0 / 0

البيعة الملزمة من المريد للشيخ ليست من الدين

السؤال: 228244

ما هو التصوف والإلهام وتزكية النفس ؟ فهناك من يرى أنه لا يمكن تزكية النفس بدون مرشد أو ولي ، فهل هذا صحيح ؟ ولماذا يعتقد البعض ضرورة مبايعة هذا المرشد / الولي ؟ مع أني أخبرتهم بأن البيعة لا تكون إلا في بلد مسلم ، تحت إمارة شخص مسلم ، فأحضروا الأدلة من البخاري وغيره من المصادر ، وقالوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والخلفاء الراشدين ، والأئمة الأربعة ، أقروا بوجوبها ، فما رأيكم في كل هذا ؟

ملخص الجواب

والخلاصة : أنه ليس في الدين بيعة تكليفية مع الشيخ ولا مع المربي ، وإنما في الدين مقام رفيع للمعلم ، واحترام وتقدير من المتعلم ، من غير إفراط ولا تفريط . والله أعلم .

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

من محاسن ديننا الإسلامي العظيم : أنه دين العلاقة المباشرة مع الله عز وجل ، وصلة العبد بربه ، من غير شفيع ولا وسيط ، فذلك مقتضى عقيدة ” التوحيد “، التي تؤمن بأن الله وحده هو الرب الخالق المعبود الأحد الصمد ، وما سواه حادث ، فقير ، ضعيف ، ليس له من الأمر شيء .
فمن آمن بذلك أدرك أن أحدا من البشر لا يملك ادعاء حق الوساطة الحصرية بين الله وخلقه ؛ أو ادعاء انحصار سبيل السلوك إلى الله من خلاله ، لأن ذلك يعني قطع الطريق إلى الله ، من خلال طبقية كهنوتية بين الناس ، يفرضها أولئك المستكبرون الذين يحولون بين الخالق والعباد ، ويوهمونهم أن تحصيل العلم والخلق والتزكية والولاية : لا تتم إلا بمبايعتهم ، أو تقديسهم ، وتقليد حركاتهم وسكناتهم ، وهو الأمر الذي لم يزعمه كبار الصحابة والأولياء والصالحين لأنفسهم ؛ فكيف بمن هو دونهم ؟!
عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ : ” قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214]، قَالَ : ( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ – أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا – اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ ، لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ ، سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي ، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) رواه البخاري (2753) ، ومسلم (206) .

ومن هنا نؤكد لك أن تزكية النفس بالأخلاق الفاضلة ، والآداب السامية ، والأعمال الصالحة النافعة : جهادٌ طويل تتعدد وسائله ، ومقامٌ جليل تفنى في سبيله الأعمار ، يتعلم المسلم في مراحل عمره – إن أراد أن يرتقي بما يزكي نفسه – كيف يكون كريما في جميع الأحوال ، وكيف يتحصل على المروءة في مختلف المواقف ، وكيف يحقق في ذاته مقامات التواضع ، والإخبات ، والمراقبة ، والزهد ، والورع ، والرجاء ، والثقة بالله ، والتوكل ، والفتوة ، والإيثار ، والحياء ، والصدق ، واليقين ، والإحسان ، والحكمة ، والأنس بالله ، وغيرها ، كل مقام منها يحتاج علما وعملا ومصابرة ومراقبة خاصة ، وتحصيل ذلك كله لا يقتصر على معلم أو مرشد، بل الحكمة ضالة المؤمن ، يتلقاها في مشاهد الكون المفتوحة ، وآلاء الله في خلقه ، وفي سير الصالحين ، وصحبة المخلصين ، والتفقه في الدين ، وقبل ذلك كله في التدبر والتأمل في كتاب الله ، والعمل بما جاء فيه .

وإذا كان مقصود هؤلاء المعترضين هو بيان أهمية المعلم في التوجيه والتعليم والتربية ، فهذا حق لا يتردد فيه أحد ، وما زالت حواضر الإسلام وجامعات العلم ومدارسه : تنتهج طريق التعليم والإرشاد سبيلا لتخريج الأجيال المسلمة الفقيهة الواعية .
ولكن الإشكال يبدأ حين يُنقل المعلم من مقامه الرفيع هذا ، إلى مقام كهنوتي ، تفرض فيه طقوس خاصة ، من البيعة الملزمة بالطاعة إلزاما شرعيا ، يعد مخالفها آثما أو عاصيا ، فيكسى المرشد كساء قداسة خاصة ، يغدو معها المريد بين يديه كالميت بين يدي مغسله ، يتمسك به ” تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد ، بحيث يفوض أمره إليه بالكلية ، ولا يخالفه في ورده ولا صدره ، ولا يُبقي في متابعته شيئا ولا يذر ، حتى إنه ليلقن : أن نفعه في خطأ شيخه ، لو أخطأ : أكثر من نفعه في صواب نفسه ؛ لو أصاب !! ” [ كما جاء في “إحياء علوم الدين” ] .
وبعضهم يصرح بأن مبايعة الشيخ المربي ـ وبعضهم ينقلها إلى : القائد الحركي ، والأمير الحزبي ـ : تنقل أوامره إلى دائرة التقديس الإلهي ، فتكون واجبة الطاعة ، محرمة العصيان ، مؤكدة كأوامر الشرع الحنيف .
وهذا باطل بلا تردد ؛ لما فيه من إحداث في الدين بما لم يشرعه الله ولا رسوله ، فليس لأحد صفة الإلزام الشرعي إلا بدليل شرعي ، ولم يرد الدليل بمنح أوامر هؤلاء قوة التكليف الشرعي .
وكل ما ورد من نصوص شرعية عن البيعة : إنما يراد بها بيعة إمام المسلمين الذي يحكم البلاد والعباد ، بالعدل والرشد .
ولهذا عرف ابن خلدون رحمه الله البيعة بقوله : ” هي العهد على الطّاعة ، كأنّ المبايع يعاهد أميره على أنّه يسلّم له النّظر في أمر نفسه وأمور المسلمين ، لا ينازعه في شيء من ذلك ، ويطيعه فيما يكلّفه به من الأمر ، على المنشّط والمكره ” .
انتهى من ” تاريخ ابن خلدون ” (1/261) .

فليس هناك دليل من الشرع على أن الشيخ أو المربي يأخذ البيعة على السمع والطاعة من أتباعه ، ولم يكن هذا من فعل الصحابة رضي الله عنهم .

سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء السؤال الآتي :
” كنت دون البلوغ في السن ، وذهبت إلى أحد مشايخ الطرق الصوفية ، وقلت له : أريد أدخل طريقة الشيخ عبد القادر الجيلي . فقال : خذ العهد . وأخذت العهد على يديه ، يدي في يده ، وقال لي : ردد معي العهد . بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، إنني نويت الدخول في طريقة الشيخ عبد القادر الجيلي ، وقد بعت نفسي لهذا شيخي ويذكر اسمه .
أولا : هل هذا العهد صحيح ، وأنني قد تبت لله .
ثانيا : هل هو ملاذ حتى الموت ؟
أفيدوني جزاكم الله خيرا.
فأجابت :
ما ذكرته من العهد غير صحيح ، وقد أحسنت في توبتك إلى الله ، وعليك أن تتمسك بكتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عقيدة وقولا ، دون أخذ عهد على طريقة شيخ ما من مشايخ الطرق ، وبع نفسك على الله ، بدلا من بيعها على الشيخ ، التزاما بشريعته سبحانه ، ولا يلزمك الاستمرار على هذا العهد الذي أخذته من الشيخ ، لأنه بدعة تجتنب ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) خرجه الإمام مسلم في (صحيحه) ، وهذه البيعة ليس عليها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنص هذا الحديث ، فتكون مردودة ” انتهى .
الشيخ عبد العزيز بن باز – الشيخ عبد الرزاق عفيفي – الشيخ عبد الله بن غديان
انتهى من ” فتاوى اللجنة الدائمة ” ( المجموعة الثانية 2/ 80) .

هذا ، وللشيخ في بعض المخيال الصوفي تصورات خاصة ، توارثها بعض أتباع الطرق حتى عمت واستقرت بينهم ، سببها بدعة ” البيعة الصوفية الملزمة ” التي دخلت عليهم ، وحكايتها تكفي لردها وتحقق شناعتها .
فقد نقل أحمد بن المبارك السلجماسي عن محيي الدين ابن عربي قوله :
” من شروط المريد : أن يعتقد في شيخه أنه على شريعة من ربه ونبيه منه ، ولا يزن أحواله بمسيرته ، فقد تصدر من الشيخ صورة مذمومة في الظاهر وهي محمودة في الباطن ، والحقيقة أنه يجب التسليم ، وكم من رجل أخذ كأس خمر بيده ورفعه إلى فيه ، وقلبه الله في فيه عسلًا ، والناظر يراه شرب خمرًا ، وهو ما شرب إلا عسلًا ، ومثل هذا كثير ، وقد رأينا من يجسد روحانيته على صورة ، ويقيمها في فعل من الأفعال ، ويراها الحاضرون على ذلك الفعل فيه ، ولو رأيناه فعلا يفعل كذا ، وهو عن ذلك الفعل بمعزل “.
يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق – معلقا على هذا النقل -:
” وهذا الذي نقله أحمد بن مبارك السلجماسي عن ابن عربي مقررًا ومتبعًا له ، هو ما عليه عامة الصوفية بعد ابن عربي ، الذين يعتقدون أن للشيخ الصوفي (الكامل) أن يفعل ما يشاء من المعاصي ولا حرج عليه ، ولا يجوز أن يظن المريد خلاف الخير ؛ لأن الخمر التي يراها المريد خمرًا تنقلب عينها في الشيخ فتكون له لبنًا أو عسلًا . أو أن الشيخ يشكل نفسه على النحو الذي يظهر منه الفسق والخروج على الشريعة ليؤدب المريدين ، ويعلمهم أن يثقوا بشيخهم ، ولو رأوه يفعل منكرًا .
أقول : وقد حدثني أستاذي وشيخي الشيخ محمد عبد الوهاب البنا حفظه الله ، أنه شاهد أباه وكان من هيئة كبار العلماء في الأزهر يشتري قارورة الخمر بنفسه ، ويعطيها لشيخ له في الطريق ، ولما كلمه الشيخ محمد عبد الوهاب البنا في ذلك . قال له : يا بني إنها تنقلب في بطن الشيخ فتكون لبنًا !!
فانظر كيف يفعل مثل هذا الكلام في المريدين ، فيجعلهم يعتقدون في شيوخهم العصمة ، حتى لو رأوهم على المعصية جهارًا نهارًا . وهذا غاية في إلغاء العقول والأفهام ، وذلك حتى تتلقى هذه العقول ما هو شر من ذلك وأقبح من الكلام في العقائد وأصول الدين ، كلامًا وكفرًا وزندقة لم يقلها اليهود ولا النصارى ولا المجوس ” انتهى من ” الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة ” (ص322) وللتوسع ينظر المبحث الذي كتبه الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق بكماله في هذا الكتاب (313-347) .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android