تنزيل
0 / 0
36,91126/04/2015

هل ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في أحد رسائله أنه أشعري ؟

السؤال: 226818

قرأت على النت أن الشيخ ابن تيمية قال في إحدى رسائله بأنه أشعري ؟ فهل هذا النقل صحيح ؟ وهل كتب ابن تيمية ذلك فعلا ؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
الواقع أن المتأمل في هذه “الشبهة” ، أو لِنَقُل : في هذه “التهمة” ، يجد أن
التدليل على بطلانها ، ومنافاتها لحال شيخ الإسلام ابن تيمية ، وجهوده ، ومعارفه هي
أشبه شيء بقول المتنبي :
وليس يصِحُّ في الأذهانِ شيءُ … إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ !!
وإنما مثل من يحتفي بهذه الأقوال ، والروايات ، في جانب ما استفاض وعرف عن شيخ
الإسلام وحياته ، ووجده الناس من تصانيفه ومؤلفاته ، مثله كمثل من يتعلق برواية
غريبة شاذة ، وحيدة فاذة ، تخالف ما تواتر من الأخبار ، واستفاض من الروايات
والآثار !!
روى الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التيمي ، رحمه الله ، قَالَ: ” كَانُوا
يَكْرَهُونَ غَرِيبَ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامَ “
انتهى من “المحدث الفاصل” ، الرامهرمزي (565) .
وقال أبو يُوسُفَ: ” مَنْ تَتَبَّعَ غَرِيبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ ” .
انتهى من “المحدث الفاصل” (562) ، “الكفاية” للخطيب البغدادي (142) .

ولولا أن مثل هذه الروايات قد سيقت في مصادر تاريخية ، لها اعتبارها ، ومن الناس
من قد يصدر عنها ، أو يغتر بما فيها ؛ لكان الإعراض عن الاشتغال بها أولى ، وأدعى
لرفضها ؛ لكن : كيف ، وقد قيل ؟!! و” لكُلِّ ساقِطَةٍ لاقِطَةٌ ” !!
ثانيا :
أكثر ما غر من نقل مثل هذا الكلام ، ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله في ترجمته له
من “الدرر الكامنة” (1/148) ، في جملة حكايته لمحنته ، وحاله مع خصومه :
” وقام القاضي زين الدين ابن مخلوف قاضي المالكية مع الشيخ نصر ، وبالغ في أذية
الحنابلة ، واتفق أن قاضي الحنابلة شرف الدين الحراني كان قليل البضاعة في العلم ،
فبادر إلى إجابتهم في المعتقد واستكتبوه خطه بذلك ، واتفق أن قاضي الحنفية بدمشق
وهو شمس الدين ابن الحريري انتصر لابن تيمية ، وكتب في حقه محضرا بالثناء عليه
بالعلم والفهم ، وكتب فيه بخطه ثلاثة عشر سطرا من جملتها أنه منذ ثلاثمائة سنة ما
رأى الناس مثله ، فبلغ ذلك ابن مخلوف ، فسعى في عزل ابن الحريري، فعزل .. ، وتعصب
سلار لابن تيمية وأحضر القضاة الثلاثة الشافعي والمالكي والحنفي وتكلم معهم في
إخراجه ، فاتفقوا على أنهم يشترطون فيه شروطا وأن يرجع عن بعض العقيدة ، فأرسلوا
إليه مرات ، فامتنع من الحضور إليهم ، واستمر .
ولم يزل ابن تيمية في الجب إلى أن شفع فيه مهنا أمير آل فضل ، فأخرج في ربيع الأول
في الثالث وعشرين منه ، وأحضر إلى القلعة .
ووقع البحث مع بعض الفقهاء ، فكتب عليه محضر بأنه قال : أنا أشعري .
ثم وجد خطه بما نصه : الذي اعتقد أن القرآن معنى قائم بذات الله ، وهو صفة من صفات
ذاته القديمة ، وهو غير مخلوق ، وليس بحرف ولا صوت ، وأن قوله ( الرحمن على العرش
استوى ) ، ليس على ظاهره ، ولا أعلم كنه المراد به ، بل لا يعلمه إلا الله ، والقول
في النزول كالقول في الاستواء .
وكتبه : أحمد بن تيمية .
ثم أشهدوا عليه أنه تاب مما ينافي ذلك مختارا .
وذلك في خامس عشري ربيع الأول سنة 707 ، وشهد عليه بذلك جمع جم من العلماء وغيرهم ،
وسكن الحال ، وأفرج عنه وسكن القاهرة ..” انتهى .
وأول ما يقال في مناقشة مثل هذا الكلام :
أننا أمام حكاية لحال سجين ، في حكم خصومه ، فهم الذي يحكمون فيه ، وهم الذين
يشهدون ويحضرون ، وهم الذين ينقلون عنه ما قال ، أو يذكرون أنه قاله .. ، وهو في
ذلك كله تحت قهرهم وسلطانهم ، حتى قال الذهبي ، ثم ابن عبد الهادي :

” ثم بقي سنة ونصفا ، وأخرج ، وكتب لهم ألفاظا اقترحوها عليه ، وهدد وتوعد
بالقتل ، إن لم يكتبها ” انتهى من “الدرة اليتيمة- تكملة الجامع” للذهبي (46) ،
“العقود الدرية” لابن عبد الهادي (252) .
وقد تتبع الشيخان المحققان : محمد عزيز شمس ، علي العمران : المصادر التي تكلمت عن
هذه المحنة ، وما حصل فيها ، وقارنا بين ما ورد في هذه المصادر حول هذه المسألة ،
ثم قالا :
فتبين من هذا العرض أن :
من المؤرخين من لم يذكر القصة ولا المكتوب أصلا .
ومنهم من أشار إليها إشارة فقط ، دون تفصيل للكتاب الذي كتبه ، مع ذكرهم ما صاحب
كتابته تلك من التخويف والتهديد بالقتل .
ومنهم من فصلها وذكر نصَّ المكتوب ، لكن دون ذكرهم لما صاحب ذلك من تهديد وتخويف
بالقتل !!
وعلى هذا يمكننا القول : أن (ابن المعلم) و (النويري) قد انفردا من بين معاصري
الشيخ بقضية رجوعه ، وسياق ما كتبه ، وتابعهما على ذلك بعض المتأخرين .
وعليه فيمكن تجاه هذه القضية أن تتخذ أحد المواقف التالية :
الأول : أن نكذب كل ما ذكره المؤرخون جملة وتفصيلا، ونقول : إن شيئا من ذلك لم يكن
.
الثاني : أن نثبت أصل القصة ، دون إثبات أي رجوع عن العقيدة ، ولا المكتوب الذي فيه
المخالفة الصريحة لما دعا إليه الشيخ ، قبل هذا التاريخ وبعده ( أي 707هـ) .
الثالث : أن نثبت جميع ما انفرد به (ابن المعلم) و (النويري) من الرجوع والكتابة !!
فالأول : دفع بالصدر . والثالث: إثبات للمنفردات والشواذ، وتقديمها على الأشهر
والأكثر.
والذي يثبت عند النقد ويترجح هو : الموقف الثاني : أن الشيخ كتب لهم عبارات مجملة –
بعد التهديد والتخويف – لكن ليس فيها رجوع عن عقيدته ، ولا انتحال لعقيدة باطلة ،
ولا كتاب بذلك كله ، وذلك لأسباب منها :
أن هذا الكتاب مخالف لعقيدة الشيخ ، التي كان يدعو إليها ويناضل عنها طوال حياته ،
قبل هذه الحادثه وبعدها .
أنه لا يوجد في كتاباته ومؤلفاته أي أثر لهذا الرجوع ، أو إشارة إلى هذا ، أو
الكتاب ، أو إلى ما تضمنه ، ولو كان قد حصل منه شيء من الكتابة لهم بذلك ، لكان
حقيقا بعد ظهوره على أعدائه – على الأقل – وتمكنه منهم ، بعد انكسار الجاشنكير،
ورجوع الناصر، أن يطلب هذا الكتاب ، أو ينفيه عن نفسه .
أن الشيخ رحمه الله قد حصلت له مضايقات كثيرة في مسائل عديدة ، قبل هذا التاريخ
وبعده، سجن من أجلها وعوتب، فلم يعرف عنه أنه رجع عن شيء منها، بل غاية أمره أن
يسكت عن الإفتاء بها مدة ، ثم يعود إلى ذلك ويقول : لا يسعني كتمان العلم ، كما في
مسالة الطلاق ” العقود ” ( ص325) ؛ فكيف يكتب هذه المرة ما يناقض عقيدة أهل السنة ،
ويقرر مذهب أهل البدع ؟! ، وما شأن الخصوم ، عند الشيخ رحمه الله ، إلا كما وصفهم
هو بنفسه، لما قيل له : يا سيدي قد أكثر الناس عليك ؟! فقال : إن هم إلا كالذباب ،
ورفع كفه إلى فيه ونفخ فيه . “العقود ” (ص268) ، ووصف الحافظ الذهبي ثبات الشيخ
أمام خصومه فقال : ” حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام ، قياما لا مزيد عليه
… وهو ثابت ، لا يداهن ولا يحابي ، بل يقول الحق المرّ الذي أداه إليه اجتهاده ،
وحِدّة ذهنه ، وسعة دائرته في السنن والأقوال” ، وقال أيضا: ” قد سجن غير مرة ليفتر
عن خصومه ، ويقصر عن بسط لسانه وقلمه ، وهو لا يرجع ولا يلوي على ناصح إلى أن توفي
” .
ومما يفت في عضد هذه الأكذوبة : أن جماعة طلبوا من الشيخ أن يقول : إن هذا الاعتقاد
الذي كتبه وناظر من أجله الخصوم ، هو اعتقاد أحمد بن حنبل – يعني: وهو مذهب متبوع ،
فلا يعترض عليه – فلا يرضى الشيخ بهذا، بل يصدع بأن هذا هو معتقد سلف الأمة جميعهم
، وليس لأحمد اختصاص بذلك. ” العقود ” ( ص 218-219،240-241) .
إن أقصى ما يمكن قوله في كتابة الشيخ لهم : إنها كتابة إجمالية في مسائل العقيدة،
بما لا ينافي الحق ولا الصواب، وانظر نماذج لبعض ما كان يستعمله الشيخ مع خصومه
ليدحرهم ويكبتهم ، وفي أنفسهم ما فيها : ” العقود ” (ص 212 ، 215 ، 240-241) . ولم
يستطع الأعداء أن يجبروه على كتابة أكثر من ذلك الإجمال ، ثم وجدوا أنه لا فائدة في
إشاعة ذلك المكتوب عنه بالوجه الذي كتبه ، فزوّروا عليه كلاما، ثم زوروا عليه
توقيعه ، وأشهدوا عليه جماعة ، ليتم لهم ما أرادوا ، وقضية الكذب والتقول والتزوير
على الشيخ باتت من أشهر خصال أعدائه . انظر ذلك في مواضع كثيرة في ” العقود ”
(ص200، 204 ، 207 ، 209 ، 328) .
قال البرزالي في الموضع الأول عن خصومه : “وحرفوا الكلام ، وكذبوا الكذب الفاحش”.
وقال في الموضع الثاني : ” واختلفت نقول المخالفين للمجلس ، وحرفوه ، ووضعوا مقالة
الشيخ على غير موضعها ، وشنع ابن الوكيل وأصحابه بأن الشيخ قد رجع عن عقيدته ،
فالله المستعان ” .
وقال الشيخ نفسه ـ في الموضع الثالث : ” وكان قد بلغني أنه زُوِّر عليّ كتاب إلى
الأمير ركن الدين الجاشنكير، يتضمن ذكر عقيدة محرفة ، ولم أعلم بحقيقته ، لكن علمت
أن هذا مكذوب” .
وقال الشيخ في الموضع الرابع : ” أنا أعلم أن أقواما يكذبون علي ، كما قد كذبوا علي
غير مرة .. ” …
ومما يؤيد كذب هذه الأخلوقة : أن الكتاب الذي زعموا : كتب سنة 707 هـ ، فكيف يصح
هذا ؛ وهم يطالبونه في سنة 708هـ بكتابة شيء بخطه في هذه المسألة نفسها ؟! فإنه لما
جاءه المشايخ التدامرة نحو سنة 708هـ وقالوا : ” يا سيدي ، قد حمّلونا كلاما نقوله
لك ، وحلّفونا أنه ما يطلع عليه غيرنا : أن تنـزل لهم عن مسألة العرش ، ومسألة
القرآن ، ونأخذ خطك بذلك ، نوقف عليه السلطان ونقول له : هذا الذي حبسنا ابن تيمية
عليه ، قد رجع عنه ، ونقطع نحن الورقة ” ، انتهى !! فقال لهم الشيخ : ” تدعونني أن
أكتب بخطي : أنه ليس فوق العرش إله يعبد ، ولا في المصاحف قرآن ، ولا لله في الأرض
كلام ؟! ” . ودق بعمامته الأرض ، وقام واقفا ، ورفع رأسه إلى السماء ، وقال : ”
اللهم إنـي أشهدك على أنهم يدعونني أن أكفر بك وبكتبك ورسلك ، وأن هذا شيء ما أعمله
..” ، ثم دعا عليهم .
ولما قالوا له : ” كل هذا يعملونه حتى توافقهم ، وهم عاملون على قتلك أو نفيك أو
حبسك ؟ ، فقال لهم : ” أنا إن قتلت؛ كانت لي شهادة، وإن نفوني؛ كانت لي هجرة..” ؛
فيئسوا منه ، وانصرفوا !!
[ ذكره إبراهيم الغياني ، خادم شيخ الإسلام – الجامع 147-148] .
فلو كان لهم كتاب بخطه في تلك المسائل – كما زعموا – لم يطلبوا منه أن يكتب لهم
بخطه كتابا آخر .
فخلصنا أنه لم يكن معهم في المرة الأولى، إلا الكذب والتزوير والتحريف !! “
انظر : “الجامع لسيرة شيخ الإسلام” (39-47) .
على أن شيخ الإسلام ، قد حكى بنفسه ، طرفا من هذه المحنة التي اتصلت نحوا من ثمانية
عشر شهرا ، وما كان منه لأعدائه وخصومه فيها ، وما طلبوه منه ، وما أجابهم به ،
وذلك في أول كتابه الذي صنفه في الرد على مقالة الأشاعرة ، في مسألة “الكلام” ،
وسماه : “التسعينية” ، قال رحمه الله بعد خطبة الكتاب :
” أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّهُ فِي آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ
وَسَبْعُمِائَةٍ , جَاءَ أَمِيرَانِ رَسُولَانِ مِنْ عِنْدِ الْمَلَإِ
الْمُجْتَمِعِينَ ، مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَمَنْ مَعَهُمْ , وَذَكَرَا
رِسَالَةً مِنْ عِنْدِ الْأُمَرَاءِ , مَضْمُونُهَا : طَلَبُ الْحُضُورِ
وَمُخَاطَبَةُ الْقُضَاةِ ، لِتَخْرُجَ وَتَنْفَصِلَ الْقَضِيَّةُ , وَأَنَّ
الْمَطْلُوبَ خُرُوجُك , وَأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُخْتَصَرًا وَنَحْوُ ذَلِكَ ؟
فَقُلْت : سَلِّمْ عَلَى الْأُمَرَاءِ ، وَقُلْ لَهُمْ : لَكُمْ سَنَةٌ ، وَقَبْلَ
السَّنَةِ مُدَّةٌ أُخْرَى ، تَسْمَعُونَ كَلَامَ الْخُصُومِ ، اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ ، وَإِلَى السَّاعَةِ لَمْ تَسْمَعُوا مِنِّي كَلِمَةً وَاحِدَةً ؛
وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ , فَلَوْ كَانَ الْخَصْمُ يَهُودِيًّا أَوْ
نَصْرَانِيًّا أَوْ عَدُوًّا آخَرَ لِلْإِسْلَامِ وَلِدَوْلَتِكُمْ ، لَمَا جَازَ
أَنْ تَحْكُمُوا عَلَيْهِ حَتَّى تَسْمَعُوا كَلَامَهُ , وَأَنْتُمْ قَدْ
سَمِعْتُمْ كَلَامَ الْخُصُومِ وَحْدَهُمْ فِي مَجَالِسَ كَثِيرَةٍ , فَاسْمَعُوا
كَلَامِي وَحْدِي فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ , وَبَعْدَ ذَلِكَ نَجْتَمِعُ وَنَتَخَاطَبُ
بِحُضُورِكُمْ , فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَقَلِّ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ
فِي قَوْلِهِ : ( إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ
اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ؟!

فَطَلَبَ الرَّسُولَانِ أَنْ أَكْتُبَ ذَلِكَ فِي وَرَقَةٍ ، فَكَتَبْته ،
فَذَهَبَا ثُمَّ عَادَا , وَقَالَا : الْمَطْلُوبُ حُضُورُك لِتُخَاطِبَك
الْقُضَاةُ بِكَلِمَتَيْنِ ، وَتَنْفَصِلوا ؟
وَكَانَ فِي أَوَائِلِ النِّصْفِ مِنْ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ ، جَاءَنَا هَذَانِ
الرَّسُولَانِ بِوَرَقَةٍ كَتَبَهَا لَهُمْ الْمُحَكَّمُ مِنْ الْقُضَاةِ , وَهِيَ
طَوِيلَةٌ ، طَلَبْتُ مِنْهُمْ نُسَخًا ، فَلَمْ يوافقوا ، وتأملتها ، فوجدتها
مكذوبة علي ، إلا كلمة واحدة : مِنْ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً ، وأن كلامه
حرف وصوت ، قائم به ، بلا تكييف وَلَا تَشْبِيهَ .
قُلْتُ : ليس هذا فِي كلامي ولا خَطِّي .
وَخَاطَبَنِي بِخِطَابٍ فِيهِ طُولٌ ، قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
فَنَدِمُوا عَلَى كِتَابَةِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ ، وَكَتَبُوا هَذِهِ .
فَقُلْت : أَنَا لَا أَحْضُرُ إلَى مَنْ يَحْكُمُ فِيّ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ ،
وَبِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، وَيَفْعَلُ بِي مَا لَا تَسْتَحِلُّهُ
الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى , كَمَا فَعَلْتُمْ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ .
وَقُلْت لِلرَّسُولِ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ بِحُضُورِكُمْ ؛ أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَمْكُرُوا بِي كَمَا مَكَرُوا فِي الْعَامِ الْمَاضِي ؛ هَذَا لَا أُجِيبُ إلَيْهِ
.
وَلَكِنْ مَنْ زَعَمَ أَنِّي قُلْت قَوْلًا بَاطِلًا ، فَلْيَكْتُبْ خَطَّهُ بِمَا
أَنْكَرَهُ مِنْ كَلَامِي ، وَيَذْكُرُ حُجَّتَهُ , وَأَنَا أَكْتُبُ جَوَابِي مَعَ
كَلَامِهِ , وَيُعْرَضُ كَلَامِي وَكَلَامُهُ عَلَى عُلَمَاءِ الشَّرْقِ
وَالْغَرْبِ , فَقَدْ قُلْت هَذَا بِالشَّامِ ، وَأَنَا قَائِلُهُ هُنَا , وَهَذِهِ
عَقِيدَتِي الَّتِي بَحَثْت بِالشَّامِ ، بِحَضْرَةِ قُضَاتِهَا وَمَشَايِخِهَا
وَعُلَمَائِهَا . وَقَدْ أَرْسَلَ إلَيْكُمْ نَائِبُكُمْ النُّسْخَةَ الَّتِي
قُرِئَتْ ، وَأَخْبَرَكُمْ بِصُورَةِ مَا جَرَى , وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْ
التَّقْصِيرِ فِي حَقِّي , وَالْعُدْوَانِ ، وَالْإِغْضَاءِ عَنْ الْخُصُومِ مَا
قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ , فَانْظُرُوا النُّسْخَةَ الَّتِي
عِنْدَكُمْ . وَكَانَ قَدْ حَضَرَ عِنْدِي نُسْخَةٌ أُخْرَى منهَا ، فَقُلْت : خُذْ
هَذِهِ النُّسْخَةَ ، فهي اعْتِقَادِي ؛ فَمَنْ أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا
فَلْيَكْتُبْ مَا يُنْكِرُهُ ، وَحُجَّتَهُ ، لِأَكْتُبَ جَوَابِي ؟
فَأَخَذَا الْعَقِيدَةَ وَذَهَبَا ، ثُمَّ عَادَا وَمَعَهُمَا وَرَقَةٌ لَمْ
يُذْكَرْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى كَلَامِي ، بَلْ قَدْ أَنْشَئُوا
فِيهَا كَلَامًا طَلَبُوهُ . وَذَكَرَ الرَّسُولُ أَنَّهُمْ كَتَبُوا وَرَقَةً
ثُمَّ قَطَعُوهَا ثُمَّ كَتَبُوا هَذِهِ ، وَلَفْظُهَا : ” الَّذِي نَطْلُبُ مِنْهُ
أَنْ يَعْتَقِدَهُ : أَنْ يَنْفِيَ الْجِهَةَ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزَ ، وَأَنْ
لَا يَقُولَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ , بَلْ هُوَ
مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ , وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ
بِالْأَصَابِعِ إشَارَةً حِسِّيَّةً , وَنَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ
لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامّ , وَلَا يَكْتُبُ بِهَا
إلَى الْبِلَادِ , وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا ؟
فَلَمَّا أَرَانِي الْوَرَقَةَ ، كَتَبْتُ جَوَابَهَا فِيهَا مُرْتَجِلًا ، مَعَ
اسْتِعْجَالِ الرَّسُولِ :
أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : ” الَّذِي نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ أَنْ
يَنْفِيَ الْجِهَةَ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزَ ” فَلَيْسَ فِي كَلَامِي إثْبَاتٌ
لِهَذَا اللَّفْظِ ; لِأَنَّ إطْلَاقَ هَذَا اللَّفْظِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا :
بِدْعَةٌ , وَأَنَا لَا أَقُولُ إلَّا مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ,
وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأَمَةِ .
فَإِنْ أَرَادَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ , أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ
رَبٌّ وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ إلَهٌ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَعْرُجْ بِهِ إلَى رَبِّهِ , وَمَا فَوْقَ الْعَالَمِ إلَّا
الْعَدَمُ الْمَحْضُ ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ
وَأَئِمَّتِهَا .
وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَا تُحِيطُ بِهِ مَخْلُوقَاتُهُ , وَلَا
يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَوْجُودَاتِ ؛ فَهَذَا مَذْكُورٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي
كَلَامِي , فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَجْدِيدِهِ ؟
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : ” لَا يَقُولُ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ
وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ ” ؛ فَلَيْسَ فِي
كَلَامِي هَذَا أَيْضًا وَلَا قُلْته قَطُّ ؛ بَلْ قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ
الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَالصَّوْتَ قَائِمٌ بِهِ , بِدْعَةٌ , وَقَوْلُهُ : إنَّهُ
مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ بِدْعَةٌ ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لَا هَذَا
وَلَا هَذَا , وَأَنَا لَيْسَ فِي كَلَامِي شَيْءٌ مِنْ الْبِدَعِ , بَلْ فِي
كَلَامِي مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ : أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ
غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : ” إنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ إشَارَةً
حِسِّيَّةً ” ؛ فَلَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ فِي كَلَامِي ؛ بَلْ فِي كَلَامِي
إنْكَارُ مَا ابْتَدَعَهُ الْمُبْتَدَعُونَ مِنْ الْأَلْفَاظِ النَّافِيَةِ ,
مِثْلُ قَوْلِهِمْ : إنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ , فَإِنَّ هَذَا النَّفْيَ أَيْضًا
بِدْعَةٌ .
فَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ أَنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ ، أَنَّهُ لَيْسَ
مَحْصُورًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي
الصَّحِيحَةِ فَهَذَا حَقٌّ .
وَإِنْ أَرَادَ : أَنَّ مَنْ دَعَا اللَّهَ لَا يَرْفَعُ إلَيْهِ يَدَيْهِ ,
فَهَذَا خِلَافُ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِنْ رَفْعِ
الْأَيْدِي إلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ
إذَا رَفَعَ إلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا إلَيْهِ صِفْرًا ) ؛ وَإِذَا
سَمَّى الْمُسَمِّي ذَلِكَ إشَارَةً حِسِّيَّةً , وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ
لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : ” أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ
وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَامَّةِ ” فَمَا فَاتَحْتُ عَامِّيًّا فِي شَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ قَطُّ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ : بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ الْمُسْتَرْشِدَ
الْمُسْتَهْدِيَ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ ) , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : ( إنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ) الْآيَةَ , فَلَا
يُؤْمَرُ الْعَالِمُ بِمَا يُوجِبُ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ .
فَأَخَذَا الْجَوَابَ ، وَذَهَبَا فَأَطَالَا ، الْغَيْبَةَ , ثُمَّ رَجَعَا وَلَمْ
يَأْتِيَا بِكَلَامٍ مُحَصَّلٍ ، إلَّا طَلَبَ الْحُضُورِ !!
فَأَغْلَظْتُ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ ، وَقُلْتُ لَهُمْ بِصَوْتٍ رَفِيعٍ : يَا
مُبَدِّلِينَ ، يَا مُرْتَدِّينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ ، يَا زَنَادِقَةً , وَكَلَامًا
آخَرَ كَثِيرًا !!
ثُمَّ قُمْتُ ، وَطَلَبْتُ فَتْحَ الْبَابِ ، وَالْعَوْدَ إلَى مَكَانِي .
وَقَدْ كَتَبْت هُنَا بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمِحْنَةِ الَّتِي
طَلَبُوهَا مِنِّي فِي هَذَا الْيَوْمِ , وَبَيَّنْت بَعْضَ مَا فِيهَا مِنْ
تَبْدِيلِ الدِّينِ , واتباعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ , لِمَا فِي ذَلِكَ
مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ , وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ نَكْتُبُ
مِنْهَا مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى …” انتهى من “التسعينية” (1/109-119) .
فبهذا يتبين بطلان هذه الفرية التي تعلق به من لم يحقق الأمر ، ولم يفهم شيئا عن
سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، ومنهجه .
وينظر أيضا ـ للفائدة ـ : “مجموع الفتاوى” (3/160) وما بعدها ، و”العقود الدرية”
لابن عبد الهادي (253) وما بعدها ، ط عالم الفوائد .
والله أعلم .

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android
at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android