، والمبالغة في البحث عن تفاصيله ، مما لا يترتب عليه كثير عمل ، ولا في علمه منفعة للعبد في دينه ودنياه ، ولا في الجهل به نقص ولا مضرة عليه ؛ وإنما على العبد أن يعرف عدوه من شياطين الإنس والجن ، الذين يسعون في فتنته وإضلاله ، ويحذر من طرقهم ، ويحذر سبلهم ، وليطلب العبد الناصح لنفسه ، ما ينجيه من سبل الغواية والضلال ، وما ينفعه عند رب العالمين .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة