0 / 0

حكم نذر الهازل .

السؤال: 238460

أرسلت إليكم سؤالا عن التلفظ بالنذر دون قصد إنشائه ، حيث ذكرت لكم أنني هيئ لي أنني تلفظت بصيغة النذر، وكان الأمر مجرد شك ، وظنا مني أنني وقعت في النذر كررت هذه الصيغة بصوت عال : ” هذا الشيء عليه نذر”، على سبيل التجربة أو على سبيل الحكاية مع النفس، لأرى إن كنت أصلا تلفظت بهذه الصيغة في المرة الأولى أم لا ، وأكدت لكم أنني حينما تلفظت بهذه الصيغة بصوت عال في المرة الثانية ، لم أكن أقصد إنشاء النذر، ولم أكن أقصد القربة ولا الطاعة ، كل ما في الأمر أنني كنت أحاور نفسي لأرى هل تلفظت بهذه الصيغة في المرة الأولى أم لا ، وكانت إجابتكم أنه طالما أنني لم أقصد إنشاء النذر، وطالما لم أنوه، فلا ينعقد النذر. واسمحوا لي أن أستوضح شيئا، أنتم قلتم طالما لم أقصد إنشاء النذر فلا نذر علي، ولكنني قرأت في فتاوى أخرى أن المرء إذا تلفظ بصيغة النذر، ولم يكن ينوه، يقع النذر حتى ولو لم يكن مقصودا، كالهازل واللاعب. وهذا هو ما سبب لي الحيرة ، الأمر لا يتعلق بالوسوسة ، كل ما في الأمر أنني قرأت أن نذر الهازل يقع ولو لم يكن مقصودا، وهو ما أصابني بالحيرة وطبقت هذا على نفسي ، رغم أنني لم أقصد أصلا إنشاء النذر، وقلت : إن فتوى نذر الهازل تنطبق علي. وسؤالي باختصار: كيف يتم الجمع بين الفتويين؟ فتوى نذر الهازل الذي تقولون : إنه يقع حتى ولو لم يكن مقصودا، وفتواكم لي بأن نذري لم يقع لأنني لم أقصد إنشاء النذر؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ : النِّكَاحُ ، وَالطَّلاقُ ، وَالرَّجْعَةُ ) رواه أبو داود ( 2194 ) ، والترمذي ( 1184 ) وابن ماجه ( 2039 ) ، وحسنه الألباني في “رواء الغليل” (1826) ..
وقاس العلماء على ذلك حقوق الله تعالى ، كالنذر .
وقد روى ابن أبي شيبة (4/ 114) عن سعيد بن المسيب عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: ” أَرْبَعٌ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَالٍ: الْعِتْقُ، وَالطَّلَاقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالنَّذْرُ ” .

وحكم الشرع بصحة هذه التصرفات من الهازل : لأن الإنسان ليس له أن يهزل ، ولا أن يمزح فيما يتعلق بحق الله تعالى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يقرر الفرق بين نكاح الهازل وبين بيعه :
“ومن فرق بين النكاح وبابه ، وبين البيع وبابه ، قال : الحديث والآثار تدل على أن من العقود ما يكون جده وهزله سواء ، ومنها ما لا يكون كذلك ، وإلا لقيل : إن العقود كلها ، والكلام كله : جده وهزله ، سواء .
وفَرَّق من جهة المعنى : بأن النكاح والطلاق والعتق والرجعة ونحو ذلك ، فيها حق الله سبحانه ، وهذا في العتق ظاهر .
وكذلك في الطلاق ، فإنه يوجب تحريم البضع في الجملة على وجه لايمكن استباحته ، ولهذا تجب إقامة الشهادة فيه ، وإن لم تطلبها الزوجة .
وكذلك في النكاح ، فإنه يفيد حل ما كان حراما ، على وجه لو أراد العبد حله بغير ذلك الطريق : لم يمكن ، ولو رضي الزوجان ببذل البضع لغير الزوج لم يجز ، ويفيد حرمة ما كان حلالا ، وهو التحريم الثابت بالمصاهرة ، فالتحريم حق لله سبحانه ، ولهذا لم يبح إلا بالمهر .
وإذا كان كذلك لم يكن للعبد ، مع تعاطي السبب الموجب لهذا الحكم : أن يقصد عدم الحكم ، كما ليس له ذلك في كلمات الكفر ، قال سبحانه : (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) ؛ لأن الكلام المتضمن لمعنى فيه حق لله سبحانه ، لا يمكن قبوله مع دفع ذلك الحق ، فإن العبد ليس له أن يهزل مع ربه ، ولا يستهزىء بآياته ، ولايتلاعب بحدوده ، ولعل حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم : (ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته) في الهازلين بمعنى أنهم يقولونها لعبا غير ملتزمين لحكمها ، وحكمها لازم لهم .
بخلاف البيع ونحوه ، فإنه تصرف في المال الذي هو محض حق الآدمي ، ولهذا يملك بذله بعوض وبغير عوض ، والإنسان قد يلعب مع الإنسان ويتبسط معه ، فإذا تكلم على هذا الوجه لم يلزمه حكم الجاد ، لأن المزاح معه جائز .
وحاصل الأمر : أن اللعب والهزل والمزاح في حقوق الله : غير جائز ؛ فيكون جد القول في حقوقه وهزله سواء ، بخلاف جانب العباد ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأعرابي يمازحه : (من يشتري مني العبد؟ فقال : تجدني رخيصا فقال : بل أنت عبدالله غال) وقصد النبي صلى الله عليه وسلم أنه عبد الله ، والصيغة صيغة استفهام ؛ فلا يضر ، لأنه يمزح ، ولا يقول إلا حقا .
ولو أن أحدا قال على سبيل المزاح : من يتزوج امرأتي ونحو ذلك ، لكان من أقبح الكلام ، بل قد عاب الله من جعل امرأته كأمه ، وكان عمر رضي الله عنه يضرب من يدعو امرأته أخته . وجاء ذلك في حديث مرفوع ، وإنما جاز ذلك لإبراهيم صلى الله عليه وسلم عند الحاجة ، لا في المزاح .
فإذا كان المزاح في البيع في غير محله جائزا ، وفي النكاح ومثله لا يجوز : ظهر الفرق” .
انتهى من “الفتاوى الكبرى ” (6/64) .
وقال ابن القيم رحمه الله:
” هَذَا شَأْنُ عَامَّةِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ : أِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَاهُ الْمَفْهُومِ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، لَا سِيَّمَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي عَلَّقَ الشَّارِعُ بِهَا أَحْكَامَهَا، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مَعَانِيَهَا، وَالْمُسْتَمِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَهَا عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ مَعَانِيَهَا ، بَلْ تَكَلَّمَ بِهَا غَيْرَ قَاصِدٍ لِمَعَانِيهَا ، أَوْ قَاصِدًا لِغَيْرِهَا : أَبْطَلَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ قَصْدَهُ ؛ فَإِنْ كَانَ هَازِلًا أَوْ لَاعِبًا لَمْ يَقْصِدْ الْمَعْنَى : أَلْزَمَهُ الشَّارِعُ الْمَعْنَى ؛ كَمَنْ هَزَلَ بِالْكُفْرِ وَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ ، بَلْ لَوْ تَكَلَّمَ الْكَافِرُ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ هَازِلًا : أُلْزِمَ بِهِ ، وَجَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامه ظَاهِرًا ” انتهى ” إعلام الموقعين ” (3/ 97) .

ثانيا :
مسألتك ليست من باب نذر الهازل ، لأنك لم تنشئ النذر ، إنما حكيته لتتثبت من أمرك ، وقد نص العلماء على أن من حكى عن نفسه أو عن غيره لفظ الطلاق –والطلاق أشد من النذر- أنه لا يقع بذلك طلاق .
قال البهوتي رحمه الله في كشاف القناع (5/ 234):
” (وَتُعْتَبَرُ إرَادَةُ لَفْظِ الطَّلَاقِ لِمَعْنَاهُ) ، أَيْ : أَنْ لَا يَقْصِدَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ غَيْرَ الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ لَهُ (فَلَا طَلَاقَ) وَاقِعٌ (لِفَقِيهِ يُكَرِّرُهُ وَ) لَا لــ (حَاكٍ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مَعْنَاهُ، بَلْ التَّعْلِيمَ أَوْ الْحِكَايَةَ ” انتهى .
ثم قال بعد ذلك (5/ 246) :
” (وَإِذَا أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ) غَيْرَ حَاكٍ وَنَحْوَهُ (وَقَعَ؛ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ) ، لِأَنَّ سَائِرَ الصَّرَائِحِ لَا تَفْتَقِر إلَى نِيَّةٍ، فَكَذَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ فَيَقَعُ.
(وَلَوْ كَانَ) الْآتِي بِالصَّرِيحِ (هَازِلًا أَوْ لَاعِبًا) حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ إجْمَاعُ مَنْ يَحْفَظُ عَنْهُ ، وَسَنَدُهُ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا (ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ ” انتهى .
ففرّقَ بين الهازل فأمضى عليه طلاقه، وبين الحاكي فلم يمضه عليه، فكذا هاهنا .
يراجع : “إقامة الدليل على بطلان التحليل” لشيخ الإسلام ابن تيمية (106-107) .

وينظر أيضا للفائدة : جواب السؤال رقم : (44038) .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

الإسلام سؤال وجواب

answer

موضوعات ذات صلة

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android