0 / 0

هل السلف أولوا آيات المعية ووقعوا في التناقض؟

السؤال: 262799

سؤالي هو عن تنزيه الله وتأويل الآيات ، كثيرا ما ناقشت بعض الأشاعرة عن مسألة التأويل فقالوا لي إن أهل السنة يكيلون بمكيالين فيصرفون بعض الآيات الى التأويل مثل ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) فيقولون هنا بقدرته ,وعلمه وليس بذاته ومثلها ( وهو معكم أينما كنتم ) و ( لا تحزن إن الله معنا ) ثم يصرفون بعضها إلى الأخذ بالظاهر دون التأويل مثل ( الرحمن على العرش استوى ) ( أأمنتم من في السماء ) فعلى أي أساس تم صرف بعض الآيات الى التأويل وبعضها إلى الظاهر ؟
حقيقة قد عجزت عن الإجابة … أريد منكم إجابة شافية وشاملة لكل الآيات في هذا المجال وردود كل الشبهات التي تثار حولها لأن هذا الأمر قد أهمني كثيرا .

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا:

مذهب السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم إثبات ما أثبته الله لنفسه ، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه ويسلم من الصفات، من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا تأويل ولا تعطيل .

والنقول عنهم في ذلك مستفيضة.

والتأويل المتنازَع فيه : هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر ، إلى معنى مرجوح ، لدليل وقرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، كتأويل اليد بالقدرة، أو القوة، وتأويل الاستواء بالاستيلاء .

وهذا التأويل : لم يثبت عن أحد من الصحابة والتابعين.

ثانيا:

قد ظن قوم أن ظاهر بعض النصوص يقتضي التشبيه أو يوهم التشبيه، فقالوا: الظاهر غير مراد، وحملهم ذلك على تأويل نصوصها ، أو تفويض معانيها .

والحق : أن ظواهر النصوص لا يمكن أن تقتضي التشبيه، ولو كانت كذلك لم تكن حقا ولا هدى ولا بيانا ولا شفاء.

والظاهر هو المتبادر إلى الذهن بحسب السياق، فإذا قيل: يد، فهذا يشمل كل يد .

فإذا قيل: يد الإنسان، ويد الكرسي، ويد النملة، كان لكل مضاف ما يخصه ، وليست اليد كاليد .

فإذا قيل: يد الله، علم أنها صفة عظيمة لا يوقف على كنهها وحقيقتها، كما لا يوقف على كنه الذات الموصوفة بها.

ومن ظن أن ظاهر النصوص التشبيه، فقد أساء؛ إذ لو كانت كذلك للزم التحذير من هذا الظاهر، وبيان المعنى الحق؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

والنبي صلى  الله عليه وسلم أفصح الخلق، وأنصح الخلق، وقد قام بالبيان على وجهه، كما أمره الله، فلو كان في النصوص ما ظاهره الكفر ، أو يؤدي إلى الكفر : لكان أسرع الناس إلى كشفه وبيانه.

وبهذا تعلم أن هذه الدعوى فيها من القدح العظيم في بلاغ النبي صلى الله وعليه وسلم وبيانه، ما يتنزه بيانه وشرعه عنه ؛ بل فيها من القدح العظيم في كتاب الله تعالى ما فيها ؛ إذ كيف يكون هدى ونورا وبيانا وشفاء، ثم يكون مشتملا على ما هو كفر في حق الله تعالى!

 ثالثا:

التأويل : إذا قام عليه دليل فلا ينكر، ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) النحل/98 ، فإن ظاهره أن الاستعاذة تكون بعد القراءة، ودلت السنة على أن الاستعاذة قبل القراءة، فيكون المراد: فإذا أردت القراءة فاستعذ بالله.

ولا دليل على تأويل شيء من الصفات؛ لأن التأويل فرع عن استحالة المعنى الحقيقي ، أو أنه يلزم منه باطل ، يتنزه الشرع عنه ، كالتشبيه ، على حد زعمهم ؛ وقد بينا بطلانه.

فقول الجوهرة:

فكل نص أوهم التشبيها *** أوله أو فوّض ورم تنزيها

يقال فيه: ليس عندنا نص في صفات الله يوهم التشبيه، ولا يفهم أهل السنة من نصوص الصفات إلا العظمة والكمال لله تعالى.

ومثله قول المقّري:

والنـــص إن أوهـــم غيــر اللائــق *** بــالله كالــتشبــــيه للخـــــــــــــلائق

فاصــــرفه عن ظاهــره إجـماعــا *** واقـطـع عن المـمـتنـع الأطـمـاعـــــا

قال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:

” … فاتضح بما ذُكر أن الشرط في قول المقرئ في إضاءته:

والنص إن أوهم غير اللائق ..

شرط مفقود قطعا ; لأن نصوص الوحي الواردة في صفات الله لا تدل ظواهرها البتة ، إلا على تنزيه الله، ومخالفته لخلقه في الذات والصفات والأفعال.

فكل المسلمين الذين يراجعون عقولهم، لا يشك أحد منهم في أن الظاهر المتبادر السابق إلى ذهن المسلم : هو مخالفة الله لخلقه، كما نص عليه بقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى/11] ، وقوله: (لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ )[الإخلاص/4] ، ونحو ذلك من الآيات .

وبذلك تعلم : أن الإجماع الذي بناه على ذلك في قوله:

فاصرفه عن ظاهره ، إجماعا

إجماع مفقود أصلا، ولا وجود له البتة ; لأنه مبني على شرط مفقود لا وجود له البتة.

فالإجماع المعدوم المزعوم : لم يرد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، ولم يقله أحد من أصحاب رسول الله، ولا من تابعيهم، ولم يقله أحد من الأئمة الأربعة، ولا من فقهاء الأمصار المعروفين.

وإنما لم يقولوا بذلك ; لأنهم يعلمون أن ظواهر نصوص الوحي : لا تدل إلا على تنزيه الله عن مشابهة خلقه، وهذا الظاهر الذي هو تنزيه الله : لا داعي لصرفها عنه كما ترى.

ولأجل هذا كله قلنا في مقدمة هذا الكتاب المبارك: إن الله تبارك وتعالى موصوف بتلك الصفات حقيقة لا مجازا ; لأنا نعتقد اعتقادا جازما لا يتطرق إليه شك أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها، لا تدل البتة إلا على التنزيه عن مشابهة الخلق ، واتصافه تعالى بالكمال والجلال.

وإثبات التنزيه والكمال والجلال لله حقيقة لا مجازا – لا ينكره مسلم” انتهى من أضواء البيان (7/ 277).

 رابعا:

الأصل في كلام العرب حمل اللفظ على حقيقته، وعدم صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى لفظ مرجوح إلا بدليل وقرينة .

فعلم بهذا أن الأصل عدم التأويل، وعلى مدعيه : إثبات الدليل ، والقرينة الصارفة .

فإنه ليس ثمة قرينة لهم على ذلك ، إلا دعوى الاستحالة العقلية .

وهذا وهم لا يعول عليه .

ولهذا لا يمكن النقل عن أحد من السلف أنه قال: إن الظاهر محال، فيجب تأويله.

وقد صرح غير واحد من الأئمة بأن صفات الله تعالى على الحقيقة، لا على المجاز، بل حكوا الإجماع على هذا.

 قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: ” أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة ، والإيمان بها ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز .

إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ولا يحدّون فيه صفة محصورة.

وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج : فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة . ويزعمون أن من أقر بها مشبه . وهم عند من أثبتها : نافون للمعبود.

والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله ، وهم أئمة الجماعة والحمد لله” انتهى من التمهيد (7/ 145).

خامسا:

ليس في آيات المعية ما يقتضي التأويل، ولا يصح أن يقال: إن ظاهرها غير مراد، بل هي على ظاهرها، وظاهرها حق لا مرية فيه.

فإن (مع) لا تقتضي في اللغة اختلاطا ولا امتزاجا ولا اتصالا، بل هي لمطلق المصاحبة والمقارنة، ألا ترى أن القمر يكون مع المسافر وغيره، وهو عال بعيد ، لا يخالط الناس ، ولا يمازجهم ؟!

والمعية : قد تفيد العلم، أيضا ، وقد تفيد النصرة، إذا كان السياق يدل على ذلك ، ويعينه .

فقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) الحديد/4، وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة:7] :

هذه المعية هنا : هي معية العلم، بدلالة السياق، وليس في ذلك تأويل للآيات ، ولا صرف لها عن ظاهرها ؛ فإن الله جل جلاله : مع خلقه، حقيقة ؛ وذلك لا يعني أنه مخالط لهم ، أو حال فيهم ، تعالى الله عما يظن الجاهلون ، أو يتوهم المتوهمون .

ولهذا ” قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله [أي أحمد بن حنبل] عن رجل قال: إن الله معنا ، وتلا هذه الآية: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ؟

قال أبو عبد الله: قد تجهم هذا، يأخذون بآخر الآية ويدعون أولها: {ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) : العلم معهم .

وقال في (ق): (ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) فعلمه معهم” انتهى من الإبانة لابن بطة (3/159).

وقد أجمع السلف على تفسير المعية هنا بالعلم، كما حكاه ابن أبي شيبة، وابن بطة، وأبي عمرو الطلمنكي، وابن عبد البر، رحمه الله.

انظر: العرش وما روي فيه، لابن أبي شيبة، ص288، العلو، للذهبي، ص246، الأربعين في أصول الدين، له، ص66، التمهيد (7/138).

قال ابن عبد البر رحمه الله: ” لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حملت عنهم التأويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله ” انتهى

وأما قوله تعالى: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) التوبة/40، فهذه معية التأييد والنصرة كما دل عليها السياق.

وقوله تعالى: (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) طه/46، فيه إثبات معية السمع والبصر.

فالمعية : لمطلق المصاحبة، ثم يكون معناها بحسب السياق .

ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/22).

 قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن آية الحديد والمجادلة: “لا ريب أن السلف فسروا معية الله تعالى لخلقه في الآيتين بالعلم، وحكى بعض أهل العلم إجماع السلف عليه .

وهم بذلك لم يؤولوها تأويل أهل التعطيل، ولم يصرفوا الكلام عن ظاهره، وذلك من وجوه ثلاثة:

الأول: أن الله تعالى ذكرها [يعني : المعية] في سورة المجادلة بين عِلْمين، فقال في أول الآية: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ، وقال في آخرها: (إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ؛ فدل ذلك على أن المراد أنه يعلمهم ولا يخفى عليه شيء من أحوالهم.

الثاني: أن الله تعالى ذكرها في سورة الحديد مقرونة باستوائه على عرشه الذي هو أعلى المخلوقات، فقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) إلى قوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) ؛ فدل على أن المراد معية الإحاطة بهم ، علما وبصرا، لا أنه معهم بذاته في كل مكان، وإلا لكان أول الآية وآخرها متناقضا.

الثالث: أن العلم من لوازم المعية، ولازم اللفظ من معناه ، فإن دلالة اللفظ على معناه من وجوه ثلاثة: دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام ، ولهذا يمكن أن نقول: هو سبحانه معنا بالعلم، والسمع، والبصر، والتدبير والسلطان وغير ذلك من معاني ربوبيته ، كما قال تعالى لموسى وهارون: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) ، وقال هنا في سورة الحديد: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

فإذا كان العلم من لوازم المعية : صح أن نفسرها به ، وبغيره من اللوازم التي لا تنافي ما ثبت لله تعالى من صفات الكمال، ولا يعد ذلك خروجا بالكلام عن ظاهره” انتهى من “مجموع فتاوى ورسائل العثيمين” (1/ 247-250).

وقال رحمه الله: ” المعية لا تقتضي الحلول والاختلاط، بل هي في كل موضع بحسبه، ولهذا يقال: سقاني لبنا معه ماء. ويقال: صليت مع الجماعة. ويقال: فلان معه زوجته.

ففي المثال الأول: اقتضت المزج والاختلاط، وفي الثاني اقتضت المشاركة في المكان والعمل بدون اختلاط، وفي الثالث اقتضت المصاحبة ، وإن لم يكن اشتراك في مكان أو عمل .

وإذا تبين أن معنى المعية يختلف بحسب ما تضاف إليه، فإن معية الله تعالى لخلقه تختلف عن معية المخلوقين لمثلهم ، ولا يمكن أن تقتضي المزج والاختلاط أو المشاركة في المكان؛ لأن ذلك ممتنع على الله عز وجل ، لثبوت مباينته لخلقه وعلوه عليهم .

وعلى هذا : يكون معنا، وهو على العرش فوق السماوات ، لأنه محيط بنا علما، وقدرة ، وسلطانا، وسمعا، وبصرا، وتدبيرا، وغير ذلك مما تقتضيه ربوبيته .

فإذا فسرها مفسر بالعلم : لم يخرج بها عن مقتضاها، ولم يكن متأولا ، إلا عند من يفهم من المعية المشاركة في المكان ، أو المزج والاختلاط ، على كل حال ؛ وقد سبق أن هذا ليس بمتعين في كل حال” انتهى من “مجموع فتاوى ورسائل العثيمين” (1/ 118) .

فتبين بهذا : أن السلف لم يؤلوا آيات المعية، ولم يقعوا في التناقض، بل فسروا الآيات على ظاهرها، واعتقدوا أن الظاهر حق ، لا يستلزم حلولا ، ولا اتحادا ، ولا يقتضي ولا يوهم تشبيا.

وانظر للفائدة: جواب السؤال رقم (224764).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

answer

موضوعات ذات صلة

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android