أظن أني وجدت تصحيفا منتشرا في كتاب أحمد بن حنبل “الرد على الزنادقة و الجهمية” في باب رده على المعتزلة ، الذين زعموا أن الله – في القرآن – إنما هو اسم مخلوق ، أرى أنه يستقيم كلامه هكذا: “ولكن نقول: إن الله هو الله ، وليس الله باسم ، إنما الأسماء كل شيء سمّى الله ، لأن الله يقول: (ولله الأسماء الحسنى)، ولا يجوز أن يكون اسم لاسم ، ففي هذا بيان كفر الجهمية ” ولا يستقيم كلامه بما هو منتشر في النسخ الآن: “و لكن نقول: إن الله هو الله ، وليس الله باسم ، إنما الأسماء كل شيء سوى الله … ” فإن كلمة ” سوى ” مشكلة فإن أحمد بن حنبل كان يذم المعتزلة لإطلاقهم القول بأن أسماء الله غيره ، بمعنى أنها مخلوقة بائنة عنه .
وأما السؤال:
فإني وـ الحمد لله ـ أعلم أن أسماء الله التي سمى الله بها نفسه غير مخلوقة ؛ لأنها من كلامه ، وأعلم أن الاسم يراد به المسمى وأنه للمسمى ، كما أعلم أن الكلام ينسب إلى قائله ابتداء إذ يقوم الكلام بالمتكلم به، لا بناقله. فيكون القرآن غير مخلوق لأنه كلام الله وصفته ، والقول في أسماء الله نوع من القول في كلامه ، فإن الاسم من الكلام ، وكون الاسم من الكلام يقتضي أن الاسم يقوم بمن سمى ابتداء ، بمعنى أنه إن سمى شخص نفسه أو غيره باسم كان ذلك الاسم قائما بشخصه صفة له غير بائن عنه ، ولا إشكال يرد على كون أسماء الله سبحانه غير مخلوقة ؛ لأنه هو المسمي لنفسه ابتداء بأسمائه الحسنى ، بل لا إشكال يرد على كون أسماء العباد مخلوقة ، إذ هم سموا أنفسهم ابتداء بهذه الأسماء ، ولكن إن سمى الله بعض عباده ابتداء بأسماء أليس يلزم من ذلك أن يكون اسم ذلك المخلوق غير مخلوق؟ أم أن الله سبحانه لا يسمي مخلوقاته ابتداء بأسماء؟
هل حروف المعجم مخلوقة، وما الضابط فيها إذا تكلم بها الله عز وجل أن تكلم بها المخلوق ؟
السؤال: 264760
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
الجملة التي نقلت عن الإمام أحمد رحمه الله مستقيمة، ولا إشكال فيها.
قال رحمه الله في الرد على الجهمية في قولهم: “الله: اسم مخلوق”:
” وزعمت الجهمية أن (الله) في القرآن إنما هو اسم مخلوق!
فقلنا: قبل أن يخلق هذا الاسم، ما كان اسمه؟
قالوا: لم يكن له اسم!
فقلنا: وكذلك قبل أن يخلق العلم، أكان جاهلا، لا يعلم، حتى خلق لنفسه علمًا، وكان لا نور له حتى خلق لنفسه نورًا، وكان ولا قدرة له، حتى خلق لنفسه قدرة؟!
فعلم الخبيث أن الله قد فضحه، وأبدى عورته للناس، حين زعم أن (الله) جل ثناؤه في القرآن إنما هو اسم مخلوق.
وقلنا للجهمي: لو أن رجلاً حلف بالله الذي لا إله إلا هو كاذبًا، كان لا يحنث؟! لأنه حلف بشيء مخلوق، ولم يحلف بالخالق، ففضحه الله في هذه.
وقلنا له: أليس النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء رضي الله عنهم، من بعدهم، والحكام والقضاة، إنما كانوا يُحَلِّفون الناس بالله الذي لا إله إلا هو؟ فكانوا في مذهبكم مخطئين، إنما كان ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن بعده- في مذهبكم- أن يحلّفوا الناس بالذي خلق اسم (الله)، وإذا أرادوا أن يقولوا: لا إله إلا الله، أن يقولوا: لا إله إلا الذي خلق اسم (الله)، وإلا لم يصح توحيدهم؟!
ففضحه الله عز وجل بما ادعى على الله من الكذب.
ولكن نقول: إن (الله) هو (الله)، وليس (الله) باسم، إنما الأسماء كل شيء سوى (الله)؛ لأن الله يقول: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) ، ولا يجوز أن يكون اسم، لاسم.
ففي هذا بيان كفر الجهمية” انتهى من “الرد على الزنادقة والجهمية” تحقيق: دغش بن شبيب العجمي، ص314- 316
فالجهمية زعموا أن “الله” اسم مخلوق.
والإمام أحمد رحمه الله قد رد هذه الدعوى من عدة أوجه، منها ما ختم به كلامه من الاستدلال بقوله تعالى (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) ففيها أن الأسماء غير الله؛ لأنه لا يكون اسم لاسم.
ولا إشكال في قوله إن الأسماء غير الله، أو كل شيء سوى الله، فالاسم يدل على المسمى ، أو هو للمسمى، الذي هو “الذات” ، وليس عينه.
ولا محذور في هذا، إنما المحذور أن يتوصل بهذا إلى القول بأن أسماءه مخلوقه لأنها غيره، فلهذا أنكر الأئمة على من قال: إن الاسم غير المسمى، أي حذرا من القول بأن الأسماء مخلوقة. لكن إذا قيل: الاسم غير المسمى، بل هو له، ويدل عليه، وقيل مع ذلك: إنه غير مخلوق، فلا محذور حينئذ.
ويؤكد صحة العبارة: ما قبله من قوله: ” وليس (الله) باسم” فهو صريح في المغايرة.
والمختار في هذا ألا يطلق القول بأن الاسم عين المسمى أو غيره.
قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية (1/ 102): ” وكذلك قولهم: الاسم عين المسمى أو غيره؟
وطالما غلط كثير من الناس في ذلك، وجهلوا الصواب فيه:
فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى .
فإذا قلت: قال الله كذا، أو سمع الله لمن حمده، ونحو ذلك – فهذا المراد به المسمى نفسه .
وإذا قلت: الله اسم عربي، والرحمن اسم عربي، والرحمن من أسماء الله تعالى ونحو ذلك – فالاسم هاهنا للمسمى، ولا يقال: غيره؛ لما في لفظ الغير من الإجمال، فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد أن الله سبحانه كان ولا اسم له، حتى خلق لنفسه أسماء، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم: فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى” انتهى.
وينظر للفائدة : “مجموع الفتاوى” لشيخ الإسلام (6/186) وما بعدها .
ثانيا:
إذا سمى الله عبده باسم، أو تكلم بكلام، فكلامه غير مخلوق، وإذا سمى الناسُ غيرهم بأسماء، فهذه الأسماء مخلوقة؛ لأن كلام العباد وحروفهم مخلوقة.
فإذا قال الله: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) فهذه الجملة بحروفها ومعانيها: غير مخلوقة.
وإذا قال الإنسان: ذهب زيد إلى المسجد، فهذه الجملة بحروفها ومعانيها: مخلوقة، مع أن هذه الكلمات وهذه الحروف وقد وردت في كلام الله تعالى.
والضابط في هذا : أن ما “تكلم” الله به من “كلام” : فهو غير مخلوق ، حروفه ومعانيه .
وما “تكلم” العباد به من “كلام” : فهو مخلوق ، حروفه ومعانيه . إلا إذا كان مراده بذلك أن ينقل كلام الله تعالى ، فكلام الله غير مخلوق ، وإن تلاه التالي ، وقرأه القارئ.
وليس الاسم صفة تقوم بالموصوف كما ذكرت، وإنما الاسم للمسمى، ويجوز أن يغيّر ويسمى باسم آخر.
والاشتباه الذي وقع لك في الأسماء التي سمى الله بها عباده، هو نفس الاشتباه الذي وقع لبعض الناس في حروف المعجم، فظن أنه ما دام الله قد تكلم بها، فإنها تكون غير مخلوقة دائما.
وهذا باطل، بل إذا تكلم بها العبد، فهي مخلوقة، وإذا تكلم بها الرب لم تكن مخلوقة.
فإن قيل : كيف يكون الحرف الواحد مخلوقا وغير مخلوق؟
فالجواب: أنه ليس واحدا بالعين، بل بالنوع.
وقد جلى الإمام ابن القيم رحمه الله هذه المسألة في كلام مهم نسوقه بحروفه.
قال رحمه الله:
” وإذا قيل حروف المعجم قديمة أو مخلوقة؟
فجوابه أن الحرف حرفان: فالحرف الواقع في كلام المخلوقين: مخلوق، وحروف القرآن غير مخلوقة.
فإن قيل: كيف: الحرف الواحد مخلوق، وغير مخلوق؟!
قيل: ليس بواحد بالعين، وإن كان واحدا بالنوع، كما أن الكلام ينقسم إلى مخلوق وغير مخلوق، فهو واحد بالنوع لا بالعين.
وتحقيق ذلك: أن الشيء له أربع مراتب: مرتبة في الأعيان، ومرتبة في الأذهان، ومرتبة في اللسان، ومرتبة في الخط .
فالمرتبة الأولى وجوده العيني، والثانية وجوده الذهني، والثالثة وجوده اللفظي، والرابعة وجوده الرسمي.
وهذه المراتب الأربعة تظهر في الأعيان القائمة بنفسها، كالشمس مثلا، وفي أكثر الأعراض أيضا، كالألوان وغيرها .
ويعسر تمييزه في بعضها، كالعلم والكلام .
أما العلم: فلا يكاد يحصل الفرق بين مرتبته في الخارج، ومرتبته في الذهن، بل وجوده الخارجي مماثل، لوجوده الذهني.
وأما الكلام: فإن وجوده الخارجي ما قام باللسان، ووجوده الذهني ما قام بالقلب، ووجوده الرسمي ما أظهر الرسم، فأما وجوده اللفظي فقد اتحدت فيه المرتبتان: الخارجية، واللفظية.
ومن مواقع الاشتباه أيضا أن الصوت الذي يحصل به إنشاء الكلام، مثل الصوت الذي يحصل به أداؤه وتبليغه، وكذلك الحرف .
فصوت امرئ القيس وحروفه من قوله: ( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ) ؛ كصوت المنشد لذلك حكاية عنه، وحرفه .
فإذا قال القائل: هذا كلامك، أو كلام امرئ القيس؟
كان السؤال مجملا، تحتمل الإشارة فيه معنيين:
أحدهما: أن يراد الإشارة إلى صوت المؤدي وحروفه .
والثاني: أن يراد الإشارة إلى الكلام المؤدَّى، بصوت هذا وحروفه .
والغالب إرادته هو الثاني، ولهذا يحمد القائل له أولا أو يذم، وإنما يحمد الثاني أو يذم على كيفية الأداء، وحسن الصوت وقبحه.
والكلام يضاف إلى من قاله مبتدئا، لا إلى من قاله مبلغا مؤديا، فإذا قال الواحد منا: الأعمال بالنيات ، مؤديا له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل أحد: إن هذا قولك وكلامك ؛ وإن قيل: إنك حسن الأداء له، حسن التلفظ به . وهذا الذي قام به، وهو حسنه وفعله، وعليه يقع اسم الخلق، ولشدة ارتباطه بأصل الكلام عسر التمييز.
ومن هاهنا غلطت الطائفتان:
إحداهما: جعلت الكل مخلوقا منفصلا، والثانية: جعلت الكل قديما، وهو عين صفة الرب نظرا إلى من تكلم به أولا.
والحق ما عليه أئمة الإسلام كالإمام أحمد والبخاري وأهل الحديث: أن الصوت صوت القارئ والكلام كلام الباري” انتهى من مختصر الصواعق المرسلة، ص509
فيقال هنا: إذا سمى الله آدم ونوحا وإبراهيم، فقال: يا آدم، أو يا نوح، أو يا إبراهيم، فهذا كلام غير مخلوق، حروفه ومعانيه.
وإذا قلنا نحن: أبو الأنبياء اسمه آدم، ونوح نجاه الله في الفلك، وإبراهيم خليل الله، فهذا كلام مخلوق، حروفه ومعانيه.
فحيث كان الكلام من الله فهو غير مخلوق. وحيث كان الكلام من العبد، ولو بنفس الألفاظ والحروف التي تكلم الله بها، فهو مخلوق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
” فمن قال: إن حروف المعجم كلها مخلوقة، وإن كلام الله تعالى مخلوق، فقد قال قولا مخالفا للمعقول الصريح والمنقول الصحيح.
ومن قال: [إن] نفس أصوات العباد أو مدادهم، أو شيئا من ذلك قديم، فقد خالف أيضا أقوال السلف وكان فساد قوله ظاهرا لكل أحد، وكان مبتدعا قولا لم يقله أحد من أئمة المسلمين، ولا قالته طائفة كبيرة من طوائف المسلمين، بل الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم بريئون من ذلك.
ومن قال: إن الحرف المعين أو الكلمة المعينة قديمة العين، فقد ابتدع قولا باطلا في الشرع والعقل.
ومن قال: إن جنس الحروف التي تكلم الله بها بالقرآن وغيره ليست مخلوقة، وإن الكلام العربي الذي تكلم به ليس مخلوقا، والحروف المنتظمة منه جزء منه ولازمة له، وقد تكلم الله بها فلا تكون مخلوقة: فقد أصاب.
وإذا قال: إن الله هدى عباده وعلمهم البيان، فأنطقهم بها باللغات المختلفة، وأنعم عليهم بأن جعلهم ينطقون بالحروف التي هي مباني كتبه وكلامه وأسمائه: فهذا قد أصاب.
فالإنسان، وجميع ما يقوم به من الأصوات والحركات وغيرها: مخلوق، كائن بعد أن لم يكن والرب تعالى بما يقوم به من صفاته وكلماته وأفعاله غير مخلوق.
والعباد إذا قرءوا كلامه، فإن كلامه الذي يقرؤونه، هو كلامه لا كلام غيره، وكلامه الذي تكلم به لا يكون مخلوقا، وكان ما يقرؤون به كلامه، من حركاتهم وأصواتهم: مخلوقا.
وكذلك ما يكتب في المصاحف من كلامه فهو كلامه مكتوبا في المصاحف، وكلامه غير مخلوق، والمداد الذي يكتب به كلامه وغير كلامه مخلوق” انتهى من مجموع الفتاوى (12/ 54، 55).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب