0 / 0

حول الآثار المنقولة عن الصحابة في غير الأحكام ، وهل يلزم البحث عن صحتها ، ولماذا لم يهتم المحدثون بذلك ؟

السؤال: 282886

لماذا لم يهتم المحدثون من السلف والخلف في تحقيق الآثار الواردة عن الصحابة ، مثل : حكمة ، أو قصة ، أو دعاء ، أو موعظة فيما لا يتعلق بالأحكام الشرعية ؟ ألا يجب معرفة صحة كل أثر وارد عن الصحابة وإن كان لا يتعلق بالأحكام ؟ وإن كان يوجد كتاب في ذلك فأفيدوني .

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :

الآثار الواردة عن الصحابة رضوان الله عليهم جاءت في شتى فروع الشريعة .

ولا شك أن قول الصحابي له من القوة في الاستدلال ما جعل كثيرا من أهل العلم يحتجون بقول الصحابي ، خاصة إذا لم يكن في الباب غيره .

ولذا شدد أهل العلم في التثبت مما نقل عن الصحابة في باب العقائد والأحكام .

أما ما نقل عنهم في الزهد والرقائق والآداب والمواعظ ونحوها ، فإنهم تسامحوا في شروط قبول هذه الروايات عنهم ، ما دام الأثر محصورا في تلك الأبواب ، التي يطلب فيها الحكم ، والأقوال السائرة ، وتذكر للعبرة ، والتأدب ، والتهذيب ، ونحو ذلك ، مما لا يحتاج النظر والاعتبار فيه إلى إسناد أصلا ؛ فضلا عن أن يبحث في صحة الإسناد أو ضعفه .

قال الخطيب البغدادي في “الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع” (2/213) :” وَأَمَّا أَخْبَارُ الصَّالِحِينَ وَحِكَايَاتُ الزُّهَّادِ وَالْمُتَعَبْدِينَ وَمَوَاعِظُ الْبُلَغَاءِ وَحِكَمُ الْأُدَبَاءِ فَالْأَسَانِيدُ زِينَةٌ لَهَا وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي تَأْدِيَتِهَا “انتهى .

ثانيا :

إذا كانت الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، في أبواب الزهد والرقائق والأخلاق والآداب : قد سهل العلماء في وراياتها ، وقبول أسانيدها ، ما لم يسهلوا في أبواب العقائد والأحكام .

هذا ، مع ما في باب التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر والتشديد ؛ فكيف بما ينقل عن السلف وأهل العلم من السابقين ؟ لا شك أن الأمر فيه أسهل ، والرخصة فيه أوسع .

قال الخطيب البغدادي في “الكفاية” (ص133) :” قد ورد عن غير واحد من السلف أنه لا يجوز حمل الأحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم ؛ إلا عمن كان بريئا من التهمة بعيدا من الظنة .

وأما أحاديث الترغيب والمواعظ ونحو ذلك فإنه يجوز كتبها عن سائر المشايخ ” انتهى .

وروى ابن أبي حاتم في “الجرح والتعديل” (1/41) عن سفيان بن عينة أنه قال :” لا تسمعوا من (بقية) ما كان في سنة ، وأسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره ” انتهى .

وروى الحاكم في “المستدرك” (1/666) بسنده عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ ، أنه قال: ” إِذَا رَوِينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَلَالِ ، وَالْحَرَامِ ، وَالْأَحْكَامِ ، شَدَّدْنَا فِي الْأَسَانِيدِ ، وَانْتَقَدْنَا الرِّجَالَ .

وَإِذَا رَوِينَا فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَالثَّوَابِ ، وَالْعِقَابِ ، وَالْمُبَاحَاتِ ، وَالدَّعَوَاتِ تَسَاهَلْنَا فِي الْأَسَانِيدِ ” انتهى .

وقال ابن أبي حاتم في “الجرح والتعديل” (2/30) :” باب في الآداب والمواعظ : أنها تحتمل الرواية عن الضعاف “.

ثم روى بسنده عن أبيه عن عبدة بن سليمان ، قال : “قيل لابن المبارك وروى عن رجل حديثاً ، فقيل هذا رجل ضعيف؟

فقال يحتمل أن يروى عنه هذا القدر أو مثل هذه الأشياء.

قلت لعبدة: مثل أي شيء كان؟ قال: في أدب ، موعظة ، في زهد” انتهى .

وهذا الإمام أحمد بن حنبل يفرق كذلك بين رواة أحاديث الأحكام وأحاديث المغازي والفضائل .

جاء في “طبقات الحنابلة” لأبي يعلى (1/425) ، أن الإمام أحمد قال :” إذا روينا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِي الحلال والحرام شددنا فِي الأسانيد ، وإذا روينا عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي فضائل الأعمال ومالا يضع حكما ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد ”  انتهى .

وقال ابن الملقن في “التوضيح” (2/67) :” لا يجوز العمل في الأحكام ولا يثبت إلا بالحديث الصحيح أو الحسن، ولا يجوز بالضعيف لكن يُعمل به فيما لا يتعلق بالعقائد والأحكام ، كفضائل الأعمال والمواعظ وشبههما “انتهى .

إلا أن هذا كما قدمنا لم يكن على إطلاقه ، بل اشترطوا في ذلك ألا يكون في الإسناد كذاب أو متهم بالكذب .

قال ابن رجب في “شرح علل الترمذي” (ص126):” وأما ما ذكره الترمذي أن الحديث إذا انفرد به من هو متهم بالكذب ، أو من هو ضعيف في الحديث ، لغفلته وكثرة خطئه ، ولم يعرف ذلك الحديث إلا من حديثه : فإنه لا يحتج به .

فمراده : أنه لا يحتج به في الأحكام الشرعية ، والأمور العلمية ، وإن كان قد يروي حديث بعض هؤلاء في الرقائق والترغيب والترهيب ، فقد رخص كثير من الأئمة في رواية الأحاديث الرقاق ونحوها عن الضعفاء . منهم ابن مهدي وأحمد بن حنبل …

وإنما يروي في الترغيب والترهيب والزهد والآداب أحاديث أهل الغفلة الذين لا يتهمون بالكذب ، فأما أهل التهمة فيطرح حديثهم ، كذا قال ابن أبي حاتم وغيره ” انتهى .

وقال النووي في “شرح مسلم” (1/125) في معرض حديثه عن أسباب رواية العلماء حديث الراوي الضعيف ، قال :” قَدْ يَرْوُونَ عَنْهُمْ أَحَادِيثَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَالْقَصَصِ وَأَحَادِيثَ الزُّهْدِ وَمَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ .

وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْحَدِيثِ : يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمُ التَّسَاهُلُ فِيهِ ، وَرِوَايَةُ مَا سِوَى الْمَوْضُوعِ مِنْهُ وَالْعَمَلُ بِهِ ، لِأَنَّ أُصُولَ ذَلِكَ صَحِيحَةٌ مُقَرَّرَةٌ فِي الشَّرْعِ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِهِ “انتهى .

وإذا ثبت هذا في التعامل مع الأحاديث المرفوعة المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي رواتها ضعف ، فما يُروى عن الصحابة والتابعين في الترغيب والترهيب ، والزهد والرقائق ، والحكم والمواعظ ، وأخبار الصالحين والعباد = أمره أسهل ، وبابه أوسع ، كما سبق بيانه ، وما زال ذلك دأب أهل العلم ، وطريقتهم في التصنيف ، كما يعلم ذلك من طرائقهم في الرواية ، ومن مصنفاتهم في الزهد والرقائق والآداب والمواعظ .

ثالثا :

أما عن الكتب المصنفة التي اهتم مؤلفوها بنقل أقوال الصحابة ، فهي كثيرة بفضل الله ، إلا أن مؤلفيها لم يلتزموا رواية الصحيح فقط ، وذلك لقاعدتين :

الأولى : أن من أسند فقد أحال .

أي من روى لك الحديث أو الأثر بالسند فقد برئت عهدته ، وقد نص على هذه القاعدة ابن عبد البر في “التمهيد” (1/3).

وقال الحافظ ابن حجر في “لسان الميزان” (4/125) :” أكثر المحدثين في الأعصار الماضية من سنة مائتين وهلم جرا إذا ساقوا الحديث بإسناده اعتقدوا انهم برئوا من عهدته ” انتهى .

الثانية : ما قدمناه من أنه يتساهل ويتسامح في أبواب الترغيب والترهيب ، والمغازي ، والحكايات والقصص

وقد اهتم بعض أهل العلم بنقل ما جاء عنهم في أبواب الاعتقاد ، ومن هؤلاء :

اللالكائي في “شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة” ، وابن بطة في “الإبانة الكبرى” ، والآجري في “الشريعة” ، والهروي في “ذم الكلام وأهله” .

واهتم بعضهم بنقل أقوالهم في الأحكام ، ومن هذه الكتب :

مصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني ، ومصنف ابن أبي شيبة ، وسنن الدارمي ، وسنن سعيد بن منصور ، و”شرح معاني الآثار” للطحاوي ، و”تهذيب الآثار” للطبري ، و”المحلى” لابن حزم ، و”السنن الكبرى” للبيهقي

واهتم بعضهم بنقل أقوالهم في باب الزهد والرقائق ، والترغيب والترهيب ، ونحو ذلك ، ومن هذه الكتب :

الكتب المعنونة بالزهد ، مثل “الزهد” للإمام أحمد ، و”الزهد” لوكيع ، و”الزهد” لعبد الله بن المبارك” ، و”الزهد” لهناد ،  و”حلية الأولياء” لأبي نعيم ، و”المجالسة وجواهر العلم” للدينوري ، و”صفة الصفوة” لابن الجوزي .

هذا وقد قام بعض أهل العلم المعاصرين بجمع ما صح من آثار الصحابة ، ومن هؤلاء :

الشيخ : زكريا بن غلام قادر الباكستاني ، حيث صنف مؤلفا فيما صح من آثار الصحابة في الفقه ، إلا أنه لم يستوعب ، وهو  كتاب “ما صح من آثار الصحابة في الفقه” .

الشيخ : أبو عبد الله الداني بن منير آل زهوي ، حيث صنف كتاب :” سلسلة الآثار الصحيحة أو الصحيح المسند من أقوال الصحابة والتابعين”.

والمنهج الذي يجب اتباعه في التعامل مع آثار الصحابة في باب الزهد والرقائق ونحوها ، أن ينحى منها ما في رواته كذاب أو متهم بالكذب ، وما كان ضعيفا إلا أن معناه لا يعارض ما ثبت بالأدلة الصحيحة ، وكان من باب الترغيب والترهيب ، والثواب والعقاب ، وأخبار الصالحين ، فلا بأس به حينئذ ، وعلى ذلك صنيع العلماء كما تقدم .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android