0 / 0

إذا استحلفه في حياته ألا يخبر بما رآه من عمله ، فأخبر به بعد موته .

السؤال: 242985

فى بعض القصص القديمة يكون أحد الناس عمل قربة إلي الله معينة ، ثم يسأله أحدهم ، فيخبره القصة ، ويستحلفه ألا يخبر أحدا بعد ذلك بهذه القربة أو العمل الصالح ، ثم بعد موته تصلنا القصة ، فهل الراوى فى هذه الحالة نقض عهده وأفشي السر؟
وهل قول أحدهم “منذ أربعين سنة لم تفتني تكبيرة الإحرام” هل هذا ينافي الأخلاق ، ويعد من الرياء؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
كان دأب السلف رحمهم الله في عملهم : أن يكون بينهم وبين الله ، لا يطلع عليه أحد من خلقه ، إلا بمقتضى الضرورة أو المصلحة الراجحة في إظهاره .
فيصلي أحدهم ما شاء الله له أن يصلي ، وينفق ويتصدق ويذكر الله ، ويحرص على إخفاء ذلك وعدم إظهاره ؛ حرصا على الإخلاص ، وحذرا من الريا والسمعة ، واتقاء ثناء الناس ومدحهم .
روى مسلم (2965) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ ، الْغَنِيَّ ، الْخَفِيَّ ).
قال القاري رحمه الله :
” ( الْخَفِيَّ ) أَيِ: الْخَامِلَ الْمُنْقَطِعَ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ الْمُشْتَغِلَ بِأُمُورِ نَفْسِهِ ، أَوِ الْخَفِيَّ الْخَيْر، بِأَنْ يَعْمَلَهُ وَيَصْرِفَ مَالَهُ فِي مَرْضَاةِ رَبِّهِ حَيْثُ لَا يُطْلِعَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ ، كَمَا وَرَدَ: (حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ) ، وَهذا هُوَ الْأَظْهَرُ ” انتهى من “مرقاة المفاتيح” (8/ 3306) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” هو الذي لا يظهر نفسه ، ولا يهتم أن يظهر عند الناس ، أو يشار إليه بالبنان ، أو يتحدث الناس عنه ، تجده من بيته إلى المسجد ، ومن مسجده إلى بيته ، ومن بيته إلى أقاربه وإخوانه خفي ، يخفي نفسه ” انتهى من “شرح رياض الصالحين” (3/ 511) .
قال ابن أبي عدي : ” صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله ، كان خزازا يحمل معه غذاءه فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشاء فيفطر معهم ” .
انظر : “تاريخ الإسلام” (8/415) .
ثانيا :
ربما كان من السلف من إذا رأى أحدا اطلع على عمله ، طلب منه ألا يخبر أحدا بما اطلع عليه من عمله:
فعن علي بن بكار قال: ” كان إبراهيم بن أدهم جالسا معنا عند المسجد ، إذ أقبل رجل أحمر مربوع عليه أثر سفر، حتى وقف علينا، فقال: أيكم إبراهيم بن أدهم ؟ فإما قال القوم : هذا، وإما قال إبراهيم : أنا ، فقام إليه إبراهيم فأخذ بيده فنحاه، قال: أي شيء أردت ؟ قال: أنا غلامك، بعثني إخوتك إليك ، ومعي عشرة آلاف وفرس وبغلة ، فقال له إبراهيم: إن كنت صادقا فأنت حر، وما معك لك، اذهب اذهب لا تخبر أحدا “.
انظر : “تهذيب الكمال” (2/ 35).
فحرص رحمه الله ألا يعلم أحد بما وهب لغلامه من الصدقة ، فطلب منه ألا يخبر أحدا بذلك .
ومثل هذا يقصد به ألا يخبر به حال حياته ؛ ليحفظ على نفسه إخلاصها ، ويتقي الشهرة ، ويبرأ من الرياء والسمعة .
أما بعد الموت: فلا حرج على أحد أن يخبر بما رأى أو علم من مثل ذلك ؛ لأن ما كان يحرص عليه صاحب القصة من الإخلاص وخوف الرياء انقضى زمانه بموته ، ولأن في الإخبار بذلك مصلحة للناس ، فيقتدون به فيما فعل من الخير .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
” قَالَ ابن بَطَّالٍ : الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ السِّرَّ لَا يُبَاحُ بِهِ إِذَا كَانَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْهُ مَضَرَّةٌ، وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ إِنَّهُ إِذَا مَاتَ لَا يَلْزَمُ مِنْ كِتْمَانِهِ مَا كَانَ يَلْزَمُ فِي حَيَاتِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ فِيهِ غَضَاضَةٌ .
قُلْتُ: الَّذِي يَظْهَرُ انْقِسَامُ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى :
– مَا يُبَاحُ ، وَقَدْ يُسْتَحَبُّ ذِكْرُهُ ، وَلَوْ كَرِهَهُ صَاحِبُ السِّرِّ، كَأَنْ يَكُونَ فِيهِ تَزْكِيَةٌ لَهُ، مِنْ كَرَامَةٍ أَوْ مَنْقَبَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .
– وَإِلَى مَا يُكْرَهُ مُطْلَقًا وَقَدْ يحرم، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابن بَطَّالٍ .
– وَقَدْ يَجِبُ كَأَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا يَجِبُ ذِكْرُهُ ، كَحَقٍّ عَلَيْهِ ، كَانَ يُعْذَرُ بِتَرْكِ الْقِيَامِ بِه ِ، فَيُرْجَى بَعْدَهُ إِذَا ذُكِرَ لِمَنْ يَقُومُ بِهِ عَنْهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ” انتهى من “فتح الباري” (11/ 82) .

ثالثا :
قد يخبر العالم بما يكون من بعض شأنه ، ليقتدي به الناس ويتابعوه عليه ، وهذا من كمال الإيمان ، فإن من كمال الإيمان أن يحب المسلم لأخيه من الخير ما يحب لنفسه .
وعلى هذا يُحمل ما جاء عن سَعِيد بْن الْمُسَيِّبِ رحمه الله قال : ” مَا فَاتَتْنِي التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً، وَمَا نَظَرْتُ فِي قَفَا رَجُلٍ فِي الصَّلَاةِ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً ” .
انتهى من “حلية الأولياء ” (2/ 163) .
ومقصوده ـ إن شاء الله ـ من حكاية ذلك :
– التنبيه على أهمية صلاة الجماعة .
– الترغيب في الصلاة في الصف الأول لما ورد في فضله .
– الترغيب في إدراك تكبيرة الإحرام .
– دعوة الناس إلى الهدى لتحصيل الأجر ، كما روى مسلم (2674) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ).
فمن فعل الخير وأخلص فيه لله ، ثم ذكره وأشاعه في الناس ، يبتغي بذلك أن يقتدوا به فيه ؛ رغبة في فعل الخير ، ومضاعفة الأجر : فلا شيء عليه ، بل هو مثاب على ذلك .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ” الفتح ” (11/337) :
” قَدْ يُسْتَحَبّ إِظْهَاره – يعني العمل – مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ ، عَلَى إِرَادَته الِاقْتِدَاءَ بِهِ ، وَيُقَدَّرُ ذَلِكَ بِقَدْرِ الْحَاجَة ، قَالَ ابْن عَبْد السَّلَام : يُسْتَثْنَى مِنْ اِسْتِحْبَاب إِخْفَاء الْعَمَل : مَنْ يُظْهِرُهُ لِيُقْتَدَى بِهِ ، أَوْ لِيُنْتَفَعَ بِهِ ، كَكِتَابَةِ الْعِلْمِ ، وَمِنْهُ حَدِيثُ سَهْل : ( لِتَأْتَمُّوا بِي ، وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي) .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : كَانَ اِبْن عُمَر وَابْن مَسْعُود وَجَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ يَتَهَجَّدُونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ ، وَيَتَظَاهَرُونَ بِمَحَاسِنِ أَعْمَالِهِمْ ، لِيُقْتَدَى بِهِمْ ” انتهى .

فمن أظهر عمله لمصلحة راجحة : فلا حرج عليه ، وعلى ذلك يحمل ما روي عن السلف الصالح في ذلك الباب .
أما من أظهره للرياء والسمعة: فهذا الذي عليه كل الحرج .
وانظر جواب السؤال رقم : (135634).
والله تعالى أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

answer

موضوعات ذات صلة

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android