لماذا لم يهتم المحدثون من السلف والخلف في تحقيق الآثار الواردة عن الصحابة ، مثل : حكمة ، أو قصة ، أو دعاء ، أو موعظة فيما لا يتعلق بالأحكام الشرعية ؟ ألا يجب معرفة صحة كل أثر وارد عن الصحابة وإن كان لا يتعلق بالأحكام ؟ وإن كان يوجد كتاب في ذلك فأفيدوني .
حول الآثار المنقولة عن الصحابة في غير الأحكام ، وهل يلزم البحث عن صحتها ، ولماذا لم يهتم المحدثون بذلك ؟
السؤال: 282886
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
الآثار الواردة عن الصحابة رضوان الله عليهم جاءت في شتى فروع الشريعة .
ولا شك أن قول الصحابي له من القوة في الاستدلال ما جعل كثيرا من أهل العلم يحتجون بقول الصحابي ، خاصة إذا لم يكن في الباب غيره .
ولذا شدد أهل العلم في التثبت مما نقل عن الصحابة في باب العقائد والأحكام .
أما ما نقل عنهم في الزهد والرقائق والآداب والمواعظ ونحوها ، فإنهم تسامحوا في شروط قبول هذه الروايات عنهم ، ما دام الأثر محصورا في تلك الأبواب ، التي يطلب فيها الحكم ، والأقوال السائرة ، وتذكر للعبرة ، والتأدب ، والتهذيب ، ونحو ذلك ، مما لا يحتاج النظر والاعتبار فيه إلى إسناد أصلا ؛ فضلا عن أن يبحث في صحة الإسناد أو ضعفه .
قال الخطيب البغدادي في “الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع” (2/213) :” وَأَمَّا أَخْبَارُ الصَّالِحِينَ وَحِكَايَاتُ الزُّهَّادِ وَالْمُتَعَبْدِينَ وَمَوَاعِظُ الْبُلَغَاءِ وَحِكَمُ الْأُدَبَاءِ فَالْأَسَانِيدُ زِينَةٌ لَهَا وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي تَأْدِيَتِهَا “انتهى .
ثانيا :
إذا كانت الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، في أبواب الزهد والرقائق والأخلاق والآداب : قد سهل العلماء في وراياتها ، وقبول أسانيدها ، ما لم يسهلوا في أبواب العقائد والأحكام .
هذا ، مع ما في باب التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر والتشديد ؛ فكيف بما ينقل عن السلف وأهل العلم من السابقين ؟ لا شك أن الأمر فيه أسهل ، والرخصة فيه أوسع .
قال الخطيب البغدادي في “الكفاية” (ص133) :” قد ورد عن غير واحد من السلف أنه لا يجوز حمل الأحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم ؛ إلا عمن كان بريئا من التهمة بعيدا من الظنة .
وأما أحاديث الترغيب والمواعظ ونحو ذلك فإنه يجوز كتبها عن سائر المشايخ ” انتهى .
وروى ابن أبي حاتم في “الجرح والتعديل” (1/41) عن سفيان بن عينة أنه قال :” لا تسمعوا من (بقية) ما كان في سنة ، وأسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره ” انتهى .
وروى الحاكم في “المستدرك” (1/666) بسنده عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ ، أنه قال: ” إِذَا رَوِينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَلَالِ ، وَالْحَرَامِ ، وَالْأَحْكَامِ ، شَدَّدْنَا فِي الْأَسَانِيدِ ، وَانْتَقَدْنَا الرِّجَالَ .
وَإِذَا رَوِينَا فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَالثَّوَابِ ، وَالْعِقَابِ ، وَالْمُبَاحَاتِ ، وَالدَّعَوَاتِ تَسَاهَلْنَا فِي الْأَسَانِيدِ ” انتهى .
وقال ابن أبي حاتم في “الجرح والتعديل” (2/30) :” باب في الآداب والمواعظ : أنها تحتمل الرواية عن الضعاف “.
ثم روى بسنده عن أبيه عن عبدة بن سليمان ، قال : “قيل لابن المبارك وروى عن رجل حديثاً ، فقيل هذا رجل ضعيف؟
فقال يحتمل أن يروى عنه هذا القدر أو مثل هذه الأشياء.
قلت لعبدة: مثل أي شيء كان؟ قال: في أدب ، موعظة ، في زهد” انتهى .
وهذا الإمام أحمد بن حنبل يفرق كذلك بين رواة أحاديث الأحكام وأحاديث المغازي والفضائل .
جاء في “طبقات الحنابلة” لأبي يعلى (1/425) ، أن الإمام أحمد قال :” إذا روينا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِي الحلال والحرام شددنا فِي الأسانيد ، وإذا روينا عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي فضائل الأعمال ومالا يضع حكما ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد ” انتهى .
وقال ابن الملقن في “التوضيح” (2/67) :” لا يجوز العمل في الأحكام ولا يثبت إلا بالحديث الصحيح أو الحسن، ولا يجوز بالضعيف لكن يُعمل به فيما لا يتعلق بالعقائد والأحكام ، كفضائل الأعمال والمواعظ وشبههما “انتهى .
إلا أن هذا كما قدمنا لم يكن على إطلاقه ، بل اشترطوا في ذلك ألا يكون في الإسناد كذاب أو متهم بالكذب .
قال ابن رجب في “شرح علل الترمذي” (ص126):” وأما ما ذكره الترمذي أن الحديث إذا انفرد به من هو متهم بالكذب ، أو من هو ضعيف في الحديث ، لغفلته وكثرة خطئه ، ولم يعرف ذلك الحديث إلا من حديثه : فإنه لا يحتج به .
فمراده : أنه لا يحتج به في الأحكام الشرعية ، والأمور العلمية ، وإن كان قد يروي حديث بعض هؤلاء في الرقائق والترغيب والترهيب ، فقد رخص كثير من الأئمة في رواية الأحاديث الرقاق ونحوها عن الضعفاء . منهم ابن مهدي وأحمد بن حنبل …
وإنما يروي في الترغيب والترهيب والزهد والآداب أحاديث أهل الغفلة الذين لا يتهمون بالكذب ، فأما أهل التهمة فيطرح حديثهم ، كذا قال ابن أبي حاتم وغيره ” انتهى .
وقال النووي في “شرح مسلم” (1/125) في معرض حديثه عن أسباب رواية العلماء حديث الراوي الضعيف ، قال :” قَدْ يَرْوُونَ عَنْهُمْ أَحَادِيثَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَالْقَصَصِ وَأَحَادِيثَ الزُّهْدِ وَمَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ .
وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْحَدِيثِ : يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمُ التَّسَاهُلُ فِيهِ ، وَرِوَايَةُ مَا سِوَى الْمَوْضُوعِ مِنْهُ وَالْعَمَلُ بِهِ ، لِأَنَّ أُصُولَ ذَلِكَ صَحِيحَةٌ مُقَرَّرَةٌ فِي الشَّرْعِ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِهِ “انتهى .
وإذا ثبت هذا في التعامل مع الأحاديث المرفوعة المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي رواتها ضعف ، فما يُروى عن الصحابة والتابعين في الترغيب والترهيب ، والزهد والرقائق ، والحكم والمواعظ ، وأخبار الصالحين والعباد = أمره أسهل ، وبابه أوسع ، كما سبق بيانه ، وما زال ذلك دأب أهل العلم ، وطريقتهم في التصنيف ، كما يعلم ذلك من طرائقهم في الرواية ، ومن مصنفاتهم في الزهد والرقائق والآداب والمواعظ .
ثالثا :
أما عن الكتب المصنفة التي اهتم مؤلفوها بنقل أقوال الصحابة ، فهي كثيرة بفضل الله ، إلا أن مؤلفيها لم يلتزموا رواية الصحيح فقط ، وذلك لقاعدتين :
الأولى : أن من أسند فقد أحال .
أي من روى لك الحديث أو الأثر بالسند فقد برئت عهدته ، وقد نص على هذه القاعدة ابن عبد البر في “التمهيد” (1/3).
وقال الحافظ ابن حجر في “لسان الميزان” (4/125) :” أكثر المحدثين في الأعصار الماضية من سنة مائتين وهلم جرا إذا ساقوا الحديث بإسناده اعتقدوا انهم برئوا من عهدته ” انتهى .
الثانية : ما قدمناه من أنه يتساهل ويتسامح في أبواب الترغيب والترهيب ، والمغازي ، والحكايات والقصص
وقد اهتم بعض أهل العلم بنقل ما جاء عنهم في أبواب الاعتقاد ، ومن هؤلاء :
اللالكائي في “شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة” ، وابن بطة في “الإبانة الكبرى” ، والآجري في “الشريعة” ، والهروي في “ذم الكلام وأهله” .
واهتم بعضهم بنقل أقوالهم في الأحكام ، ومن هذه الكتب :
مصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني ، ومصنف ابن أبي شيبة ، وسنن الدارمي ، وسنن سعيد بن منصور ، و”شرح معاني الآثار” للطحاوي ، و”تهذيب الآثار” للطبري ، و”المحلى” لابن حزم ، و”السنن الكبرى” للبيهقي
واهتم بعضهم بنقل أقوالهم في باب الزهد والرقائق ، والترغيب والترهيب ، ونحو ذلك ، ومن هذه الكتب :
الكتب المعنونة بالزهد ، مثل “الزهد” للإمام أحمد ، و”الزهد” لوكيع ، و”الزهد” لعبد الله بن المبارك” ، و”الزهد” لهناد ، و”حلية الأولياء” لأبي نعيم ، و”المجالسة وجواهر العلم” للدينوري ، و”صفة الصفوة” لابن الجوزي .
هذا وقد قام بعض أهل العلم المعاصرين بجمع ما صح من آثار الصحابة ، ومن هؤلاء :
الشيخ : زكريا بن غلام قادر الباكستاني ، حيث صنف مؤلفا فيما صح من آثار الصحابة في الفقه ، إلا أنه لم يستوعب ، وهو كتاب “ما صح من آثار الصحابة في الفقه” .
الشيخ : أبو عبد الله الداني بن منير آل زهوي ، حيث صنف كتاب :” سلسلة الآثار الصحيحة أو الصحيح المسند من أقوال الصحابة والتابعين”.
والمنهج الذي يجب اتباعه في التعامل مع آثار الصحابة في باب الزهد والرقائق ونحوها ، أن ينحى منها ما في رواته كذاب أو متهم بالكذب ، وما كان ضعيفا إلا أن معناه لا يعارض ما ثبت بالأدلة الصحيحة ، وكان من باب الترغيب والترهيب ، والثواب والعقاب ، وأخبار الصالحين ، فلا بأس به حينئذ ، وعلى ذلك صنيع العلماء كما تقدم .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب