ما هو التصوف والإلهام وتزكية النفس ؟ فهناك من يرى أنه لا يمكن تزكية النفس بدون مرشد أو ولي ، فهل هذا صحيح ؟ ولماذا يعتقد البعض ضرورة مبايعة هذا المرشد / الولي ؟ مع أني أخبرتهم بأن البيعة لا تكون إلا في بلد مسلم ، تحت إمارة شخص مسلم ، فأحضروا الأدلة من البخاري وغيره من المصادر ، وقالوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والخلفاء الراشدين ، والأئمة الأربعة ، أقروا بوجوبها ، فما رأيكم في كل هذا ؟
البيعة الملزمة من المريد للشيخ ليست من الدين
السؤال: 228244
ملخص الجواب
والخلاصة : أنه ليس في الدين بيعة تكليفية مع الشيخ ولا مع المربي ، وإنما في الدين مقام رفيع للمعلم ، واحترام وتقدير من المتعلم ، من غير إفراط ولا تفريط . والله أعلم .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
من محاسن ديننا الإسلامي العظيم : أنه دين العلاقة المباشرة مع الله عز وجل ، وصلة العبد بربه ، من غير شفيع ولا وسيط ، فذلك مقتضى عقيدة ” التوحيد “، التي تؤمن بأن الله وحده هو الرب الخالق المعبود الأحد الصمد ، وما سواه حادث ، فقير ، ضعيف ، ليس له من الأمر شيء .
فمن آمن بذلك أدرك أن أحدا من البشر لا يملك ادعاء حق الوساطة الحصرية بين الله وخلقه ؛ أو ادعاء انحصار سبيل السلوك إلى الله من خلاله ، لأن ذلك يعني قطع الطريق إلى الله ، من خلال طبقية كهنوتية بين الناس ، يفرضها أولئك المستكبرون الذين يحولون بين الخالق والعباد ، ويوهمونهم أن تحصيل العلم والخلق والتزكية والولاية : لا تتم إلا بمبايعتهم ، أو تقديسهم ، وتقليد حركاتهم وسكناتهم ، وهو الأمر الذي لم يزعمه كبار الصحابة والأولياء والصالحين لأنفسهم ؛ فكيف بمن هو دونهم ؟!
عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ : ” قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214]، قَالَ : ( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ – أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا – اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ ، لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ ، سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي ، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) رواه البخاري (2753) ، ومسلم (206) .
ومن هنا نؤكد لك أن تزكية النفس بالأخلاق الفاضلة ، والآداب السامية ، والأعمال الصالحة النافعة : جهادٌ طويل تتعدد وسائله ، ومقامٌ جليل تفنى في سبيله الأعمار ، يتعلم المسلم في مراحل عمره – إن أراد أن يرتقي بما يزكي نفسه – كيف يكون كريما في جميع الأحوال ، وكيف يتحصل على المروءة في مختلف المواقف ، وكيف يحقق في ذاته مقامات التواضع ، والإخبات ، والمراقبة ، والزهد ، والورع ، والرجاء ، والثقة بالله ، والتوكل ، والفتوة ، والإيثار ، والحياء ، والصدق ، واليقين ، والإحسان ، والحكمة ، والأنس بالله ، وغيرها ، كل مقام منها يحتاج علما وعملا ومصابرة ومراقبة خاصة ، وتحصيل ذلك كله لا يقتصر على معلم أو مرشد، بل الحكمة ضالة المؤمن ، يتلقاها في مشاهد الكون المفتوحة ، وآلاء الله في خلقه ، وفي سير الصالحين ، وصحبة المخلصين ، والتفقه في الدين ، وقبل ذلك كله في التدبر والتأمل في كتاب الله ، والعمل بما جاء فيه .
وإذا كان مقصود هؤلاء المعترضين هو بيان أهمية المعلم في التوجيه والتعليم والتربية ، فهذا حق لا يتردد فيه أحد ، وما زالت حواضر الإسلام وجامعات العلم ومدارسه : تنتهج طريق التعليم والإرشاد سبيلا لتخريج الأجيال المسلمة الفقيهة الواعية .
ولكن الإشكال يبدأ حين يُنقل المعلم من مقامه الرفيع هذا ، إلى مقام كهنوتي ، تفرض فيه طقوس خاصة ، من البيعة الملزمة بالطاعة إلزاما شرعيا ، يعد مخالفها آثما أو عاصيا ، فيكسى المرشد كساء قداسة خاصة ، يغدو معها المريد بين يديه كالميت بين يدي مغسله ، يتمسك به ” تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد ، بحيث يفوض أمره إليه بالكلية ، ولا يخالفه في ورده ولا صدره ، ولا يُبقي في متابعته شيئا ولا يذر ، حتى إنه ليلقن : أن نفعه في خطأ شيخه ، لو أخطأ : أكثر من نفعه في صواب نفسه ؛ لو أصاب !! ” [ كما جاء في “إحياء علوم الدين” ] .
وبعضهم يصرح بأن مبايعة الشيخ المربي ـ وبعضهم ينقلها إلى : القائد الحركي ، والأمير الحزبي ـ : تنقل أوامره إلى دائرة التقديس الإلهي ، فتكون واجبة الطاعة ، محرمة العصيان ، مؤكدة كأوامر الشرع الحنيف .
وهذا باطل بلا تردد ؛ لما فيه من إحداث في الدين بما لم يشرعه الله ولا رسوله ، فليس لأحد صفة الإلزام الشرعي إلا بدليل شرعي ، ولم يرد الدليل بمنح أوامر هؤلاء قوة التكليف الشرعي .
وكل ما ورد من نصوص شرعية عن البيعة : إنما يراد بها بيعة إمام المسلمين الذي يحكم البلاد والعباد ، بالعدل والرشد .
ولهذا عرف ابن خلدون رحمه الله البيعة بقوله : ” هي العهد على الطّاعة ، كأنّ المبايع يعاهد أميره على أنّه يسلّم له النّظر في أمر نفسه وأمور المسلمين ، لا ينازعه في شيء من ذلك ، ويطيعه فيما يكلّفه به من الأمر ، على المنشّط والمكره ” .
انتهى من ” تاريخ ابن خلدون ” (1/261) .
فليس هناك دليل من الشرع على أن الشيخ أو المربي يأخذ البيعة على السمع والطاعة من أتباعه ، ولم يكن هذا من فعل الصحابة رضي الله عنهم .
سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء السؤال الآتي :
” كنت دون البلوغ في السن ، وذهبت إلى أحد مشايخ الطرق الصوفية ، وقلت له : أريد أدخل طريقة الشيخ عبد القادر الجيلي . فقال : خذ العهد . وأخذت العهد على يديه ، يدي في يده ، وقال لي : ردد معي العهد . بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، إنني نويت الدخول في طريقة الشيخ عبد القادر الجيلي ، وقد بعت نفسي لهذا شيخي ويذكر اسمه .
أولا : هل هذا العهد صحيح ، وأنني قد تبت لله .
ثانيا : هل هو ملاذ حتى الموت ؟
أفيدوني جزاكم الله خيرا.
فأجابت :
ما ذكرته من العهد غير صحيح ، وقد أحسنت في توبتك إلى الله ، وعليك أن تتمسك بكتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عقيدة وقولا ، دون أخذ عهد على طريقة شيخ ما من مشايخ الطرق ، وبع نفسك على الله ، بدلا من بيعها على الشيخ ، التزاما بشريعته سبحانه ، ولا يلزمك الاستمرار على هذا العهد الذي أخذته من الشيخ ، لأنه بدعة تجتنب ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) خرجه الإمام مسلم في (صحيحه) ، وهذه البيعة ليس عليها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنص هذا الحديث ، فتكون مردودة ” انتهى .
الشيخ عبد العزيز بن باز – الشيخ عبد الرزاق عفيفي – الشيخ عبد الله بن غديان
انتهى من ” فتاوى اللجنة الدائمة ” ( المجموعة الثانية 2/ 80) .
هذا ، وللشيخ في بعض المخيال الصوفي تصورات خاصة ، توارثها بعض أتباع الطرق حتى عمت واستقرت بينهم ، سببها بدعة ” البيعة الصوفية الملزمة ” التي دخلت عليهم ، وحكايتها تكفي لردها وتحقق شناعتها .
فقد نقل أحمد بن المبارك السلجماسي عن محيي الدين ابن عربي قوله :
” من شروط المريد : أن يعتقد في شيخه أنه على شريعة من ربه ونبيه منه ، ولا يزن أحواله بمسيرته ، فقد تصدر من الشيخ صورة مذمومة في الظاهر وهي محمودة في الباطن ، والحقيقة أنه يجب التسليم ، وكم من رجل أخذ كأس خمر بيده ورفعه إلى فيه ، وقلبه الله في فيه عسلًا ، والناظر يراه شرب خمرًا ، وهو ما شرب إلا عسلًا ، ومثل هذا كثير ، وقد رأينا من يجسد روحانيته على صورة ، ويقيمها في فعل من الأفعال ، ويراها الحاضرون على ذلك الفعل فيه ، ولو رأيناه فعلا يفعل كذا ، وهو عن ذلك الفعل بمعزل “.
يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق – معلقا على هذا النقل -:
” وهذا الذي نقله أحمد بن مبارك السلجماسي عن ابن عربي مقررًا ومتبعًا له ، هو ما عليه عامة الصوفية بعد ابن عربي ، الذين يعتقدون أن للشيخ الصوفي (الكامل) أن يفعل ما يشاء من المعاصي ولا حرج عليه ، ولا يجوز أن يظن المريد خلاف الخير ؛ لأن الخمر التي يراها المريد خمرًا تنقلب عينها في الشيخ فتكون له لبنًا أو عسلًا . أو أن الشيخ يشكل نفسه على النحو الذي يظهر منه الفسق والخروج على الشريعة ليؤدب المريدين ، ويعلمهم أن يثقوا بشيخهم ، ولو رأوه يفعل منكرًا .
أقول : وقد حدثني أستاذي وشيخي الشيخ محمد عبد الوهاب البنا حفظه الله ، أنه شاهد أباه وكان من هيئة كبار العلماء في الأزهر يشتري قارورة الخمر بنفسه ، ويعطيها لشيخ له في الطريق ، ولما كلمه الشيخ محمد عبد الوهاب البنا في ذلك . قال له : يا بني إنها تنقلب في بطن الشيخ فتكون لبنًا !!
فانظر كيف يفعل مثل هذا الكلام في المريدين ، فيجعلهم يعتقدون في شيوخهم العصمة ، حتى لو رأوهم على المعصية جهارًا نهارًا . وهذا غاية في إلغاء العقول والأفهام ، وذلك حتى تتلقى هذه العقول ما هو شر من ذلك وأقبح من الكلام في العقائد وأصول الدين ، كلامًا وكفرًا وزندقة لم يقلها اليهود ولا النصارى ولا المجوس ” انتهى من ” الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة ” (ص322) وللتوسع ينظر المبحث الذي كتبه الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق بكماله في هذا الكتاب (313-347) .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب