عن طارق ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( دخل الجنة رجل في ذباب ، ودخل النار رجل في ذباب ….) الحديث . وقال سبحانة وتعالى : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) ألم يكن الرجل مرغما على أن يتقرب بالذبابة ؟
الرجل الذي تقرب للصنم بذباب، وكان مكرها، لماذا لم يعذر ، ودخل النار؟
السؤال: 280192
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
هذا الأثر إنما يصح من قول سلمان رضي الله عنه؛ كما رواه الإمام أحمد في "الزهد" (84) قال: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: ( دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ، وَدَخَلَ النَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ.
قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟
قَالَ: مَرَّ رَجُلَانِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ لَا يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا، فَقَالُوا لِأَحَدِهِمَا: قَرِّبْ! قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ، فَقَالُوا لَهُ: قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا! فَقَرَّبَ ذُبَابًا، فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ.
قَالَ: فَدَخَلَ النَّارَ. وَقَالُوا لِلْآخَرِ: قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا! قَالَ: مَا كُنْتُ لِأُقَرِّبَ لِأَحَدٍ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، قَالَ: فَدَخَلَ الْجَنَّةَ ) .
وصححه الألباني موقوفا على سلمان رضي الله عنه، كما في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (12 / 722)؛ حيث قال: " وبالجملة؛ فالحديث صحيح موقوفا على سلمان الفارسي رضي الله عنه " انتهى.
ثانيا:
الأثر يدل على أن من أُكرِه على فعل الكفر يكفر، ولا يعذر بسبب الإكراه؛ وهو حكم يعارض النصوص التي تدل على أن المكره معذور ولا يكفر إذا لم يتعمد ذلك بقلبه؛ ومن ذلك قول الله تعالى:
( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) النحل /106.
والجواب عن هذا الإشكال على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:
أن الظاهر أن سلمان رضي الله عنه إنما نقله عن أهل الكتاب فقد كان على اطلاع على كتبهم وأخبارهم ، حيث تعلم على أيديهم قبل أن يسلم.
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
" إلا أنه يظهر لي أنه من الإسرائيليات التي كان تلقاها عن أسياده حينما كان نصرانيا " انتهى، من "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (12 / 722).
ففي هذه الحالة؛ هذا الأثر لا يعارض الآية؛ لأن من شرط التعارض أن يكون النص صحيحا ثابت الحجة، وأخبار أهل الكتاب، رغم إذن الشرع بالتحديث بها؛ إلا أنها ليست بحجة؛ لأننا نهينا عن تصديقها أو تكذيبها.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ( كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ ، وَقُولُوا: ( آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ) الآيَةَ. ) رواه البخاري (4485).
وعن ابْنُ أَبِي نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ، وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُ ) رواه أبوداود (3644)، وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (6 / 712).
الوجه الثاني:
أن عدم العذر بالإكراه ، على فرض صحة هذا الأثر ، وثبوت ذلك في أمة ممن قبلنا : إنما يكون من "شرع من قبلنا"؛ وهو -بالإجماع- ليس بشرع لهذه الأمة؛ إذا جاء في شرعنا ما يخالفه.
قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" وحاصل تحرير المقام في مسألة "شرع من قبلنا"، أن لها واسطة وطرفين: …
وطرف يكون فيه غير شرع لنا إجماعا، وهو أمران:
أحدهما: ما لم يثبت بشرعنا أصلا أنه كان شرعا لمن قبلنا، كالمتلقى من الإسرائيليات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن تصديقهم، وتكذيبهم فيها، وما نهانا صلى الله عليه وسلم عن تصديقه لا يكون مشروعا لنا إجماعا.
والثاني: ما ثبت في شرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا، وبين لنا في شرعنا أنه غير مشروع لنا، كالآصار، والأغلال التي كانت على من قبلنا؛ لأن الله وضعها عنا، كما قال تعالى: ( ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم )، وقد ثبت في صحيح مسلم: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا )، أن الله قال: نعم قد فعلت )… " انتهى، من "أضواء البيان" (2 / 81 – 82).
فالحاصل؛ أن عدم العذر بالإكراه في هذا الأثر، ليس من شرعنا.
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى، أيضا ، في تفسيره لقوله تعالى:
( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ) الكهف /20 :
" أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن العذر بالإكراه من خصائص هذه الأمة؛ لأن قوله عن أصحاب الكهف: ( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ )، ظاهر في إكراههم على ذلك ، وعدم طواعيتهم، ومع هذا قال عنهم: ( وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا )، فدل ذلك على أن ذلك الإكراه ليس بعذر.
ويشهد لهذا المعنى حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه مع الإكراه بالخوف من القتل؛ لأن صاحبه الذي امتنع أن يقرب ولو ذبابا قتلوه …
أما هذه الأمة فقد صرح الله تعالى بعذرهم بالإكراه في قوله: ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان )، والعلم عند الله تعالى. " انتهى، من "أضواء البيان" (4 / 96 – 97).
الوجه الثالث:
يحتمل أن هذا الرجل لم يكفر بسبب فعله للشرك مكرها؛ وإنما بسبب أنه لم ينكر هذا الشرك بقلبه وتعمد فعله استخفافا واستهانة به، كما تشير إلى ذلك رواية ابن أبي شيبة في "المصنف" (17 / 537 – 538): عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: ( دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ، وَدَخَلَ رَجُلٌ النَّارَ فِي ذُبَابٍ: مَرَّ رَجُلَانِ عَلَى قَوْمٍ قَدْ عَكَفُوا عَلَى صَنَمٍ لَهُمْ، وَقَالُوا: لَا يَمُرُّ عَلَيْنَا الْيَوْمَ أَحَدٌ إِلَّا قَدَّمَ شَيْئًا، فَقَالُوا لِأَحَدِهِمَا: قَدِّمْ شَيْئًا! فَأَبَى، فَقُتِلَ، وَقَالُوا لِلْآخَرِ: قَدِّمْ شَيْئًا! قَالَ: لَيْسَ عِنْدي شَيْء، فَقَالُوا: قَدِّمْ وَلَوْ ذُبَابًا، فَقَالَ: وَأَيْشٍ ذُبَابٌ! فَقَدَّمَ ذُبَابًا فَدَخَلَ النَّارَ.
فَقَالَ سَلْمَانُ: فَهَذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ، وَدَخَلَ هَذَا النَّارَ فِي ذُبَابٍ ) .
وصحح إسناده الشيخ الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (12 / 722).
فقوله: ( فَقَالَ: وَأَيْشٍ ذُبَابٌ! ) : تدل على أنه لم يستعظم هذا الشرك، ولم ينكره بقلبه، بل فعله وهو راض به، ومثل هذا لا شك أنه يكفر.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب