أنا أعلم بأن هناك أحاديث تتكلم عن الآلات الموسيقية على أنها محرمة ماعدا الدف ، لكننا أيضاً أُخْبِرْنَا بأن الله فقط حرّم ما هو مؤذٍ لنا أو لغيرنا ، ما أريد أن أعرفه هو سبب تحريم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لاستعمال معظم الآلات الموسيقة ،إذا كانا فعلاً قد حَرَّمَا ؟ وما هو الضرر الذي سيجلبه علينا استعمال الآلات الموسيقية وحدها ؟ أنا أتكلم فقط عن العزف بالآلات الموسيقية ، بدون غناء ولا موسيقى المشاهير في وقتنا الحاضر التي تحتوي على كلمات نابية.
يسأل: ما هي الأضرار التي بسببها حرمت المعازف ؟
السؤال: 256429
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
دلت الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية على تحريم الغناء والمعازف ، بل نقل بعض العلماء الإجماع على ذلك .
وإذا كان بعض العلماء قد خالف في هذا ، فهو خلاف شاذ لا عبرة به ، ولا يلتفت إليه .
وانظر جواب السؤال رقم (5000) .
ثانيا :
نعم ، إن أصول الشرع ، وقواعده : قد دلت على أن ما ثبت ضرره على العباد : فهو حرام عليهم ، متى كان الضرر خالصا ، أو راجحا .
وسواء كان الضرر في أبدانهم ، أو أديانهم .
لكن لا يلزم أن يكون كل شيء حرمه الله : ضارا بنا ، بمجرده ، ضررا نلمسه بأبداننا، وحواسنا ، متى ما وقعنا فيه .
وفي الحرام ما هو محرم في حال دون حال ، وعلى شخص دون شخص ، كالذهب والحرير مثلا ، فهما محرمان على الرجال من أمة النبي صلى الله عليه وسلم ، مباحان للنساء من أمته .
ومع ذلك ، فلا نعلم أن الرجل متى لبس الذهب : أصابته حكة في جلده ، أو جاءه برص ، أو جذام ، أو جرب .. أو نحو ذلك مما يبحث عنه السائل ، من الأضرار ، لا نعلم ذلك ، ولا نطلبه ، ولا نبحث عنه ، ولا يعنينا في شيء ؛ فلا الحكم الشرعي يثبت بمثل ذلك ، إن ثبت ، ولا ينتفي بانتفائه ، إن انتفى .
ولا نعلم أن من يسمع الغناء والموسيقى : سوف يصيبه صمم في أذنيه ، أو عور في عينيه ، أو شلل في إحدى يديه .. لا نعلمه .. ولا يعنينا أن نعلمه .
كل ما يعنينا أن نعلمه ، ونبحث عنه : هو حكم الله ، وشرعه في النازلة ، والمسألة التي أمامنا .
فمتى ثبت لنا حكم الله ، لم نعارضه برأي ، ولا قياس ، ولا نتوقف في قبوله على معرفة علة ، أو حكمة … ؛ بل متى ظهرت لنا الحكمة من تشريع الله ما شرع ، من حلاله ، وحرامه : فبها ونعمت . وإلا ، لم نرد حكم ربنا ، وما شرعه لنا ، لأجل جهلنا بما جهلنا من حكمته .
وهذا هو جوهر الاستسلام لرب العالمين ، وإسلام الوجه له .
قال الله تعالى : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) النساء/65
وقال تعالى : (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) النور/51 .
وقال تعالى : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) الأحزاب/36 .
وقال تعالى : ( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) غافر /66
وتأمل هذا القول الجليل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ رواه أبو داود (162) وصححه الألباني .
فلم ير الصحابي الجليل بدا ، من أن يترك ما بدا له من ظاهر الرأي ، ويتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، في أن المسح إنما يكون أعلى الخف ، لا أسفله !!
وتأمل ذلك الأصل العظيم ، في تجربة صحابي جليل ، تقول لنا : لا تثقوا كثيرا بآرائكم ، بل متى بدا لكم أمر الشرع ، ولم يبلغه الرأي ، ولم يفهمه العقل ؛ فاتهموا هذا الرأي : أنه أخطأ ، واتهموا ذلك العقل : أنه جَهِل !!
روى البخاري (7308) عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا، إِلَّا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ، غَيْرَ هَذَا الأَمْرِ !!
بل كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه عن الشيء ، يظنون فيه منفعة ، ورفقا بهم ؛ فلا يجدون بدا أن يتركوا ذلك الذي نهاهم عنه نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ويعلمون أن الخير والبركة والنفع ، كل النفع : إنما هو في طاعة الله ورسوله .
روى مسلم (1548) عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: كُنَّا نُحَاقِلُ الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنُكْرِيهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى، فَجَاءَنَا ذَاتَ يَوْمٍ رَجُلٌ مَنْ عُمُومَتِي، فَقَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا، نَهَانَا أَنْ نُحَاقِلَ بِالْأَرْضِ فَنُكْرِيَهَا عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى، وَأَمَرَ رَبَّ الْأَرْضِ أَنْ يَزْرَعَهَا، أَوْ يُزْرِعَهَا، وَكَرِهَ كِرَاءَهَا وَمَا سِوَى ذَلِكَ .
ورواه أحمد في مسنده (2598) عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ ، ولفظه :
( خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَهَانَا عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَأَمْرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ لَنَا مِمَّا نَهَانَا عَنْهُ ) .
فهكذا كان شأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أمره ونهيه ، وما علموه من شرعه وأدبه .
وهكذا شأن أهل الديانة ، قاطبة .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : ” أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ” انتهى من “إعلام الموقعين” (1/6) .
وتأمل ذلك القول الجامع ، وتلك الوصية الجليلة ، من أبي الزناد ، التابعي الجليل ، رحمه الله ، ورضي عنه :
” إن السُنَن لا تُخاصم ، ولا ينبغي لها أن تُتَبع بالرأي والتفكير . ولو فعل الناس ذلك : لم يمض يوم ، إلا انتقلوا من دين إلى دين .
ولكنه ينبغي للسُنن أن تُلزم ، ويُتمسك بها ، على ما وافق الرأي ، أو خالفه !!
ولعمري ، إن السنن ، ووجوه الحق : لتأتي كثيرا على خلاف الرأي ومجانبته ، خلافا بعيدا ؛ فما يجد المسلمون بدا من اتباعها ، والانقياد لها …
ولكن السنن من الإسلام ، بحيث جعلها الله هي ملاك الدين ، وقيامه الذي بني عليه الإسلام ، وأي قول أجسم وأعظم خطرا مما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، حين خطب الناس ، فقال: ( وقد تركت فيكم أيها الناس ، ما إن اعتصمتم به ، فلن تضلوا أبدا ، أمرا بيننا: كتاب الله ، وسنة نبيه ) ؛ فقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما .
وايم الله ؛ إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة ، ونتعلمها شبيها بتعليمنا آي القرآن ، وما برح من أدركنا من أهل الفضل والفقه من خيار الناس : يعيبون أهل الجدل والتنقيب ، والأخذ بالرأي ، أشد العيب ، وينهوننا عن لقائهم ومجالستهم ، ويحذروننا مقاربتهم أشد التحذير ، ويخبروننا أنهم أهل ضلال وتحريف ، بتأويل كتاب الله ، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى كره المسائل وناحية التنقيب والبحث عن الأمور ، وزجر عن ذلك، وحذره المسلمين في غير موطن ، حتى كان من قوله صلى الله عليه وسلم كراهية ذلك أن قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء به فأتوا منه ما استطعتم .
فأي أمر أكف لمن يعقل عن التنقيب من هذا؟ ولم يبلغ الناس يوم قيل لهم هذا القول من الكشف عن الأمور جزءا من مائة جزء مما بلغوا اليوم ؟!
وهل هلك أهل الأهواء وخالفوا الحق إلا بأخذهم بالجدل ، والتفكير في دينهم ، فهم كل يوم على دين ضلال ، وشبهة جديدة ، لا يقيمون على دين، وإن أعجبهم ؛ إلا نقلهم الجدل والتفكير إلى دين سواه !!
ولو لزموا السنن ، وأمر المسلمين ، وتركوا الجدل : لقطعوا عنهم الشك ، وأخذوا بالأمر الذي حضهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضيه لهم .
ولكنهم تكلفوا ما قد كُفوا مُؤْنته ، وحملوا على عقولهم من النظر في أمر الله : ما قصُرت عنه عقولهم ، وحق لها أن تقصُر عنه ، وتحسر دونه . فهنالك تورطوا !! …
وقد قص الله تعالى ما عير – أو غير هذه الكلمة !! – به موسى عليه السلام ، من أمر الرجل الذي لقيه فقال: فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما [الكهف: 65] .
فكان منه في خرقه السفينة ، وقتله الغلام ، وبنائه الجدار : ما قد قال الله تعالى في كتابه ، فأنكر موسى ذلك عليه ، وجاءه ذلك في ظاهر الأمر منكرا لا تعرفه القلوب ، ولا يهتدي له التفكير ، حتى كشف الله ذلك لموسى فعرفه .
وكذلك ما جاء من سنن الإسلام ، وشرائع الدين التي لا توافق الرأي ، ولا تهتدي لها العقول؛ ولو كشف للناس عن أصولها ، لجاءت للناس واضحة ، بينة غير مشكلة ؛ على مثل ما جاء عليه أمر السفينة وأمر الغلام وأمر الجدار .
فإن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، كالذي جاء به موسى ؛ يُعْتَبر بعضُه ببعض ، ويشبه بعضُه بعضا .
ومن أجهل وأضل ، وأقل معرفة بحق الله وحق رسوله ، وبنور الإسلام وبرهانه = ممن قال لا أقبل سنة ، ولا أمرا مضى من أمر المسلمين : حتى يُكشف لي غيبه ، وأعرف أصوله؟
أوْ : لم يقل ذلك بلسانه ، فكان عليه رأيه ، وفعله ؟!
ويقول الله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [النساء: 65] ” انتهى من “الفقيه والمتفقه” للخطيب البغدادي (1/392-396) .
وأما إن كان مرادك معرفة : ما يضر بدين العبد ، وخلقه ، من أثر السماع الممنوع في شرع الله، فقد ذكر العلماء له أضرارا ومفاسد ، لا يتسع المقام لذكرها ، ولا نظنك تسأل هنا عنها .
فراجع ، إن شئت : “الاستقامة” لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، و”إغاثة اللهفان” و”الكلام على مسألة السماع” كلاهما لابن القيم رحمه الله ، و”كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع” لابن حجر الهيتمي .
وقد ذكر الشيخ حمود التويجري رحمه الله ، من المعاصرين، جملة من هذه المفاسد ، في كتابه “فصل الخطاب” (ص181-201) ، فيراجع للفائدة .
وينظر أيضا للفائدة جواب السؤال رقم (171894) ورقم (169673) ورقم (222730) ورقم (152009).
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة