أنا دائما أتعجب من أحوال السلف كيف وصلوا إلى ما كانوا عليه ؟ فعندما أقرأ عن الكرامات التي حصلت لهم أتعجب كيف استطاعوا الوصول إلى هذه المرتبة ؟ كيف استطاعوا أن يخرجوا الدنيا من قلوبهم ؟
كيف وصل السلف إلى ما كانوا عليه من قوة الإيمان؟
السؤال: 287792
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
لقد سألت عن أمر عظيم، لكنه يسير على من يسره الله عليه؛ والكلام عن أحوال السلف التي كانوا يلتزمونها حتى وصلوا إلى الدرجات الإيمانية العالية، هو موضوع طويل الأطراف تستوعبه كتب ومجلدات؛ لكن يجمع هذه الأطراف كلها أمران أساسيان قام عليهما أمر السلف كله؛ فمن التزم بهما رجي أن يشبه حاله حالهم، وأن يدخل في زمرتهم، نسأل الله أن يسهل لنا ولك هذين الأمرين وأن يثبتنا وإياك عليهما حتى نلقاه وهو راض عنا؛ وهذان الأمران هما:
الأمر الأول : الحرص على اتباع ماجاء به النبي صلى الله عليه وسلم والصبر عليه.
فالمكانة العالية عند الله تعالى؛ قد اشترط الله تعالى لها شرطا، وهي اتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ آل عمران/31.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" والله سبحانه أمرنا باتباع الرسول وطاعته، وموالاته ومحبته، وأن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما، وضمن لنا بطاعته ومحبته محبة الله وكرامته، فقال تعالى: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ )، وقال تعالى: ( وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا )، وقال تعالى: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )، وأمثال ذلك في القرآن كثير. ولا ينبغي لأحد أن يخرج في هذا عما مضت به السنة، وجاءت به الشريعة، ودل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة " انتهى من "مجموع الفتاوى" (1 / 334).
وهذا الاتباع لا يتصور حدوثه بدون تعلم وتفقه لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأول خطوة في اتباع الشرع هو تعلمه من مصادره الصحيحة والصبر على ذلك.
عن حُمَيْد بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ، خَطِيبًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ رواه البخاري (71) ، ومسلم (1037).
و عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ رواه البخاري (5027).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" دخل في معنى قوله: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) تعليم حروفه ومعانيه جميعا؛ بل تعلم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه، وذلك هو الذي يزيد الإيمان " انتهى من "مجموع الفتاوى" (13 / 403).
فالسلف كان منهجهم الصبر على تعلم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك يصبرون على العمل بما علموه.
عن ابن مسعود، قال: "كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ، لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يُعْرَفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ " رواه الطبري في "تفسيره" (1 / 74).
وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: " لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَإِنَّ أَحْدَثَنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ فِيهَا كَمَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمُ الْقُرْآنَ ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ، فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِه،ِ مَا يَدْرِي مَا أَمْرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ، يَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ " رواه الحاكم في "المستدرك" (1 / 35)، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً "، ووافقه الذهبي.
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ: " حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ، فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا: فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ " رواه الإمام أحمد في "المسند" (38 / 466)، وحسنه محققو المسند.
الأمر الثاني: اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم : هو اتباع بصدق ، لا تشوبه نية فاسدة، ويقين لا يخالطه شك.
فكانوا إذا تعلموا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، تعلموه بنية صادقة ، وأخذوه بيقين ثابت، وإذا عملوا بما علموا ، صدقوا في ذلك ، وجاهدوا أنفسهم على دفع الرياء وقصد الدنيا بعلمهم وعبادتهم؛ يتبعون قول الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ التوبة /119.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" ( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، الذين أقوالهم صدق، وأعمالهم، وأحوالهم لا تكون إلا صدقا، خلية من الكسل والفتور، سالمة من المقاصد السيئة، مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة.
قال الله تعالى: ( هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ) الآية " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 355).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وليست الفضائلُ بكثرة، الأعمال البدنية، لكن بكونها خالصةً لله عز وجل، صوابًا عَلَى متابعة السنة.
وبكثرة معارف القلوب وأعمالها.
فمن كان بالله أعرف ، وبدينه وأحكامه وشرائعه، وله أخوف ، وأحبَّ ، وأرجى : فهو أفضلُ ممن ليس كذلك، وإن كان أكثر منه عملاً بالجوارح…
ولهذا قال بعض السَّلف: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ، ولكن بشيء وقر في صدره…
وذُكِر لأبي سليمان طولُ أعمار بني إسرائيل وشدة اجتهادهم في الأعمال، وأنَّ من الناس من غبطهم بذلك.
فَقَالَ: إِنَّمَا يريد الله منكم صدق النية فيما عنده. أو كما قَالَ.
وقال ابن مسعود لأصحابه: أنتم أكثر صومًا وصلاةً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيرًا منكم.
قالوا: وبما ذاك؟
قَالَ: كانوا أزهد منكم في الدُّنْيَا ، وأرغب في الآخرة " انتهى من " مجموع رسائل ابن رجب" (4 / 412 – 413).
فالحاصل؛ أن السبيل لنيل المراتب الإيمانية العالية كما كان حال السلف الصالح رضوان الله عليهم، إنما يكون أولا بالصبر على تفهّم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصبر على فعل ما أمر به والصبر على ما نهى عنه وكل ذلك بصدق وإخلاص ، والزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة .
وملاك الأمر كله هو التضرع لله تعالى، وطلب الهداية والثبات منه ، فإن الأمر كله بيده تعالى.
ويتحرى العبد أوقات الإجابة كالثلث الأخير من الليل فقد كان السلف يتحرون مثل هذه الأوقات.
فعن ابْنُ شِهَابٍ الزهري، عَنِ الْأَغَرِّ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ اسْمُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ .
فَلِذَلِكَ كَانُوا يُفَضِّلُونَ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ عَلَى صَلَاةِ أَوَّلِهِ.
رواه الإمام أحمد في "المسند" (13 / 35)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (2 / 196).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب