تنزيل
0 / 0

هل حديث (من قتل دون أهله فهو شهيد) يعارض حديث (كن عبد الله المقتول)؟

السؤال: 281689

كيف يكون الجمع بين حديثين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال في الأول فيما معناه: (كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل)، والحديث الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم فيما معناه (من مات دون عرضه فهو شهيد)، وقوله أيضا في قتال الخوارج: ( لأقتلنهم قتل عاد) هل هناك تعارض بين الحديث الأول والحديثين الباقيين؟ وما السبيل للجمع بين الأحاديث؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

لا تعارض بين النصوص ، سواء بين آية وآية ، أو بين آية وحديث ، أو بين حديث وحديث ، إذ إن الكل وحي من الله تعالى .

وأما ما أورده السائل من الأحاديث الثلاثة فلا تعارض بينها البتة ولله الحمد ، حيث إن كل حديث يتنزل على أمر وموضع يختلف عن موضع الحديث الآخر ، وبيان ذلك كما يلي :

أما الحديث الأول :

فقد أخرجه الترمذي في "سننه" (1421)، والنسائي في "سننه" (4094) ، وأحمد في "مسنده" (1652) ، من حديث سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:( مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ).

والحديث صحيح ، صححه ابن الملقن في "البدر المنير" (9/7) ، والشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (708) .

وقد روى البخاري في "صحيحه" (2480) ، ومسلم في "صحيحه" (141) جزءا منه ، وهو ما رواه عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:( مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ).

ونحوه ما أخرجه مسلم في "صحيحه" (140) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ:" يَا رَسُولَ اللهِ ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: (فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ)، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: (قَاتِلْهُ)، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: (فَأَنْتَ شَهِيدٌ)، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: (هُوَ فِي النَّارِ).

والحديث يدل على أنه إذا اعتُدي على نفس المسلم أو ماله أو عرضه ، فإنه يُشرع له أن يقاتل عن نفسه وماله وعرضه ، فإن قُتل فهو شهيد .

والمقاتلة دون المال: جائزة غير واجبة، بخلاف المقاتلة دون العرض فإنها واجبة، ولا تسقط مع القدرة عليها بحال، وأما المقاتلة عن النفس بقتل الصائل ففي وجوبها خلاف.

قال النووي رحمه الله ، في شرحه لحديث 🙁 من قتل دون ماله فهو شهيد ) :

" فِيهِ جَوَازُ قَتْلِ الْقَاصِدِ لِأَخْذِ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا أو كثيرا لعموم الحديث ، وهذا قول الجماهير من الْعُلَمَاءِ .

وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ : لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ إِذَا طَلَبَ شَيْئًا يَسِيرًا ، كَالثَّوْبِ وَالطَّعَامِ ؛ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْجَمَاهِيرُ.

 وَأَمَّا الْمُدَافَعَةُ عَنِ الْحَرِيمِ : فَوَاجِبَةٌ بِلَا خِلَافٍ .

وَفِي الْمُدَافَعَةِ عَنِ النَّفْسِ بِالْقَتْلِ : خِلَافٌ فِي مَذْهَبنَا وَمَذْهَبِ غَيْرِنَا .

وَالْمُدَافَعَةُ عَنِ الْمَالِ جَائِزَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ". انتهى، "شرح صحيح مسلم" (2/165).

وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (28/319) :" وَيَجُوزُ لِلْمَظْلُومِينَ – الَّذِينَ تُرَادُ أَمْوَالُهُمْ – قِتَالُ الْمُحَارِبِينَ، بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا يَجِبُ أَنْ يُبْذَلَ لَهُمْ مِنْ الْمَالِ لَا قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ إذَا أَمْكَنَ قِتَالُهُمْ.

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمِنْ قُتِلَ دُونَ حُرْمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ .

وَهَذَا الَّذِي تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ " الصَّائِلُ" ، وَهُوَ الظَّالِمُ بِلَا تَأْوِيلٍ، وَلَا وِلَايَةٍ، فَإِذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ الْمَالَ جَازَ دَفْعُهُ بِمَا يُمْكِنُ، فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بالْقِتَال قُوتِلَ، وَإِنْ تَرَكَ الْقِتَالَ، وَأَعْطَاهُمْ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ: جَازَ .

وَأَمَّا إذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ الْحُرْمَةَ – مِثْلَ أَنْ يَطْلُبَ الزِّنَا بِمَحَارِمِ الْإِنْسَانِ ، أَوْ يَطْلُبَ مِنْ الْمَرْأَةِ أَوْ الصَّبِيِّ الْمَمْلُوكِ أَوْ غَيْرِهِ الْفُجُورَ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يُمْكِنُ ، وَلَوْ بِالْقِتَالِ، وَلَا يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ بِحَالِ ؛ بِخِلَافِ الْمَالِ ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ جَائِزٌ ، وَبَذْلَ الْفُجُورِ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْحُرْمَةِ غَيْرُ جَائِزٍ"انتهى.

الحديث الثاني :

الحديث أخرجه أحمد في "مسنده" (21064) ، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (283) ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ مَعَ الْخَوَارِجِ ، ثُمَّ فَارَقَهُمْ ، قَالَ: " دَخَلُوا قَرْيَةً ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ خَبَّابٍ ، ذَعِرًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ ، فَقَالُوا: لَمْ تُرَعْ؟ قَالَ: وَاللهِ لَقَدْ رُعْتُمُونِي. قَالُوا: أَنْتَ عَبْدُ اللهِ بْنُ خَبَّابٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ ، حَدِيثًا يُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُحَدِّثُنَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ ، سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( أَنَّهُ ذَكَرَ فِتْنَةً الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي ، قَالَ: " فَإِنْ أَدْرَكْتَ ذَاكَ ، فَكُنْ عَبْدَ اللهِ الْمَقْتُولَ ، قَالَ أَيُّوبُ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ : وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللهِ الْقَاتِلَ ". قَالُوا: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ أَبِيكَ يُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَقَدَّمُوهُ عَلَى ضَفَّةِ النَّهَرِ ، فَضَرَبُوا عُنُقَهُ".

والحديث صحيح بشواهده ، وقد صحح إسناده ابن حجر في "فتح الباري" (12/279) ، وقال الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (8/103) :" ورجاله ثقات غير الرجل الذى لم يسم ".

وقد روي نحوه عند أبي يعلى في "مسنده" (1523) ، من طريق جُنْدُب بْن سُفْيَانَ ، قَالَ: إِنِّي لَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حِينَ جَاءَهُ بَشِيرٌ مِنْ سَرِيَّةٍ بَعَثَهَا ، فَأَخْبَرَهُ بِنَصْرِ اللَّهِ الَّذِي نَصَرَ سَرِيَّتَهُ ، وَبِفَتْحِ اللَّهِ الَّذِي فَتَحَ لَهُمْ ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ ، وَزَادَ فِيهِ :

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عِنْدَ ذَلِكَ :

( سَتَكُونُ بَعْدِي فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ تصْدِمُ كَصَدْمِ الْحَيَّاتِ ، وَفُحُولِ الثِّيرَانِ ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُسْلِمًا ، وَيُمْسِي كَافِرًا ، وَيُمْسِي فِيهَا مُسْلِمًا ، وَيُصْبِحُ كَافِرًا) . فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَكَيْفَ نَصْنَعُ عِنْدَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (ادْخُلُوا بُيُوتَكُمْ وَأَخْمِلُوا ذِكْرَكُمْ ) .

فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ دُخِلَ عَلَى أَحَدِنَا فِي بَيْتِهِ ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لِيُمْسِكْ بِيَدِهِ ، وَلْيَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ ، وَلَا يَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ فِي قُبَّةِ الْإِسْلَامِ، فَيَأْكُلُ مَالَ أَخِيهِ ، وَيَسْفِكُ دَمَهُ ، وَيْعِصي رَبَّهُ ، وَيَكْفُرُ بِخَالِقِهِ ، وَتَجِبُ لَهُ جَهَنَّمُ).

وفي إسناده شهر بن حوشب ، وفي حفظه مقال ، إلا أنه يتقوى بما قبله كما قال الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (8/104) :" وهذا إسناد جيد بالذي قبله، فإن شهرا إنما نخشى منه سوء الحفظ، ومتابعة ذلك الرجل القيسي إياه دليل على أنه قد حفظ " انتهى.

وجاء في معنى ذلك عدة أحاديث :

منها : ما أخرجه أحمد في "مسنده" (19730) ، وأبو داود في "سننه" (4259) ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا ، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا. الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي. فَاكْسِرُوا قِسِيَّكُمْ ، وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ ، وَاضْرِبُوا بِسُيُوفِكُمُ الْحِجَارَةَ ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَى أَحَدِكُمْ بَيْتَهُ ، فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ ).

والحديث صححه الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (8/144)

ومنها : ما أخرجه أبو داود في "سننه" (4261) ، وأحمد في "مسنده" (21325) ، وابن حبان في "صحيحه" (5960) ، من حديث عن أبي ذرٍّ ، قال: قال لي رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلم-:( يا أبا ذرِّ) ، قلتُ: لبيكَ يا رسولَ الله وسَعْديك ، فذكرَ الحديثَ ، قال فيه: (كيفَ أنتَ إذا أصابَ الناسَ مَوتٌ يكونُ البيتُ فيه بالوصِيفِ؟)  يعني القبرَ، قلت: اللهُ ورسولُه أعلمُ -أو قال: ما خَارَ اللهُ لي ورسولُه- قال: (عليكَ بالصَّبرِ) ، أو قال: (تَصبِرُ)، ثم قال لي: (يا أبا ذرِّ ، قلت: لبيكَ وسعديكَ)، قال: (كيفَ أنت إذا رأيتَ أحجارَ الزيتِ قد غَرِقَتْ بالدَّمِ؟) قلتُ: ما خارَ اللهُ لي ورسولُه ، قال: (عليك بمَنْ أنتَ منه).

قلتُ: يا رسولَ الله أفلا آخُذُ سيفي، فأضعَه على عاتقي؟ قال: (شاركتَ القومَ إذَنْ).

قلتُ: فما تأمرُني؟ قال: (تلزمُ بيتَكَ).

قلت: فإن دُخِلَ عليَّ بيتي؟ قال: (فإن خَشِيتَ أن يبهَرَك شُعَاعُ السَّيفِ ، فألقِ ثوبَكَ على وجهِكَ، يبوءُ بإثمكَ وإثمهِ).

وهذا الحديث ، وما في معناه : إنما موضعه عند وقوع الفتن العامة في الناس ؛ مثل أن يكون القتال على الدنيا والملك ، أو عندما يُشكل على المسلم أمر الناس ، وما وقع بينهم ، وما اختلفوا فيه ، واقتتلوا عليه ، فلا يعلم أين الحق من الباطل ، ثم يجيء من يقاتله في تلك الفتنة ، أو يحاربه فيها بتأويل له فيها ؛ فهنا يجوز للإنسان أن يستسلم ولا يدفع عن نفسه ، استدلالا بهذا الحديث .

قال ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" (ص233) :" قَالُوا: رَوَيْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ".

ثُمَّ رُوِّيتُمْ "كُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ ، فَادْخُلْ مَخْدَعَكَ ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ ، فَقُلْ: بُؤْ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ، وَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَرَبَ لَكُمْ – يَا بَنِي آدَمَ – مَثَلًا  ، فَخُذُوا خَيْرَهُمَا ، وَدَعُوا شَرَّهُمَا ".

قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.

قَالَ ابن قتيبة :

وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ لِكُلِّ حَدِيثٍ مَوْضِعًا ، غَيْرَ مَوْضِعِ الْآخَرِ ، فَإِذَا وُضِعَا بِمَوْضِعَيْهِمَا ، زَالَ الِاخْتِلَافُ.

لِأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ " : مَنْ قَاتَلَ اللُّصُوصَ عَنْ مَالِهِ ، حَتَّى يُقْتَلَ فِي مَنْزِلِهِ ، وَفِي أَسْفَاره . وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ:" إِذَا رَأَيْتَ سَوَادًا فِي مَنْزِلِكَ ، فَلَا تَكُنْ أَجْبَنَ السَّوَادَيْنِ ".

يُرِيدُ: تَقَدَّمْ عَلَيْهِ بِالسِّلَاحِ ، فَهَذَا مَوْضِعُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.

وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ:" كُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ ، فَادْخُلْ مَخْدَعَكَ ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ ، فَقُلْ: بُؤْ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ، وَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ " .

أَيِ: افْعَلْ هَذَا فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ ، وَاخْتِلَافِ النَّاسِ عَلَى التَّأْوِيلِ ، وَتَنَازُعِ سُلْطَانَيْنِ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْأَمْرَ، وَيَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ بِحُجَّةٍ . يَقُولُ: فَكُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ ، وَلَا تَسُلَّ سَيْفًا ، وَلَا تَقْتُلْ أَحَدًا ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَنِ الْمُحِقُّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ، وَمَنِ الْمُبْطِلُ ، وَاجْعَلْ دَمَكَ دُونَ دِينِكَ.

وَفِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ قَالَ:" الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ" انتهى.

وقد أخرج مسلم في "صحيحه" (2887) ، حديثا في هذا المعنى من طريق عثمان الشحام ، قَالَ: " انْطَلَقْتُ أَنَا وَفَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ ، إِلَى مُسْلِمِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَهُوَ فِي أَرْضِهِ ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَقُلْنَا: هَلْ سَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِّثُ فِي الْفِتَنِ حَدِيثًا؟ قَالَ: نَعَمْ ، سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يُحَدِّثُ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ: أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي فِيهَا ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي إِلَيْهَا. أَلَا ، فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ ، فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ) .

قَالَ : فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ : أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟ قَالَ: (يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ ، ثُمَّ لِيَنْجُ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ ، اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟)

قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ : أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ ، أَوْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ ، فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ ، أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي؟ قَالَ: (يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ ، وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ).

قال النووي في "شرح مسلم" (18/10) في شرحه لهذا الحديث :

" وَهَذَا الْحَدِيثُ ، وَالْأَحَادِيثُ قَبْلَهُ وبعده : مما يحتج به من لا يرى الْقِتَالَ فِي الْفِتْنَةِ بِكُلِّ حَالٍ، وَقَدْ اخْتَلَفَ العلماء في قتال الفتنة:

فقالت طائفة : لا يقاتل فِي فِتَنِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْهِ بَيْتَهُ وَطَلَبُوا قَتْلَهُ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْمُدَافَعَةُ عَنْ نَفْسِهِ ، لِأَنَّ الطَّالِبَ مُتَأَوِّلٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي بَكْرَةَ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ .

وَقَالَ ابن عُمَرَ وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وغيرهما : لا يدخل فِيهَا ، لَكِنْ إِنْ قُصِدَ، دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ .

فَهَذَانِ الْمَذْهَبَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى تَرْكِ الدُّخُولِ فِي جَمِيعِ فِتَنِ الْإِسْلَامِ .

وَقَالَ مُعْظَمُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَعَامَّةِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ : يَجِبُ نَصْرُ الْمُحِقِّ فِي الْفِتَنِ ، وَالْقِيَامُ مَعَهُ بِمُقَاتَلَةِ الْبَاغِينَ ، كَمَا قَالَ تعالى: ( فقاتلوا التي تبغى الْآيَةَ ) .

وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، وَتُتَأَوَّلُ الْأَحَادِيثُ : عَلَى مَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ المُحِقُّ ، أَوْ عَلَى طائفتين ظالمتين لا تأويل لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا .

وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، لَظَهَرَ الْفَسَادُ وَاسْتَطَالَ أَهْلُ الْبَغْيِ وَالْمُبْطِلُونَ ". انتهى

وقال الخطابي في "معالم السنن" (4/336) :" وإذا سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا شهيداً ، فقد دل ذلك على أن من دافع عن ماله أو عن أهله أو دينه ، إذا أريد على شيء منها ، فأتي القتلُ عليه : كان مأجوراً فيه ، نائلاً به منازل الشهداء.

وقد كره ذلك قوم زعموا أن الواجب عليه أن يستسلم ولا يقاتل عن نفسه ، وذهبوا في ذلك إلى أحاديث رويت في ترك القتال في الفتن ، وفي الخروج على الأئمة ؟

وليس هذا من ذلك في شيء ، إنما جاء هذا في قتال اللصوص وقطاع الطريق ، وأهل البغي والساعين في الأرض بالفساد ، ومن دخل في معناهم من أهل العَيْث والإفساد ". انتهى

وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (28/319) :" وَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ قَتْلَ الْإِنْسَانِ : جَازَ لَهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ.

وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ؟

عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ.

وَهَذَا إذَا كَانَ لِلنَّاسِ سُلْطَانٌ ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ – وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ – فِتْنَةٌ ، مِثْلَ أَنْ يَخْتَلِفَ سُلْطَانَانِ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَيَقْتَتِلَانِ عَلَى الْمُلْكِ ؛ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ إذَا دَخَلَ أَحَدُهُمَا بَلَدَ الْآخَرِ ، وَجَرَى السَّيْفُ ، أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْفِتْنَةِ ، أَوْ يَسْتَسْلِمُ فَلَا يُقَاتِلُ فِيهَا؟

عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ". انتهى

وقال ابن القيم في "عدة الصابرين" (ص32) :

" ومن الصبر المحظور : صبر الإنسان على ما يَقصد هلاكَه ، من سبع أو حيات أو حريق أو ماء ، أو كافر يريد قتله .

بخلاف استسلامه وصبره في الفتنة وقتال المسلمين ؛ فإنه مباح له ، بل يستحب ، كما دلت عليه النصوص الكثيرة ، وقد سئل النبي عن هذه المسألة بعينها فقال: كن كخير ابني آدم . وفي لفظ : كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل . وفي لفظ : دعه يبوء بإثمه وإثمك . وفي لفظ آخر : فإن بهرك شعاع السيف فضع يدك على وجهك ". انتهى

وقال ابن حجر في "فتح الباري" (13/31) :" وَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ : مَا يَنْشَأُ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي طَلَبِ الْمُلْكِ ، حَيْثُ لَا يُعْلَمُ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ … " وينظر بطوله ، وما نقله عن الطبري في حكاية الخلاف في ذلك .

وقال البهوتي في "كشاف القناع" (6/155):

" ( وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ ) لِلصَّائِلِ (عَنْ نِسَائِهِ : فَهُوَ لَازِمٌ)، أَيْ وَاجِبٌ ، لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّهِ ، وَحَقٍّ اللَّهِ ، وَهُوَ مَنْعُهُ مِنْ الْفَاحِشَةِ .

( وَإِنْ كَانَ ) الدَّفْعُ (عَنْ نَفْسِهِ، فِي غَيْرِ فِتْنَةٍ: فَكَذَلِكَ)؛ أَيْ : فَالدَّفْعُ لَازِمٌ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ البقرة/195.

وَكَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ : يَحْرُمُ عَلَيْهِ إبَاحَةُ قَتْلِهَا .

وَلِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى إحْيَاءِ نَفْسِهِ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُ مَا يَتَّقِي بِهِ ؛ كَالْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ .

فَإِنْ كَانَ فِي فِتْنَةٍ : لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّفْعُ ، لِقَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي الْفِتْنَةِ: ( اجْلِسْ فِي بَيْتِكَ، فَإِنْ خِفْتَ أَنْ يَبهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ : فَغَطِّ وَجْهَكَ ) ، وَفِي لَفْظٍ : ( فَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ) ". انتهى.

الحديث الثالث:

أخرجه البخاري في "صحيحه" (3344) ، ومسلم في "صحيحه" (1064) ، من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: " بَعَثَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذُهَيْبَةٍ ، فَقَسَمَهَا بَيْنَ الأَرْبَعَةِ ، الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الحَنْظَلِيِّ ثُمَّ المُجَاشِعِيِّ ، وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الفَزَارِيِّ ، وَزَيْدٍ الطَّائِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلاَثَةَ العَامِرِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي كِلاَبٍ .

فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالأَنْصَارُ، قَالُوا: يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ ، وَيَدَعُنَا ؟

قَالَ:" إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ ".

فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ العَيْنَيْنِ ، مُشْرِفُ الوَجْنَتَيْنِ ، نَاتِئُ الجَبِينِ ، كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ !!

فَقَالَ: (مَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُ؟ أَيَأْمَنُنِي اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ ، فَلاَ تَأْمَنُونِي ؟!)

فَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَتْلَهُ ، – أَحْسِبُهُ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ – فَمَنَعَهُ .

فَلَمَّا وَلَّى ، قَالَ: (إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا ، أَوْ: فِي عَقِبِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ).

وهذا الحديث وارد في قتال الخوارج ممن يكفرون المسلمين بالكبائر، ويستحلون دماءهم .

وهؤلاء لهم حالتان :

الأولى :

أن يخرجوا على المسلمين بالسيف ، ويسفكوا الدم الحرام ، فيجب قتالهم حينئذ بالإجماع .

قال ابن القطان في "الإقناع في مسائل الإجماع" (226): " وأجمعوا على أن قتال الخارجين حلال ، إذا سفكوا الدماء وأباحوا الحرام" انتهى.

الثانية :

أن يعتقدوا اعتقاد الخوارج ، دون أن يخرجوا على المسلمين بالسلاح ، فهنا : هل يُقاتَلون لمجرد اعتقادهم وبدعتهم أم لا ؟ محل خلاف بين أهل العلم ، والراجح أنهم لا يُقاتَلون إلا إذا سفكوا الدم الحرام .

قال القرطبي في "المفهم" (3/111) :" وقد توقف في تكفيرهم كثير من العلماء، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" فيتمارى في الفُوق " ، وهذا يقضي بأنه يُشَك في أمرهم، فيُتوقف فيهم ، وكأن القول الأول أظهر في الحديث .

فعلى القول بتكفيرهم: يُقاتَلون ويُقتلون ، وتُسبى أموالُهم ، وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج .

وعلى قول من لا يكفرهم : لا يُجْهز على جريحهم، ولا يتبع منهزمهم ، ولا يُقتل أسراهم ، ولا تستباح أموالهم .

وكل هذا إذا خالفوا المسلمين ، وشقّوا عصاهم ، ونصبوا راية الحرب .

فأما من استتر ببدعته منهم ، ولم ينصب راية الحرب ، ولم يخرج عن الجماعة : فهل يُقتل بعد الاستتابة ، أو لا يقتل ، وإنما يجتهد في ردّ بدعته ، وردّه عنها ؟

اختُلف في ذلك .

وسبب الخلاف في تكفير من هذه حاله : أن باب التكفير باب خطير ، أقدم عليه كثير من الناس ، فسقطوا ، وتوقف فيه الفحول ، فسلموا ، ولا نعدل بالسلامة شيئًا " . انتهى.

ومما يقوي القول بأنهم لا يقتلون إلا إذا سفكوا الدم الحرام : أنهم لما كفّروا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من الصحابة : لم يقاتلهم علي رضي الله عنه ابتداءً ، بل قال لهم :" بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ : أَنْ لَا تَسْفِكُوا دَمًا حَرَامًا ، أَوْ تَقْطَعُوا سَبِيلًا ، أَوْ تَظْلِمُوا ذِمَّةً !!

فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ، فَقَدْ نَبَذْنَا إِلَيْكُمِ الْحَرْبَ عَلَى سَوَاءٍ ، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ".

رواه أحمد في "مسنده" (656) من حديث عبد الله بن شداد وصححه ابن كثير في "البداية والنهاية" (10/568)، والشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (2459) .

قال الصنعاني في "سبل السلام" (2/374) مستدلا بهذا الأثر :" فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْخِلَافِ عَلَى الْإِمَامِ لَا يُوجِبُ قِتَالَ مَنْ خَالَفَهُ ". انتهى.

فتبين مما سبق أنه لا تعارض بين الأحاديث الثلاثة ، وأن لكل حديث منها موضعًا يعمل به فيه.

والله أعلم.

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعتم بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android