حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ : ” لَمَّا قَدِمَ أَهْلُ الْيَمَنِ زَمَانَ أَبِي بَكْرٍ وَسَمِعُوا الْقُرْآنَ جَعَلُوا يَبْكُونَ ، قَالَ : فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : هَكَذَا كُنَّا ثُمَّ قَسَتِ الْقُلُوبُ ” ، قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَعْنَى قَوْلِهِ : قَسَتِ الْقُلُوبُ ، قَوِيَتْ وَاطْمَأَنَّتْ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
ما صحة الحديث ؟ وما معنى الشرح لأني أشعر أنه غير متفق مع السياق ، وقد قرأت شرحا آخر للألوسي أنه قال : إن الطراز الأول من الصحابة كانوا إذا تليت عليهم الآيات بكوا خوفا من الله ، وأن من جاء بعدهم قست قلوبهم فأرجو الإفادة .
هل صح عن أبي بكر الصديق أنه لما رأى قوما يبكون عند سماع القرآن قال :” هكذا كنا ثم قست قلوبنا “؟
السؤال: 265072
ملخص الجواب
ملخص الجواب : ما ورد عن أبي الصديق رضي الله عنه لا يثبت . وإن ثبت فإنه خرج منه على سبيل التواضع ، والإزراء بالنفس . ومعناه على ظاهره ، من أن الأصل في القلب اللين الخاشع البكاء عند سماع القرآن ، بخلاف القلب القاسي . ولا شك أن أبا بكر ليس من هؤلاء أصحاب القلوب القاسية ، وحاشاه من ذلك . وتأويل القسوة بالقوة والاطمئنان تعسف في تفسير الكلام ، ومخالف للغة العربية ، وللشريعة الربانية .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
أما الأثر فإنه لا يثبت عن أبي بكر الصديق ، حيث إنه يروى عن أبي بكر مرسلا ، من طريقين :
الأول : أخرجه ابن أبي شيبة في “مصنفه” (35524) ، وأبو عبيد في “فضائل القرآن” (ص135) ، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (1/33) ، من طريق أبي معاوية عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، قَالَ:( لَمَّا قَدِمَ أَهْلُ الْيَمَنِ فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ ، فَسَمِعُوا الْقُرْآنَ جَعَلُوا يَبْكُونَ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:” هَكَذَا كُنَّا ، ثُمَّ قَسَتِ الْقُلُوبُ ) .
وإسناده مرسل ؛ أبو صالح لم يسمع من أبي بكر رضي الله عنه .
قال ابن أبي حاتم في “المراسيل” (201) :” قَالَ أَبُو زُرْعَةَ : أَبُو صَالِحٍ ذَكْوَانُ ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ : مُرْسلٌ “. انتهى
الثاني : أخرجه ابن الكمال الحنبلي في “المنتقى من سماعات محمد بن عبد الرحيم المقدسي” (10) ، من طريق رَوْح بْن عُبَادَةَ ، قال ثنا شُعْبَةُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: قَدِمَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ ، وَجَعَلُوا يَبْكُونَ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:( هَكَذَا كُنَّا حَتَّى قَسَتِ الْقُلُوبُ ) .
وإسناده مرسل أيضا ، حيث لم يسمع عمرو بن مرة من أبي بكر رضي الله عنه .
قال ابن أبي حاتم في “المراسيل” (531) :” سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا مِنَ ابْنِ أَبِي أَوْفَى “. انتهى
ثانيا :
وأما من حيث المعنى فإن الفعل ” قسا ” ، يدل في اللغة العربية على الشدة والصلابة .
قال ابن فارس في “معجم مقاييس اللغة” (5/87) :” ( قسي ) : القاف والسين والحرف المعتل يدلُّ على شِدَّة وصلابة ، من ذلك الحجر القاسي .
والقَسْوة: غِلَظ القَلْب ، وهي من قسوة الحَجَر. قال الله تعالى:( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كالحِجَارَةِ أوْ أَشَدُّ قَسْوةً ). البقرة/74 ، والقاسية: اللَّيلة الباردة .
ومن الباب المُقاساة: معالجَة الأمر الشَّديد . وهذا من القَسوة ، لأنَّهُ يُظهِر أنّه أقسَى من الأمر الذي يُعالِجهُ . وهو على طريقة المُفاعَلة “. انتهى
ويستعمل مع القلب على سبيل الذم ، وبهذا جاء القرآن في عدة مواضع ، منها :
قوله تعالى :( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) . البقرة/74 .
وقوله تعالى :( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) . المائدة/13 .
وقوله تعالى :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) . الأنعام/42 ، 43 .
قال شيخ الإسلام في “مجموع الفتاوى” (7/30) :” وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ ” قَسْوَةَ الْقُلُوبِ ” الْمُنَافِيَةَ لِلْخُشُوعِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَالَ تَعَالَى:( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) . قَالَ الزَّجَّاجُ: قَسَتْ فِي اللُّغَةِ: غَلُظَتْ وَيَبِسَتْ وَعَسِيَتْ.
فَقَسْوَةُ الْقَلْبِ : ذَهَابُ اللِّينِ وَالرَّحْمَةِ وَالْخُشُوعِ مِنْهُ ، وَالْقَاسِي والعاسي: الشَّدِيدُ الصَّلَابَةِ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَسَتْ وَعَسَتْ وَعَتَتْ. أَيْ يَبِسَتْ.
وَقُوَّةُ الْقَلْبِ الْمَحْمُودَةُ : غَيْرُ قَسْوَتِهِ الْمَذْمُومَةِ ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَلَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ “. انتهى
بل إن الله تعالى عاتب الصحابة رضي الله عنهم بقوله تعالى :( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) . الحديد/16
فقد أخرج مسلم في “صحيحه” (3027) ابْنَ مَسْعُودٍ ، قَالَ:( مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ:( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ ). الحديد/16 ، إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ ).
قال ابن هبيرة في “الإفصاح عن معاني الصحاح” (2/131) في شرحه على هذا الحديث :” فيه ما يدل على أن القرآن العزيز وبخ قومًا على بطء خشوع قلوبهم بعد نزول القرآن “. انتهى
وهذا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ بعَثَ إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ ، فَقَالَ: أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ ، فَاتْلُوهُ ، وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الْأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ ، كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ “. أخرجه مسلم في “صحيحه” (1050) .
ثالثا :
وأما قول أبي بكر رضي الله عنه – إن صح عنه – فإن الصواب في معناه : أنه على أصله في أن المراد بالقسوة هنا ذهاب اللين والخشوع من القلب ، إلا أنه خرج من أبي بكر رضي الله عنه على سبيل الوعظ ، أو على سبيل التواضع والإزراء بالنفس ، فأبو بكر أتقى هذه الأمة ، وألينها قلبا ، بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى أنه كان يعرف بالأَسِيف ، إذ لم يكن يملك عينيه من البكاء إذا قرأ القرآن .
ففي صحيح البخاري (712) من حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ:( لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَتَاهُ بِلاَلٌ يُوذِنُهُ بِالصَّلاَةِ ، فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ ، قُلْتُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إِنْ يَقُمْ مَقَامَكَ يَبْكِي ، فَلاَ يَقْدِرُ عَلَى القِرَاءَةِ ).
وأخرج البخاري أيضا في “صحيحه” (476) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت :( وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً ، لاَ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ القُرْآنَ ) .
قال الباقلاني في “الانتصار للقرآن” (1/93) :” ولما قدم أهل اليمن أيامَ أبي بكرٍ سمعوا القرآن فجعلوا يبكون ، فقال أبو بكر: “هكذا كنا ثم قست القلوب ” .
يعني بذلك : أن قلوبَ كثيرٍ من أهل ذلك العصر قست ، دونه ، ودُون الأئمة ومن جرى مجراهم من جلة الصحابة .
وقد يمكن أن يكون ذلك على وجه العظة وطلب الزيادة والخشوع “. انتهى
رابعا :
وأما قول أبي نعيم الأصبهاني في “حلية الأولياء” (1/33) تفسيرا لقول الصديق :” وَمَعْنَى قَوْلِهِ: قَسَتِ الْقُلُوبُ : قَوِيَتْ وَاطْمَأَنَّتْ بِمَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى “. انتهى
فإن هذا القول فيه نظر ، لما يلي :
أولا : أنه مخالف لظاهر اللفظ ، وما تدل عليه اللغة ، على ما مر شرحه .
قال الهروي في “الغريبين” (5/1545) :” وكل صلب فهو قاس ، ومنه قوله تعالى:( قلوبهم قاسية ) أي صلبة لا رحمة فيها ، وقال ابن عرفة: قاسية أي جافية عن الذكر غير قابلة له والقسوة جفوة القلب وغلظه ، والقساوة مثله “. انتهى
ثانيا : أنه معارض لمعنى تواترت عليه الشريعة ، وهو أن من صفات المؤمنين أنهم إذا تليت عليهم آيات القرآن : فاضت أعينهم من البكاء .
وقد جاءت عدة آيات تدل على ذلك ، منها :
قوله تعالى :” وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109). الإسراء/106- 109
وهذا هو حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم سادات الأولياء.
قال شيخ الإسلام في “مجموع الفتاوى” (11/8) :” لَكِنَّ الْأَحْوَالَ الَّتِي كَانَتْ فِي الصَّحَابَةِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ ، وَهِيَ وَجَلُ الْقُلُوبِ وَدُمُوعُ الْعَيْنِ وَاقْشِعْرَارُ الْجُلُودِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:( إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) ، وَقَالَ تَعَالَى:( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) ، وَقَالَ تَعَالَى:( إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) ، وَقَالَ:( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} وَقَالَ: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) “. انتهى
ثالثا : أن القول بأن قلب الصديق لما اطمئن بالإيمان ، لم يعد يبكي عند سماع القرآن ، بخلاف من كان حديث العهد بالإيمان ، يعد من شطحات الصوفية ، فإنهم أول من أحدثوا هذا القول .
قال أبو العباس الحسني في “البحر المديد” (3/346) :” من شأن القلب في أول أمره الرطوبة ، يتأثر بالواردات والأحوال ، فإذا استمر عليها اشتد وصلُب بحيث لا يؤثر فيه شيء من الواردات الإلهية . وفي هذا المعنى قال أبو بكر رضي الله عنه، حين رأى قوماً يبكون عند سماع القرآن:( كذلك كنا ثم قست القلوب ) ، فعبَّر عن تمكنه بالقسوة ، تواضعًا واستتارًا ، وإنما أثنى على هؤلاء السادات بهذه الخصلة لأنها سُلّم لما فوقها . والله تعالى أعلم “. انتهى
وهذا أبو حفص السهروردي – وهو من كبار أئمة الصوفية – ينقل عنه الطيبي في “حاشية الطيبي على الكشاف” (7/12) فقال :” قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس سره: لما رأى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الباكي عند قراءة القرآن ، قال: هكذا كنا حتى قست القلوب. أي: أدمنت سماع القرآن وألفت أنواره ، فما استغربته حتى تتغير “. انتهى
وقد ردَّ الألوسي رحمه الله في “روح المعاني” (27/180) قول السهروردي فقال :” وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه إن هذه الآية قُرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاءا شديدا ، فنظر إليهم ، فقال :” هكذا كنا حتى قست القلوب ” .
ولعله أراد رضي الله تعالى عنه أن الطراز الأول كان كذلك ، حتى قست كثير من الناس ولم يتأسوا بالسابقين .
وغرضه مدح أولئك القوم بما كان هو ونظراؤه عليه رضي الله تعالى عنهم .
ويحتمل أن يكون قد أراد ما هو الظاهر ، والكلام من باب هضم النفس ، كقوله رضي الله تعالى عنه :” أقيلوني فلست بخيركم ” .
وقال شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس الله سره :” معناه تصلبت وأدمنت سماع القرآن ، وألفت أنواره فما تستغربه حتى تتغير كما تغير هؤلاء السامعون ” .انتهى .
وهو خلاف الظاهر ، وفيه نوع انتقاص للقوم ، ورمز إلى أن البكاء عند سماع القرآن لا يكون من كامل ، كما يزعمه بعض جهلة الصوفية القائلين : إن ذلك لا يكون إلا لضعف القلب عن تحمل الواردات الإلهية النورانية ، ويجل عن ذلك كلام الصديق رضي الله تعالى عنه “. انتهى
وقد فسر بعض أهل العلم قول أبي بكر ذلك ، بأن ذلك من “الفترة” التي ترد على السالك ، أثناء الطريق ، لطول المسير .
قال الإمام عبد الغني المقدسي رحمه الله : ” أما فقدان ما نجده من الحلاوة واللذة، فلا يكون دليلًا على عدم القبول؛ فإن المبتدئ يجد مالا يجد المنتهي، فإنه ربما ملت النفس وسئمت؛ لتطاول الزمان، وكثرة العبادة. وقد روي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أنه كان ينهى عن كثرة العبادة والإِفراط فيها، ويأمر بالاقتصاد خوفًا من الملل. وقد روي أن أهل اليمن لما قدموا المدينة جعلوا يبكون، فقال أبو بكر رضي الله عنه: هكذا كنا حتى قست القلوب.” انتهى، من “عمدة الأحكام الكبرى” (41) .
ولذا تكلم ابن القيم عن الشوق لأيام البدايات فقال :” قَالَ الْجُنَيْدُ: وَاشَوْقَاهُ إِلَى أَوْقَاتِ الْبِدَايَةِ .
يَعْنِي: لَذَّةَ أَوْقَاتِ الْبِدَايَةِ ، وَجَمْعِ الْهِمَّةِ عَلَى الطَّلَبِ ، وَالسَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. فَإِنَّهُ كَانَ مَجْمُوعَ الْهِمَّةِ عَلَى السَّيْرِ وَالطَّلَبِ ، فَلَمَّا لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ فَنِيَتْ رُسُومُهُ ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ الْفَنَاءُ عَنْ بَشَرِيَّتِهِ ، وَأَحْكَامِ طَبِيعَتِهِ ، فَتَقَاضَتْ طِبَاعُهُ مَا فِيهَا ، فَلَزِمَتْهُ الْكُلَفُ ، فَارْتَاحَ إِلَى أَوْقَاتِ الْبِدَايَاتِ ، لِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ لَذَّةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْخَلْقِ ، وَاجْتِمَاعِ الْهِمَّةِ .
وَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ عَلَى رَجُلٍ ، وَهُوَ يَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، فَقَالَ: هَكَذَا كُنَّا حَتَّى قَسَتْ قُلُوبُنَا.
وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِنَّ لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّةً ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ . انتهى من “مدارج السالكين” (3/121)
وختاما :
فقد تبين أن ما ورد عن أبي الصديق رضي الله عنه لا يثبت .
وإن ثبت فإنه خرج منه على سبيل التواضع ، والإزراء بالنفس .
ومعناه على ظاهره ، من أن الأصل في القلب اللين الخاشع البكاء عند سماع القرآن ، بخلاف القلب القاسي .
ولا شك أن أبا بكر ليس من هؤلاء أصحاب القلوب القاسية ، وحاشاه من ذلك .
وتأويل القسوة بالقوة والاطمئنان تعسف في تفسير الكلام ، ومخالف للغة العربية ، وللشريعة الربانية .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب