تنزيل
0 / 0

تفسير قوله تعالى عن الأمانة : ( وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) .

السؤال: 237493

ما معنى الآية في سورة الأحزاب : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ) ؟

وهل صحيح أننا خيرنا بين خلافة الأرض وحرية الاختيار وعليه لم نوفق لاختيار الأنسب لنا ؟

وهل صحيح أن الأمانة عرضت علينا قبل أن نوجد ثم بعد أن أتينا إلى الوجود محي ذلك من ذاكرتنا ؟
هل يعني ذلك أنني سئلت ذلك وأجبت بنعم قبل أن أوجد في هذه الحياة ؟

ملخص الجواب

فالخلاصة : أن تحمل الأمانة تحمل تشريف وتوفيق ، وإنما الخذلان في عدم أدائها ، لا في تحملها . والذي عرضت عليه فقبلها وتحملها هو آدم عليه السلام ، ثم تحملتها ذريته من بعده. والقول بأن الله تعالى أوجد الخلق كلهم في عالم الغيب قبل أن يخلقهم ، فعرض عليهم الأمانة ، فقبلوا تحملها جميعا ، ثم لما أوجدهم نسوا هذا العرض وهذا التحمل : قول غير صحيح ، ولا دليل عليه . والله تعالى أعلم .

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
قال الله عز وجل : ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) الأحزاب / 72 .
فعرض الله تعالى طاعته وفرائضه وحدوده على السموات والأرض والجبال ، على أنها إن
أحسنت أثيبت وجوزيت ، وإن ضيعت عوقبت ، فأبت حملها إشفاقًا منها أن لا تقوم بالواجب
عليها ، وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوما جهولا .
قال الواحدي :
” والأمانة في هذه الآية في قول جميعهم: الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب
وبتضييعها العقاب ..” انتهى من “التفسير البسيط” (18/302) .
وقال السعدي في تفسيره ( ص 674) :
” يعظم تعالى شأن الأمانة ، التي ائتمن الله عليها المكلفين ، التي هي امتثال
الأوامر، واجتناب المحارم، في حال السر والخفية ، كحال العلانية ، وأنه تعالى عرضها
على المخلوقات العظيمة ، السماوات والأرض والجبال ، عرض تخيير لا تحتيم ، وأنك إن
قمت بها وأدَّيتِهَا على وجهها، فلك الثواب، وإن لم تقومي بها، ولم تؤديها فعليك
العقاب.
فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا أي: خوفًا أن لا يقمن بما
حُمِّلْنَ، لا عصيانًا لربهن ، ولا زهدًا في ثوابه ، وعرضها الله على الإنسان، على
ذلك الشرط المذكور، فقبلها، وحملها مع ظلمه وجهله، وحمل هذا الحمل الثقيل. فانقسم
الناس -بحسب قيامهم بها وعدمه- إلى ثلاثة أقسام:
منافقون ، أظهروا أنهم قاموا بها ظاهرًا لا باطنًا، ومشركون ، تركوها ظاهرًا
وباطنًا، ومؤمنون، قائمون بها ظاهرًا وباطنًا.
فذكر الله تعالى أعمال هؤلاء الأقسام الثلاثة ، وما لهم من الثواب والعقاب فقال:
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ
وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
.
فله الحمد تعالى ، حيث ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين، الدالين على تمام
مغفرة الله، وسعة رحمته، وعموم جوده، مع أن المحكوم عليهم، كثير منهم، لم يستحق
المغفرة والرحمة، لنفاقه وشركه” انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” المراد بالأمانة هنا: كل ما كلف به الإنسان من العبادات والمعاملات فإنها أمانة،
لأنه مؤتمن عليها وواجب عليه أداؤها، فالصلاة من الأمانة ، والزكاة من الأمانة،
والصيام من الأمانة ، والحج من الأمانة، والجهاد من الأمانة ، وبر الوالدين من
الأمانة، والوفاء بالعقود من الأمانة ، وهكذا جميع ما كلف به الإنسان فهو داخل في
الأمانة ” انتهى من “فتاوى نور على الدرب” (5/ 2) بترقيم الشاملة .
انظر جواب السؤال رقم : (145741) .
ثانيا :
قوله تعالى : ( وحملها الإنسان ) المقصود بالإنسان: آدم عليه السلام ، فقد روى
الطبري في تفسيره (19/ 197) بسند صحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ) قَالَ: ” عُرِضَتْ عَلَى آدَمَ،
فَقَالَ: خُذْهَا بِمَا فِيهَا، فَإِنْ أَطَعْتَ غَفَرْتُ لَكَ، وَإِنْ عَصِيتَ
عَذَّبْتُكَ، قَالَ: قَدْ قَبِلْتُ، فَمَا كَانَ إِلَّا قَدْرَ مَا بَيْنَ
الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى أَصَابَ الْخَطِيئَةَ ” .
وكذا قال الضحاك بن مزاحم وجويبر وابن زيد وغيرهم .
انظر : “تفسير الطبري” (19/196-200) ، “تفسير ابن كثير” (6/488) ، “تفسير القرطبي”
(14/257) .

فليس معنى الآية أن الله
تعالى عرض علينا الأمانة قبل أن نوجد ونخلق ، ونحن في علم الغيب ، فاخترنا تحملها ،
ثم لما خلقنا نسينا هذا التخيير ، الذي لم نوفق فيه ، فهذا غير صحيح ، لعدة أوجه :
أولا :
أنه قول لا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه .
ثانيا :
المراد بالإنسان في الآية هو آدم أبو البشر عليه السلام كما تقدم عن ابن عباس رضي
الله عنهما وغيره من السلف ، فليس كل الناس خيروا فاختاروا أجمعون تحملها ، وإنما
اختار تحملها أبوهم ، وكانوا له في ذلك تبعا .
ثالثا :
هذا الاختيار الحاصل هو في الحقيقة تشريف من الله تعالى ، وتوفيق منه لآدم عليه
السلام وذريته ، لأن تحمل الأمانة والقيام بأعمال العبودية لله ، من صلاة وصيام
وزكاة وذكر وبر وحسن خلق وغير ذلك : هو من باب الكرامة والتشريف والتوفيق ، وليس
بسبب عدم التوفيق في الاختيار .

وقد قيل : إن الإنسان لم
يخير ، وإنما أخبر الله تعالى أنه حملها ، ولم يخبر أنه خيره ، فحمّله الله إياها
إكراما له وتشريفا، لكنه قصّر في تحملها، قال القرطبي رحمه الله :
” هَذَا الْعَرْضُ على السموات والأرض والجِبال عَرْضُ تَخْيِيرٍ لَا إِلْزَامٍ.
وَالْعَرْضُ عَلَى الْإِنْسَانِ إِلْزَامٌ ” انتهى من ” تفسير القرطبي ” (14/ 255)
.
وقال ابن عاشور رحمه الله :
” وجُمْلَةُ : ( إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) … ليست تَعْلِيلِيَّةً ؛ لأن
تَحَمُّلَ الْأَمَانَةِ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ ، فَكَيْفَ
يُعَلَّلُ بِأَنَّ حَمْلَهُ الْأَمَانَةَ مِنْ أَجْلِ ظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ.
فَمَعْنَى (كانَ ظَلُوماً جَهُولًا) أَنَّهُ قَصَّرَ فِي الْوَفَاءِ بِحَقِّ مَا
تَحَمَّلَهُ تقصيرا: بعضه عَن عَمْدٍ ، وَهُوَ الْمعبر عَنهُ بِوَصْفِ ظَلُومٍ،
وَبَعْضُهُ عَنْ تَفْرِيطٍ فِي الْأَخْذِ بِأَسْبَابِ الْوَفَاءِ ، وَهُوَ
الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِكَوْنِهِ جَهُولًا، فَظَلُومٌ مُبَالَغَةٌ فِي الظُّلْمِ
وَكَذَلِكَ جَهُولٌ مُبَالَغَةٌ فِي الْجَهْلِ.
وَالظُّلْمُ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ وَأُرِيدُ بِهِ هُنَا
الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ الْمُلْتَزَمِ لَهُ بِتَحَمُّلِ الْأَمَانَةِ،
وَهُوَ حَقُّ الْوَفَاءِ بِالْأَمَانَةِ.
وَالْجَهْلُ: انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عِلْمُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ
هُنَا انْتِفَاءُ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِمَوَاقِعِ الصَّوَابِ فِيمَا تَحَمَّلَ
بِهِ، فَقَوْلُهُ: (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا) : مُؤْذِنٌ بِكَلَامٍ
مَحْذُوفٍ يَدُلُّ هُوَ عَلَيْهِ ، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ
فَلَمْ يَفِ بِهَا إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ
لَمْ يَلْتَئِمِ الْكَلَامُ ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَمْ يُحَمَّلِ الْأَمَانَةَ
بِاخْتِيَارِهِ ، بَلْ فُطِرَ عَلَى تَحَمُّلِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ ظَلُوماً جَهُولًا فِي فِطْرَتِهِ ، أَيْ فِي طَبْعِ
الظُّلْمِ، وَالْجَهْلِ ؛ فَهُوَ مُعَرَّضٌ لَهُمَا ، مَا لَمْ يَعْصِمْهُ وَازِعُ
الدِّينِ، فَكَانَ مِنْ ظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ أَنْ أَضَاعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ
الْأَمَانَةَ الَّتِي حَمَلَهَا ” انتهى من “التحرير والتنوير” (22/ 129) .
فليس المعنى أنه ظلوم جهول لأنه اختار تحمل الأمانة، بل لأنه لم يف بها .
وبكل حال :
فهذا تحمل تشريف وتوفيق وكرامة ، وليس هو من عدم التوفيق والخذلان ، ولكن من تحمل
الأمانة فأداها فقد وفق حقا ورزق خيري الدنيا والآخرة ، ومن تحملها فلم يؤدها :
فهذا هو المخذول غير الموفق .
فعدم التوفيق في عدم أداء الأمانة ، لا في تحملها .
والتوفيق كل التوفيق في تحملها وأدائها .
قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل/ 97 .
قال ابن كثير رحمه الله :
” هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا – وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة
نبيه من ذكر أو أنثى من بني آدم ، وقلبه مؤمن بالله ورسوله ، وإن هذا العمل المأمور
به مشروع من عند الله – بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما
عمله في الدار الآخرة ، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت” انتهى من
“تفسير ابن كثير” (4 /601) .

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعتم بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android