لقد وجدت من فتاوى هذا الموقع أن المعاملات مع شخصٍ يتعامل بالربا جائزة ، بناء على ذلك قمت مؤخراً بتعليم اثنين من الطلاب المسلمين يعمل والدهما مديراً لبنكٍ ربوي ، دفع الأب أجري الشهري ، فاعتقدت أنّ دخلي حلالٌ ؛ لأنّي آخذ المال مقابل التعليم ، على الرغم من أنّ المال الذي حصلتُ عليه كان من طرقٍ محرّمة ، حتى قرأت هذا الحديث:
” كان لأبي بكرٍ غلامٌ يُخرِجُ له الخَراجَ ، وكان أبو بكرٍ يَأكُلُ مِن خَراجِه ، فجاء يومًا بشيءٍ فأكلَ منه أبو بكرٍ ، فقال له الغلامُ : تدري ما هذا ؟ فقال أبو بكرٍ : وما هو ؟ قال : كنتُ تَكَهَّنْتُ لإنسانٍ في الجاهليةِ ، وما أحسنَ الكَهانَةَ ، إلا أني خدَعتُه ، فلَقِيَني فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكَلْتَ منه ، فأدخلَ أبو بكرٍ يدَه ، فقَاءَ كلَّ شيءٍ في بطنِه ” .
(رواه البخاري) ، واستشرت بعض العلماء ، وقالوا لي نفس الشيء، بأنّ دخلي حرام ، لقد تابعت وجهة نظركم حتى الآن.
سؤالي هو :
كيف نوفّق بين أثر أبي بكر وبين الحكم الذي يتبعه الإسلام سؤال وجواب ؟ وهل يجوز لي أن أتبع أيّاً من هذين الرأيين؟
حكم أخذ أجرة عمل مباح من شخص مرابٍ أو يعمل في البنك الربوي
السؤال: 273601
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
يجوز التعامل مع صاحب المال المختلط، أي الذي له مال حلال مختلط بمال حرام، كمن يتعامل الربا، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتعاملون مع المشركين واليهود بيعا وإجارة ورهنا وقرضا، مع أنهم يأكلون الربا ويتعاملون به.
فإذا كان لصاحب المال الحرام مصدر دخل آخر مباح، واختلط ماله الحلال بالحرام، فلا حرج في التعامل معه، إلا أن من الفقهاء من كره ذلك.
قال في كشاف القناع (5/167) : ” ( وتكره إجابة من في ماله حلالٌ وحرام ، كأكله منه ، ومعاملته ، وقبول هديته وهبته ونحوه ) كصدقته ” انتهى .
ثانيا:
أما من كان ماله حراما، لا يختلط بحلال، فينظر فيه من جهة أن المال الحرام نوعان:
الأول: محرم لعينه، كالخمر والخنزير، أو كالمغصوب والمسروق ونحوها ؛ وهذا لا يجوز التعامل مع صاحبه فيه. فلا يجوز قبول هذا المال منه هدية أو ثمنا لمبيع أو أجرة على عمل؛ لأن هذا المال غير مملوك لصاحبه.
والثاني: مال محرم لكسبه، وهو الذي اكتسبه الإنسان بطريق محرم كبيع الخمر، أو التعامل بالربا، أو أجرة الغناء والزنا ونحو ذلك مما يؤخذ بالتراضي دون سرقة أو غضب أو خديعة :
فهذا المال حرام على من اكتسبه فقط .
أما إذا أخذه منه شخص آخر بطريق مباح : فلا حرج في ذلك ، كما لو أخذه منه هدية، أو أجرة على عمل، أو نفقة على زوجة أو ولد، فلا يحرم على هؤلاء الانتفاع به، وإنما يحرم على من اكتسبه بطريق محرم فقط.
قال العلامة محمد عليش المالكي رحمه الله: ” واختلف في المال المكتسب من حرام، كربا ومعاملة فاسدة، إذا مات مكتسبه عنه: فهل يحل للوارث؟ وهو المعتمد، أم لا؟
وأما عين الحرام المعلوم مستحقه، كالمسروق والمغصوب: فلا يحل له “.
انتهى من ” منح الجليل شرح مختصر خليل ” (2/ 416).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في أموال المرابي: ” أما بالنسبة لأولاده فلا حرج عليهم أن يأكلوا منه في حياة أبيهم ويجيبوا دعوته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب دعوة اليهود مع أنهم يأكلون الربا. وأما إذا ورثوه من بعده فهو لهم حلال؛ لأنهم ورثوه بطريقة شرعية، وإن كان هو حراماً عليه، لكن هم كسبوه بطريق شرعي بالإرث، وإن تبرعوا وتصدقوا به عن أبيهم فلعل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الصدقة تمحو ما قبلها من السيئات ” “لقاء الباب المفتوح” (181/ 19).
وقال رحمه الله: ” قال بعض العلماء: ما كان محرما لكسبه، فإنما إثمه على الكاسب لا على من أخذه بطريق مباح من الكاسب، بخلاف ما كان محرما لعينه، كالخمر والمغصوب ونحوهما، وهذا القول وجيه قوي، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشتري من يهودي طعاما لأهله، وأكل من الشاة التي أهدتها له اليهودية بخيبر، وأجاب دعوة اليهودي، ومن المعلوم أن اليهود معظمهم يأخذون الربا ويأكلون السحت، وربما يقوي هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم في اللحم الذي تصدق به على بريرة: (هو لها صدقة ولنا منها هدية) ” انتهى من “القول المفيد على كتاب التوحيد” (3/ 112).
ثالثا :
روى البخاري (3842) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: ” كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلاَمُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ “.
وقد قيل : إنما فعل أبو بكر رضي الله عنه ذلك ، لأن هذا من حلوان الكاهن ، وحلوان الكاهن : منهي عنه بخصوصه ، فيكون هذا من الحرام لعينه .
قال ابن حجر رحمه الله :
” قَالَ اِبْن التِّين : إِنَّمَا اسْتَقَاءَ أَبُو بَكْر تَنَزُّهًا ; لِأَنَّ أَمْر الْجَاهِلِيَّة وُضِعَ وَلَوْ كَانَ فِي الْإِسْلَام لَغَرِمَ مِثْل مَا أَكَلَ أَوْ قِيمَته وَلَمْ يَكْفِهِ الْقَيْء , كَذَا قَالَ , وَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّ أَبَا بَكْر إِنَّمَا قَاءَ لِمَا ثَبَتَ عِنْده مِنْ النَّهْي عَنْ حُلْوَانِ الْكَاهِن , وَحُلْوَانُ الْكَاهِن مَا يَأْخُذهُ عَلَى كِهَانَته ” انتهى، من “فتح الباري” (7/154) .
والأقرب أن أبا بكر رضي الله عنه ، إنما فعل ذلك : لكمال ورعه ، وعظيم توقيه من الشبهات؛ فضلا عن الحرام الظاهر.
قال ابن الجوزي رحمه الله :
” وأبو بكر : أول من قاء من الشبهات ، تحرجا ” . انتهى ، من “كشف المشكل” (1/26) .
وقال أيضا :
” قاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أكل الشبهة ” انتهى، من تلبيس إبليس (ص 228) .
وينظر : “مرقاة المفاتيح” لملا علي القاري(5/1906) .
ولهذا ذكر الإمام النووي الحديث في كتابه المبارك “رياض الصالحين” ، وبوب عليه : ” باب الورع ، وترك الشبهات” .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” وفي هذا الحديث دليلٌ على شدة ورع أبي بكر رضي الله عنه، فهو جدير بهذا؛ لأنه الخليفة الأول على هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان قول أهل السنة والجماعة إن أبا بكر رضي الله عنه أفضل هذه الأمة؛ لأنه الخليفة الأول…
والحاصل : أن أبا بكر رضي الله عنه فيه هذا الورع العظيم ، بعد أن أكل المحرم ذهب يخرجه من جوفه ، لئلا يتغذى به، والله الموفق.” انتهى. من “شرح رياض الصالحين” (3/505) .
والخلاصة :
أنه لا حرج عليك في تقاضي أجرتك من هذا الشخص الذي يتعامل بالربا ؛ لأن ماله محرم لكسبه، لا لعينه.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب