تنزيل
0 / 0

هل كتب البلاذري التاريخية موثوقة ؟

السؤال: 224365

أثبتم بطلان الكثير من الادعاءات التاريخية المذكورة في كتاب ” جمل من أنساب الأشراف ” للإمام البلاذري رحمه الله تعالى :
كاغتيال عمر بن الخطاب لسعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهما ، في السؤال رقم : (219532) .
واعتداء عمر بن الخطاب على فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنهم ، في السؤال رقم : (98641).
وبطلان صحة حديث يذم معاوية في السؤال رقم : (210844).
بعد هذه الأمثلة ، هل يجوز – مع كامل الاحترام للإمام البلاذري رحمه الله – أن نعتبر الكتاب المذكور مصدرا موثوقا في سرد السيرة والتاريخ الإسلامي بشكل عام ؟

ملخص الجواب

والخلاصة أن الباحث المحقق لا يعتمد على موثوقية الكاتب أو الكتاب ، بقدر ما يستند إلى الدرس الخاص بالرواية نفسها ، وذلك بتمحيص أسانيدها وأركانها ، وعرضها على النقد الداخلي والخارجي ، ليصير إلى النتيجة في كل رواية على حدة ، وبهذا ينتفع الباحث من كتب التاريخ كلها حتى لو اشتملت على بعض الروايات الغريبة المنكرة ، كما في كتب البلاذري . وهذا ما سلكه المحققون من العلماء ، كالحافظ المزي ، والذهبي ، والحافظ ابن حجر ، ومن المتأخرين العلامة محمد رشيد رضا ، والشيخ الألباني رحمهم الله جميعا ، وغيرهم من علماء الرجال والتاريخ المتأخرين ، امتلأت كتبهم بالاعتماد على كثير من مرويات البلاذري ، ولم يردها أحد لمجرد ورودها من طريقه ، وإنما كانوا يقيمون البحث الخاص للتحقق من الرواية ، كما هو الشأن في التعامل مع أي كتاب . للفائدة ، ينظر جواب السؤال رقم : (105660) . والله أعلم .

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

إطلاق وصف ” الموثوقية ” أو عدمها على كتب البلاذري لن يخلو من بعض الميل والحيف ،
وذلك أن أكثر كتب التاريخ المسندة – وكتب البلاذري منها – كانت تعتمد مبدأين اثنين
في سرد مروياتها :
الأول :
توثيق الحكاية والرواية وتدوينها كما بلغت ، مع الإحالة إلى الإسناد الذي تحمَّل
تلك الرواية ، وإخلاء العهدة عن المسؤولية تجاه صحة الحادثة أو كذبها أو خطئها ،
وهذا المبدأ يقتصر على أمانة النقل ، والرغبة في الجمع والسرد المجردين ، من غير
تدخل في النقد ، ولا اجتهاد في الاختيار والتمحيص ، كي لا تفقد الكتب والصحف أيا من
الروايات والأخبار تحت غطاء النقد والتمييز .
الثاني :
جمع الطرق والروايات الواردة في الشيء المروي ، بحيث يتمكن الناقد من النظر في جميع
ذلك ، ويميز الثابت منها ، من غير الثابت ، ليقارن بينها ، وينتقي من غير الثابتة
ما يصلح في الشواهد والمتابعات ، ويمكن الاستئناس به .

مع التنبيه إلى أن المعتاد السائر في عمل المؤرخين : هو قدر من التساهل والتخفيف
في أمر المرويات التاريخية ، بما لا يعتاد مثله ، ولا يقبل في أمر المرويات الشرعية
والآثار النبوية .
وقد سبق التعرض لشيء من هذا المعنى في الموقع في جواب السؤال رقم : (105726) ،
والإمام أحمد بن يحيى البلاذري (ت279هـ) اعتمد في كتبه هذين المبدأين ، مع قدر جيد
من الانتقاء والاختيار والاجتهادات النقدية للمرويات .
ولكن الدراسة العملية التطبيقية أثبتت لنا اشتمال كتبه على الكثير من المرويات التي
ينفرد بها ، أو التي هي محل شك وتردد ، يسوقها أحيانا خطأ على وجه الاعتماد ،
وأحيانا أخرى يسوقها بمقصد الجمع والسرد وإحالة العهدة على الإسناد لا غير ، كما هي
عادة المؤرخين ، لا يختلف في ذلك عن الإمام الطبري مثلا ، الذي امتلأت مؤلفاته
التاريخية بالمرويات غير الثابتة ، ولم يكن ذلك سبيلا للطعن في شخصه ، فهو إمام
يسلم الجميع بإمامته ، وإنما فسر العلماء مسلكه هذا في ضوء المبدأين اللذين سبق
تقريرهما.
وهكذا الشأن في الإمام البلاذري ، فقد وصفه ياقوت الحموي في ” معجم الأدباء ”
(2/531) بقوله : ” كان عالما فاضلا شاعرا راوية نسابة متقنا ، وكان مع ذلك كثير
الهجاء بذيء اللسان آخذا لأعراض الناس “.
ونعته الإمام الذهبي في ” سير أعلام النبلاء ” (13/162) بأنه ” العلامة الأديب
المصنف “. وقال عنه في ” تاريخ الإسلام ” (6/505): ” له كتب جياد . وهو صاحب كتاب
البلدان ، صنفه وأحسن تصنيفه “.

وهكذا لم نجد في المحدثين من يتهمه بالكذب ، أو نكارة الحديث ، وغاية ما هنالك
وصفه بالهجاء وذرب اللسان ، والله يعفو عنا وعنه .

وقد استدل العلماء على تحري البلاذري في كتبه – في كثير من الأحيان وليس دائما –
بقوله في بعض المواضع : ” وقد روى ذلك ولا أدري من أين جاء به من رواه “.
وقوله : ” حدثني هشام بن عمار في إسناد له لم أحفظه “.
وبأنه في أحيان كثيرة يرجح بين الروايات ، ويظهر رأيه ونقده فيقول مثلا : ” والخبر
الأول أثبت “، ونحو ذلك من العبارات .
وهذه كلها أمثلة تدل على قدر من التحري والتدقيق يبذله رحمه الله في كتبه .
ويقول الدكتور عبد العزيز الدوري :
” وقد شهد النصف الثاني للقرن الثالث الهجري ظهور مؤرخين لا تحدهم مدرسة أو اتجاه
مما ذكر ، بل حاولوا أن يستفيدوا من مواد السيرة ، ومن كتب الإخباريين ، ومن كتب
الأنساب والمصادر الأخرى المتيسرة ، وشملت دراستهم الأمة بصورة منظمة ، وكان عملهم
انتقاء المادة بعد النقد ، وأفقهم عاما أو عالميا .
وأول ممثل للتطور الجديد هو أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري (ت279هـ/892م). وله
كتابان مهمان هما ” فتوح البلدان “، و” أنساب الأشراف “.
أما فتوح البلدان فيبحث تاريخ الفتوحات الإسلامية ، ويقدم قصة متسلسلة لفتح كل مصر
. وقد أخذ البلاذري مادته من الكتب الخاصة بفتوح كل مصر ، ومن المواد التي استطاع
جمعها خلال زيارته للأمصار ، ومن الروايات الأخرى المتيسرة . وطريقته في الكتابة
تكمن في أنه ينتقي المادة بعد الغربلة والنقد ، ويعطي صورة متزنة للحوادث ، مع تجنب
إيراد روايات متعددة حول الحادث ، وهو يعتمد كثيرا على روايات المدينة التي تتصف
بالحياد والدقة أكثر من غيرها ، كما أنه استفاد بالدرجة الأولى من الروايات المحلية
. وقد أورد البلاذري كثيرا من المعلومات القيمة عن النواحي الثقافية والاقتصادية
والإدارية .
أما ” أنساب الأشراف ” فهو كتاب عام للتاريخ الإسلامي في إطار الأنساب ، وهو يمثل
مزيجا فذا في الخطة والمادة . فخطته تجمع بين أساليب كتابة كتب الطبقات وكتب
الأخبار وكتب الأنساب . وتشمل سيرة كل خليفة الأحداث التي وقعت على عهده ، بما في
ذلك فعاليات الأحزاب السياسية ، مع عناوين فرعية للحوادث المهمة تشبه عناوين ” كتب
” الإخباريين . وهو يراعي التسلسل التاريخي عادة ، ومع ذلك توجد استثناءات فرضتها
ضرورة مراعاة تسلسل النسب ( مثلا يرد الكلام عن يزيد قبل عثمان بن عفان ).
ينقد البلاذري مصادره قبل الأخذ عنها . ولكننا نلاحظ أن الآراء عن المؤرخين
السابقين قد استقرت في عصره . وهذا ينعكس في مثل قوله ” الواقدي في إسناده “، و”
أبومخنف في إسناده ” الخ .
ويظهر أن بعض الروايات كانت مقبولة لدى عامة المؤرخين كما يظهر من بعض أخباره التي
تبدأ بـ ” قالوا “.
ويظهر أن البلاذري في انتقائه لمادته التاريخية أعطى أهمية خاصة للروايات التي تعود
للمنطقة التي وقع فيها الحادث ، وأتمها بروايات أخرى حول الموضوع .
فمثلا في حديثه عن ” الشورى ” يعتمد بالدرجة الأولى على الواقدي والزهري (المدينة)،
ويضيف إلى ذلك روايات عن أبي مخنف (وهي أقرب للعلويين)، ويأخذ عن الزبير بن بكار
فيما يخص الأنساب . وفي أخباره عن عبد الملك بن مروان يعتمد كثيرا على المدائني (عن
عوانة بن الحكم)، وعلى عوانة بن الحكم والواقدي (دمشق والمدينة)، ويضيف إلى ذلك بعض
الروايات العراقية . وفي أخباره عن وقعة (الحرة) يستند بصورة أساسية إلى المدائني
والواقدي وعوانة وأشياخ من المدينة ، وبذلك يعطي روايات مدنية وأموية .
أما مصادر البلاذري فمؤلفات مكتوبة وروايات شفوية . فبعض التعابير مثل “حدثني”
و”قال لي” تشير إلى روايات شفوية مباشرة ، بينما تشير “روي” بصورة عامة إلى مؤلفات
مكتوبة ، في حين أن ” قال ” تعني أخذ رواية شفوية أو الأخذ من كتاب .
ويستعمل البلاذري الإسناد عادة في بعض رواياته التي تتعلق بحوادث المدينة زمن
الراشدين ، وفي بعض الروايات المنفردة ، وإلا فإنه يأخذ عن مصدر سلسلة إسناده
معروفة ، فيكتفي بذكره. وكثيرا ما يستعمل الإسناد الجمعي ليدل على الاتفاق على
المعلومات الأساسية ، ثم يورد إضافات بسيطة .
ويحدث أحيانا أن يورد البلاذري عدة روايات ، بينها شيء من الاختلاف حول الموضوع
نفسه . وترد لديه بعض الروايات المنفردة دون إسناد .
على الرغم من اتصاله بالعباسيين إلا أن البلاذري محايد في أخباره ، ومتزن ، فهو
يفسح المجال للروايات كافة ، ويحاول بصورة جدية أن يكون موضوعيا في أخباره .
ويعبر البلاذري في ” أنساب الأشراف ” عن فكرة وحدة الأمة واتصال خبراتها في التاريخ
الإسلامي . أما ” فتوح البلدان ” فيظهر قيمة خبرة الأمة للأغراض الإدارية
والتشريعية ” .
انتهى من ” نشأة علم التاريخ عند العرب ” (ص56-58) .
وللتوسع ينظر :
1. صلاح الدين المنجد ، مقدمة تحقيق كتاب “فتوح البلدان”، دار القاهرة.
2. فوزي ساعاتي، ” موارد البلاذري في كتابه فتوح البلدان ” ، رسالة دكتوراة في
جامعة أم القرى، 1989م.
3. صفاء حافظ، ” البلاذري ومنهجه في فتوح البلدان ” ، (ص29-42) .

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعتم بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android