0 / 0

حول صحة قصة مشورة الحباب بن المنذر رضي الله عنه يوم بدر

السؤال: 283378

أريد أن أستفسر عن صحة قصة مشاورة الحباب بن المنذر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير مكان نزول المسلمين في غزوة بدر، فقد قرأت وسمعت لبعض أهل العلم أن هذه القصة غير ثابتة ، وهذه الأيام تدرس ابنتي غزوة بدر ، ومدرس ابنتي حكى لهم هذه القصة ، فأرسلت له ، وقلت له : إن القصة غير ثابتة ، فكان هذا رده: وردت هذه الرواية فى الكثير من كتب السيرة والتفسير والسنة مثل : “البداية والنهاية” لابن كثير ، “الطبقات الكبري” لابن سعد ، “السيرة النبوية وأخبار الخلفاء” لابن حبان ، “دلائل النبوة” للبيهقى ، “كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى” للقاضى عياض ، “تفسيرالقرآن” للقرطبي ، “سير أعلام النبلاء” للذهبي ، “تاريخ الرسل والملوك للطبري” ووردت من أربعة طرق مختلفة : طريقان من هذه الطرق ضعيف ، وحسن و، الآخران صحاح ، وننقل رأى الإمام الذهبي على أحد هذه الرويات :” حذفت من هذه القصة كثيرا مما سلف من الأحاديث الصحيحة استغناء بما تقدم ” ، وعندما أورد الإمام ابن كثير رحمه الله عن ابن اسحاق رحمه الله تعالى أحد هذه الروايات لم يعلق عليها ، وهذا دليل على صحتها ؛ لأنه فى “البداية والنهاية” يعلق على الروايات الضعيفة ، ويبين ضعفها عندما يوردها ، أما إن كانت صحيحة فلا يعلق عليها ، ولم نقف على تعليق الإمام الذهبي ، ولا تعليق الإمام ابن كثير رحمهما االله تعالى على الرواية الضعيفة ، وهذا بخلاف ماذكره “موقع قصة الإسلام” فى حكايته عن ضعف القصة من أنهما ضعفاها ، وهذه القصة موجودة بالكتاب المدرسي تحت باب تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأخذه بمبدأ الشورى ، وذلك لرتسيخ مبدأ الشورى لدي أبنائنا وبيان أهميته ” هذا كان رده، فهل هناك طرق صحيحة لهذه القصة ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

عن هذا السؤال يجب أن يكون من ناحيتين :

الأولى : الحكم على طرق هذه القصة من ناحية الأسانيد .

الثانية : حكم قبول مثل هذه الأسانيد في المغازي والسير ، وتعامل أهل العلم معها .

أما من حيث الإسناد :

فهذه القصة ذكرها أهل السير وغيرهم بأسانيد متصلة ، وأخرى مرسلة ،

أما الأسانيد المتصلة لهذه القصة : فلا تصح ، وبيانها كما يلي :

الطريق الأول :

أخرجه الحاكم في “المستدرك” (5801) ، من طريق يعقوب بن يوسف بن زياد ، قال ثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْأَعْشَى ، أَخْبَرَنِي بَسَّامٍ الصَّيْرَفِيُّ ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ الْكِنَانِيُّ ، أَخْبَرَنِي حُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيُّ ، قَالَ :” أَشَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ بِخَصْلَتَيْنِ ، فَقَبِلَهُمَا مِنِّي ، خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةِ بَدْرٍ فَعَسْكَرَ خَلْفَ الْمَاءِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَبِوَحْيٍ فَعَلْتَ أَوْ بِرَأْيٍ؟ قَالَ:  بِرَأْيٍ يَا حُبَابُ  ، قُلْتُ : فَإِنَّ الرَّأْيَ أَنْ تَجْعَلَ الْمَاءَ خَلْفَكَ ، فَإِنْ لَجَأْتَ ، لَجَأْتَ إِلَيْهِ ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنِّي “.

وإسناده واه ، فيه عمرو بن خالد أبو حفص الأعشى ، قال فيه الذهبي في “تاريخ الإسلام” (5/137) : ” كوفي واه ” انتهى .

الطريق الثاني : رُوي عن عبد الله بن عباس .

وله عنه طريقان :

الأول : أخرجه ابن سعد في “الطبقات الكبرى” (3/567) فقال :” أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ” أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم نَزَلَ مَنْزِلًا يَوْمَ بَدْرٍ ، فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلٍ ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أَدْنَى مَاءٍ إِلَى الْقَوْمِ ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا ، وَنَقْذِفُ فِيهِ الْآنِيَةَ ، فَنَشْرَبُ وَنُقَاتِلُ ، وَنُغَوِّرُ مَا سِوَاهَا مِنَ الْقُلُبِ ، قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم فَقَالَ: الرَّأْيُ مَا أَشَارَ بِهِ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ  ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم:  يَا حُبَابُ ، أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ  فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم فَفَعَلَ ذَلِكَ ” .

وفي إسناده الواقدي ، وهو متروك الحديث ، إلا أن روايته في المغازي والسير يستأنس بها .

قال ابن سعد في “الطبقات” (5/425) في ترجمته له :” وَكَانَ عَالِمًا بِالْمَغَازِي وَالسِّيرَةِ وَالْفُتُوحِ ، وَبِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْحَدِيثِ وَالْأَحْكَامِ ، وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ ” انتهى .

 وقال الذهبي في “تاريخ الإسلام” (5/182) :” وحاصل الأمر: أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَى ضعفه ، وأجود الروايات عَنْهُ : رواية ابنُ سعْد في “الطبقات”، فإنّه كَانَ يختار من حديثه بعض الشيء ”  انتهى .

وقال شيخ الإسلام في “مجموع الفتاوى” (27/469) :” وَمَعْلُومٌ أَنَّ الواقدي نَفْسَهُ : خَيْرٌ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ مِثْلِ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيِّ ، وَأَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ وَأَمْثَالِهِمَا ، وَقَدْ عُلِمَ كَلَامُ النَّاسِ فِي الواقدي ؛ فَإِنَّ مَا يَذْكُرُهُ هُوَ وَأَمْثَالُهُ إنَّمَا يُعْتَضَدُ بِهِ ، وَيُسْتَأْنَسُ بِهِ .

وَأَمَّا الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِهِ فِي الْعِلْمِ : فَهَذَا لَا يَصْلُحُ ”  انتهى .

الثاني : أورده ابن كثير في “البداية والنهاية” (5/82) فقال :” قَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي ، قَالَ: وَزَعَمَ الْكَلْبِيُّ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:

” بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ الْأَقْبَاصَ ، وَجِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ ، إِذْ أَتَاهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، فَقَالَ:   يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّ اللَّهَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ   فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ السَّلَامُ ، وَمِنْهُ السَّلَامُ ، وَإِلَيْهِ السَّلَامُ ، فَقَالَ الْمَلَكُ:  إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكَ إِنَّ الْأَمْرَ هُوَ الَّذِي أَمَرَكَ بِهِ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ .فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

يَا جِبْرِيلُ هَلْ تَعْرِفُ هَذَا؟ 

فَقَالَ: مَا كُلَّ أَهْلِ السَّمَاءِ أَعْرِفُ ، وَإِنَّهُ لَصَادِقٌ ، وَمَا هُوَ بِشَيْطَانٍ

  .

وإسناده لا يصح أيضا ، فيه الكلبي ، وهو متروك ، واتهمه غير واحد بالكذب .

أما الطرق المرسلة فقد جاءت من طرق ثلاث ، كما يلي :

الطريق الأول :

أخرجه البيهقي في “دلائل النبوة” (3/31) ، وابن الأثير في “أسد الغابة” (1/665) ، من طريق محمد بن إسحاق ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ ، وعاصم بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، وعبد الله ابن أَبِي بَكْرٍ ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا ، فَبَعْضُهُمْ قَدْ حَدَّثَ بِمَا لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ بَعْضٌ ، وَقَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ فِيمَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ يَوْمِ بدر ، قالوا : ” … فَلَمَّا جَاءَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ نَزَلَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّاهُ ، وَلَا نُقَصِّرُ عَنْهُ ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَة ُ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ، فَقَالَ الْحُبَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ ، وَلَكِنِ انْهَضْ حَتَّى تَجْعَلَ الْقُلُبَ كُلَّهَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِكَ ، ثُمَّ غَوِّرْ كُلَّ قَلِيبٍ بِهَا إِلَّا قَلِيبًا وَاحِدًا ، ثُمَّ احْفِرْ عَلَيْهِ حَوْضًا فَنُقَاتِلُ الْقَوْمَ فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ . فَقَالَ : قَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ  .

وهذه مراسيل إسنادها حسن إلى عروة بن الزبير ، والزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعبد الله بن أبي بكر .

الطريق الثاني :

أخرجه ابن إسحاق في “السيرة” ، وأورده من طريقه ابن هشام في “السيرة” (1/620) ، والطبري في تاريخه”  (2/440) فقال :” قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحُدِّثْتُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ، أَنَّهُمْ ذَكَرُوا: ” أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ ، أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ ، وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟.. “.

وإسناده منقطع ، ومرسل أيضا ، مبهم عمن أرسل عنهم .

الطريق الثالث :

أخرجه أبو داود في “المراسيل” (318) ، من طريق حماد بن زيد ، عَنْ يَحْيَى بن سَعِيدٍ ، قَالَ: ” اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: نَرَى أَنْ نُغَوِّرَ الْمِيَاهَ كُلَّهَا غَيْرَ مَاءٍ وَاحِدٍ ؛ فَنَلْقَى الْقَوْمَ ، – يَعْنِي: الْعَدُوَّ – عَلَيْهِ . فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْقُلُبِ كُلِّهَا ، فَغُوِّرَتْ ، إِلَّا مَاءَ بَدْرٍ . فَلَقُوا الْقَوْمَ عَلَيْهِ ، وَاسْتَشَارَ النَّاسَ حِينَ أَتَى خَيْبَرَ:   أَيْنَ نَنْزِلُ ؟   فَقَالَ: الْحُبَابُ: انْزِلْ – يَعْنِي بَيْنَ الْحُصُونِ –  ، فَنَقْطَعَ خَبَرَ هَؤُلَاءِ عَنْ هَؤُلَاءِ ، وَخَبَرَ هَؤُلَاءِ عَنْ هَؤُلَاءِ ، فَنَزَلَ بَيْنَ الْقُصُورِ ” .

وإسناده صحيح إلى يحيى بن سعيد .

فيتلخص مما سبق أن الأسانيد المتصلة في هذه القصة : لا تصح .

وأنه قد جاء فيها عدة مراسيل من وجوه متعددة .

الناحية الثانية :

أما من ناحية حكم قبول مثل هذه الأسانيد في المغازي والسير ، وتعامل أهل العلم معها ، فنتكلم عنها من ثلاث نقاط :

النقطة الأولى :

ينبغي أن يُعلم أن أهل العلم فرقوا في الرواية وقبول الأخبار بين أحاديث الاعتقاد والحلال والحرام، وبين ما يُروى في المغازي والسير والقصص والزهد والأدب ، وهذا منهج مستقر عند الأوائل .

قال الخطيب البغدادي في “الكفاية” (ص133) :” قد ورد عن غير واحد من السلف : أنه لا يجوز حمل الأحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم ، إلا عمن كان بريئا من التهمة ، بعيدا من الظِّنة .

وأما أحاديث الترغيب والمواعظ ونحو ذلك : فإنه يجوز كتبها عن سائر المشايخ ” انتهى .

وروى ابن أبي حاتم في “الجرح والتعديل” (1/41) عن سفيان بن عينة أنه قال :” لا تسمعوا من بقية ما كان في سنة ، وأسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره ” انتهى .

وروى الحاكم في “المستدرك” (1/666) بسنده عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ ، أنه قال: إِذَا رَوِينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَلَالِ ، وَالْحَرَامِ ، وَالْأَحْكَامِ ، شَدَّدْنَا فِي الْأَسَانِيدِ ، وَانْتَقَدْنَا الرِّجَالَ .

وَإِذَا رَوِينَا فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَالثَّوَابِ ، وَالْعِقَابِ ، وَالْمُبَاحَاتِ ، وَالدَّعَوَاتِ تَسَاهَلْنَا فِي الْأَسَانِيدِ “. انتهى

وقال ابن أبي حاتم في “الجرح والتعديل” (2/30) :” باب : في الآداب والمواعظ ؛ أنها تحتمل الرواية عن الضعاف .

ثم روى بسنده عن أبيه عن عبدة بن سليمان ، قال : قيل لابن المبارك ، وروى عن رجل حديثاً ، فقيل هذا رجل ضعيف؟

فقال يحتمل أن يروى عنه هذا القدر ، أو مثل هذه الأشياء.

قلت لعبدة: مثل أي شيء كان؟ قال: في أدب ، موعظة ، في زهد” . انتهى

وهذا الإمام أحمد بن حنبل يفرق كذلك بين رواة أحاديث الأحكام وأحاديث المغازي والفضائل .

حيث قد قال الدوري كما في “تاريخ ابن معين – رواية الدوري” (3/60):” سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل، وَسُئِلَ وَهُوَ على بَاب أَبى النَّضر هَاشم بن الْقَاسِم ، فَقيل لَهُ يَا أَبَا عبد الله : مَا تَقول فِي مُوسَى بن عُبَيْدَة الربذي ، وفى مُحَمَّد بن إِسْحَاق ؟

فَقَالَ أما مُحَمَّد بن إِسْحَاق : فَهُوَ رجل تكْتب عَنهُ هَذِه الْأَحَادِيث . كَأَنَّهُ يعْنى الْمَغَازِي وَنَحْوهَا.  وَأما مُوسَى بن عُبَيْدَة : فَلم يكن بِهِ بَأْس ، وَلكنه حدث بِأَحَادِيث مَنَاكِير ، عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابن عمر ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم .

فَأَما إِذا جَاءَ الْحَلَال وَالْحرَام : أردنَا قوما هَكَذَا !!

وَقبض أَبُو الْفضل على أَصَابِع يَدَيْهِ الْأَرْبَع ، من كل يَد ، وَلم يضم الْإِبْهَام ، وأرانا أَبُو الْفضل يَدَيْهِ ، وأرانا أَبُو الْعَبَّاس “. انتهى

وفي “طبقات الحنابلة” لأبي يعلى (1/425) ، أن الإمام أحمد قال :” إذا روينا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِي الحلال والحرام : شددنا فِي الأسانيد .

وإذا روينا عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي فضائل الأعمال ، ومالا يضع حكما ولا يرفعه: تساهلنا في الأسانيد ” انتهى .

وقال ابن عبد البر في “التمهيد” (6/39) :” وَأَحَادِيثُ الْفَضَائِلِ : لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى مَنْ يُحْتَجُّ بِهِ ”  انتهى .

وقال ابن حجر في “القول المسدد” (ص11) :” الأحاديث التي ذكرها : ليس فيها شيء من أحاديث الأحكام في الحلال والحرام ، والتساهل في إيرادها ، مع ترك البيان بحالها : شائع .

وقد ثبت عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنهم قالوا : إذا روينا في الحلال والحرام شددنا وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا ” انتهى .

النقطة الثانية:

 أن القصة إذا جاءت من عدة طرق ، فيها ضعف محتمل ، بحيث لا يكون في رواتها كذاب أو متهم ، أو جاءت من عدة مراسيل فإن هذا يدل على أن لها أصلا ، ولا ينبغي ردها بضعف طرقها ، ما دام أنه لا ينبي عليها حكم شرعي ، استقلالا .

قال شيخ الإسلام في “مجموع الفتاوى” (13/346) :

” قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ: التَّفْسِيرُ ، وَالْمَلَاحِمُ ، وَالْمَغَازِي .

وَيُرْوَى : لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ ؛ أَيْ : إسْنَادٌ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ ، مِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إسْحَاقَ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ والواقدي وَنَحْوِهِمْ ، فِي الْمَغَازِي .

فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْمَغَازِي : أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، ثُمَّ أَهْلُ الشَّامِ ، ثُمَّ أَهْلُ الْعِرَاقِ .

فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْلَمُ بِهَا ، لِأَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ ، وَأَهْلُ الشَّامِ كَانُوا أَهْلَ غَزْوٍ وَجِهَادٍ ، فَكَانَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِالْجِهَادِ وَالسِّيَرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ ، وَلِهَذَا عَظَّمَ النَّاسُ كِتَابَ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري الَّذِي صَنَّفَهُ فِي ذَلِكَ ، وَجَعَلُوا الأوزاعي أَعْلَمَ بِهَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ…. ” .

ثم قال : و” الْمَرَاسِيلُ ” إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهَا ، وَخَلَتْ عَنْ الْمُوَاطَأَةِ قَصْدًا ، أَوْ الِاتِّفَاقِ بِغَيْرِ قَصْدٍ : كَانَتْ صَحِيحَةً ، قَطْعًا .

فَإِنَّ النَّقْلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِدْقًا مُطَابِقًا لِلْخَبَرِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ ، أَوْ أَخْطَأَ فِيهِ ؛ فَمَتَى سَلِمَ مِنْ الْكَذِبِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ : كَانَ صِدْقًا بِلَا رَيْبٍ .

فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ جَاءَ مِنْ جِهَتَيْنِ ، أَوْ جِهَاتٍ ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَى اخْتِلَاقهِ ، وَعُلِمَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فِيهِ اتِّفَاقًا ، بِلَا قَصْدٍ : عُلِمَ أَنَّهُ صَحِيح ٌ…

 وَلِهَذَا ثَبَتَتْ بِالتَّوَاتُرِ غَزْوَةُ بَدْرٍ ، وَأَنَّهَا قَبْلَ أُحُدٍ . بَلْ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ حَمْزَةَ وَعَلِيًّا وَعُبَيْدَةَ، بَرَزُوا إلَى عتبة وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدِ ، وَأَنَّ عَلِيًّا قَتَلَ الْوَلِيدَ ، وَأَنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ قِرْنَهُ ، ثُمَّ يُشَكُّ فِي قرْنِهِ ، هَلْ هُوَ عتبة أَوْ شَيْبَةُ .

وَهَذَا الْأَصْلُ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ ؛ فَإِنَّهُ أَصْلٌ نَافِعٌ فِي الْجَزْمِ بِكَثِيرِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْمَغَازِي ، وَمَا يُنْقَلُ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ ” انتهى .

وقال في “الرد على البكري” (1/76) :

” وقال الإمام أحمد : ثلاثة علوم ليس لها أصول : المغازي ، والملاحم ، والتفسير .

وفي لفظ : ليس لها أسانيد .

ومعنى ذلك : أن الغالب عليها : أنها مرسلة ، ومنقطعة .

فإذا كان الشيء مشهورا عند أهل الفن ، قد تعددت طرقه : فهذا مما يَرجع إليه أهل العلم ؛ بخلاف غيره “. انتهى

النقطة الثالثة :

أن مغازي موسى بن عقبة : تعد من أصح المغازي كما هو معلوم ، وقد أورد قصة الحباب بن المنذر في مغازيه ، كما نقله عنه الذهبي في “تاريخ الإسلام” (2/51) ، وقال :” ذِكْرُ غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنْ مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: فِإنَّهَا مِنْ أَصَحِّ الْمَغَازِي .

قَدْ قَالَ إبراهيم بن المنذر الجزامي: حَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ وَمَعْنٌ وَغَيْرُهُمَا : أَنَّ مَالِكًا كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْمَغَازِي ، قَالَ: عَلَيْكَ بِمَغَازِي الرَّجُلِ الصَّالِحِ ، مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ، فَإِنَّهُ أَصَحُّ الْمَغَازِي “. انتهى

فمما سبق يتبين أن هذه القصة قد رويت من عدة مراسيل ، من وجوه مختلفة ، مما يدل على أن لها أصلا .

ويقوى ذلك أكثر إذا علمنا أن عامة من صنف في المغازي : قد نقلها ، ومن أصحها مغازي موسى بن عقبة كما قدمنا .

ولم نقف على أحد من أهل العلم من المتقدمين : ضعفها ، أو أبطل روايتها .

وما ذكره السائل عن الذهبي وابن كثير أنهما ضعفا القصة : ليس صحيحا .

ثم لم يزل أهل العلم يستشهدون بقصة الحباب بن المنذر ، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأيه يوم بدر .

قال ابن بطال في “شرح صحيح البخاري” (10/356) :” وقد ثبت عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه اجتهد في أمر الحروب وتنفيذ الجيوش ، وقدر الإعطاء للمؤلفة قلوبهم ، وأمر بنصب العريش يوم بدر في موضع ، فقال له الحباب بن المنذر: أبوحي نصبته هنا أم برأيك؟ فقال: بل برأيي. قال: الصواب نصبه بموضع كذا. فسماه النبي (صلى الله عليه وسلم) : ذا الرأيين.

فعمل برأيه ولم ينتظر الوحى ”  انتهى .

وقال ابن العربي في “أحكام القرآن” (1/391) :” الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران: 159] جَمِيعُ أَصْحَابِهِ ؛ وَرَأَيْت بَعْضَهُمْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّهُمْ أَهْلٌ لِذَلِكَ وَأَحَقُّ بِهِ ، وَلَكِنْ لَا يُقْصَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَصْرُهُ عَلَيْهِمْ دَعْوَى.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي السِّيَرِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الْمَنْزِلِ. فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ لِرَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ ، أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ؟ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلَا نَتَأَخَّرَهُ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ. قَالَ: فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ ؛ انْطَلِقْ بِنَا إلَى أَدْنَى مَاءِ الْقَوْمِ إلَى آخِرِهِ “. انتهى

وقال شيخ الإسلام في “منهاج السنة النبوية” (8/274) :” وَنَبِيُّنَا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَانَ يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ ، وَكَانَ أَحْيَانًا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ فِي الرَّأْيِ.

كَمَا قَالَ لَهُ الْحُبَابُ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ: أَهُوَ مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّاهُ ، أَمْ هُوَ الْحَرْبُ وَالرَّأْيُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ: ” بَلْ هُوَ الْحَرْبُ وَالرَّأْيُ وَالْمَكِيدَةُ ” فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلِ قِتَالٍ. قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى رَأْيِ الْحُبَابِ ”  انتهى .

فيتلخص مما سبق أن القصة لها أصل مشهور ، مقبول متداول عند عامة أهل السير ، ولم يستنكره أحد من أهل العلم .

وأن أهل العلم يستشهدون بهذه القصة : على مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android