قد قرأت أثر عن الشعبي وروي مرفوعا أنه : ما أختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها ، فما مدى صحة هذا الكلام ؟ وما معناه؟ وهل المقصود أن كل أمة نبي تفرقت وكانت الفرقة الناجية قلة كما في حديث افتراق اليهود والنصارى ؟
حديث ( مَا اخْتَلَفَتْ أُمَّةٌ بَعْدَ نَبِيِّهَا إِلَّا ظَهَرَ أَهْلُ باطِلِهَا عَلَى أَهْلِ حَقِّهَا ) ما هو معناه ودرجته؟
السؤال: 288830
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أما الحديث الذي أورده السائل الكريم فهو حديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والحديث أخرجه الطبراني في “المعجم الأوسط” (7754) ، وأبو نعيم في “ذكر من اسمه شعبة” (29) ، من طريق أبي بكر بن عياش ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا اخْتَلَفَتْ أُمَّةٌ بَعْدَ نَبِيِّهَا إِلَّا ظَهَرَ أَهْلُ باطِلِهَا عَلَى أَهْلِ حَقِّهَا .
وإسناده ضعيف ، فيه ” موسى بن عبيدة ” ، وهو متفق على ضعفه ، حتى قال أحمد :” لا تحل الرواية عنه ” ، وخاصة في حديثه عن عبد الله بن دينار .
قال أبو حاتم :” موسى بن عبيدة لا يشتغل به ، وذلك أنه يروي عن عبد الله بن دينار شيئا لا يرويه الناس ” ، وقال ابن معين :” موسى بن عبيدة ضعيف ، وإنما ضعف حديث موسى بن عبيدة لأنه روى عن عبد الله بن دينار أحاديث مناكير “. انتهى من “الجرح والتعديل” (8/152). وقال ابن حجر في “التقريب” (6989) :” ضعيف ، ولا سيما في عبد الله بن دينار ” انتهى .
والحديث ضعفه الهيثمي في “مجمع الزوائد” (2/459) ، والشيخ الألباني في “ضعيف الجامع” (4990) .
وأما أثر الشعبي فأخرجه أبو نعيم في “حلية الأولياء” (4/313) من طريق جرير ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ:( مَا اخْتَلَفَتْ أُمَّةٌ بَعْدَ نَبِيِّهَا إِلَّا ظَهَرَ أَهْلُ بَاطِلِهَا عَلَى أَهْلِ حَقِّهَا ).
وإسناده ضعيف ، فيه عطاء بن السائب ، وهو ثقة إلا أنه اختلط ، وجرير ممن روى عنه بعد الاختلاط ، انظر “المختلطين” للعلائي (ص84) .
إلا أن بعض أهل العلم جعل ذلك عاما في الأمم دون الأمة المحمدية ، فإن من خصائصها ألا يظهر أهل الباطل فيها على أهل الحق ، واستدلوا على ذلك بحديث ضعيف .
وهو ما أخرجه أبو داود في “سننه” (4253) ، والطبراني في “المعجم الكبير” (3/292) ، من طريق إسماعيل بن عياش ، عن ضمضم ، عن شُريحٍ عن أبي مالك – يعني الأشعريَّ – قالَ: قالَ رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلم -: إن الله أجَارَكُم مِنْ ثلاثِ خلالٍ: أن لا يَدْعُوَ عليكم نبيُّكم فتهلِكُوا جميعاً ، وأن لا يَظهَرَ أهلُ الباطِلِ على أهْلِ الحق ، وأن لا تجتمِعُوا على ضَلالَةٍ .
وإسناده ضعيف ، فيه انقطاع بين شريح وأبي مالك الأشعري ، قال أبو حاتم كما في “المراسيل” لابن أبي حاتم (327) :” شُرَيْحُ بْنُ عُبَيْدِ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ : مُرْسَلٌ “. انتهى
ولذا ضعفه ابن كثير في “تحفة الطالب” (ص120) فقال :” في إسناد هذا الحديث نظر “.
وقال ابن حجر في “التلخيص الحبير” (3/295) :” فِي إسْنَادِهِ انْقِطَاعٌ ” .
وضعفه الشيخ الألباني في “ضعيف الجامع” (1532) .
وله شاهد من حديث أبي هريرة ، وإسناده لا يصح أيضا .
أخرجه الداني في “السنن الواردة في “الفتن” (3/746) ، وإسحاق بن راهويه في “مسنده” (421) ، والحارث بن أبي أسامة في “مسنده” كما في “إتحاف الخيرة المهرة” (259) ، من طريق إسماعيل بن عياش .
وأخرجه الخطيب البغدادي في “الفقيه والمتفقه” (419) ، من طريق داود بن أبي هند .
كلاهما ( إسماعيل بن عياش ، وداود بن هند ) عَنْ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ الله التَّيْمِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم : إِنَّ الله أَجَارَكُمْ مِنْ ثَلاَثَةٍ : أَنْ تَسْتَجْمِعُوا عَلَى ضَلاَلَةٍ كُلُّكُمْ ، وَأَنْ يَظْهَرَ أَهْلُ الْبَاطِلِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ ، وَأَنْ أدْعُوَ عَلَيْكُمْ بِدَعْوَةٍ فَتَهْلَكُوا , وَأَبْدَلَهُ بِهَذَا : الدَّابَّةَ ، وَالدَّجَّالَ ، وَالدُّخَانَ .
وعلته : يحيى بن عبيد الله التميمي ، ترجم له ابن عبد الهادي في “بحر الدم” (1158) ، وقال: ” قال أحمد: منكر الحديث ، ليس بثقة ، وأبوه لا يعرف “. انتهى
ومع كون هذه الأحاديث لم تصح ، إلا أنه قد جاء في الأحاديث الصحيحة أنه لا تزال هذه الأمة ظاهرة على الحق إلى يوم القيامة .
ومن ذلك ما أخرجه البخاري في “صحيحه” (3116) ، ومسلم في “صحيحه” (1037) ، من حديث مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَاللَّهُ المُعْطِي وَأَنَا القَاسِمُ ، وَلاَ تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ ، وَهُمْ ظَاهِرُونَ .
فلا يمكن أن يظهر أهل الباطل في هذه الأمة على أهل الحق بعامة، وقد عدَ بعض أهل العلم ذلك من خصائص الأمة .
ومعنى الظهور هنا الغلبة ، بحيث يظل الحق غالبا ، والباطل مغلوبا ، فلا يظهر أهل الكفر على أهل الإسلام فيمحقونه بالكلية عن ظهر الأرض ، فهذا منتف في هذه الأمة .
قال البيضاوي في “تحفة الأبرار” (3/460) :” والمراد بـ (الظهور): الظفر المؤدي إلى قمع الحق وإبطاله بالكلية .
ولعله أراد بذلك: أن أهل الكفر والإيمان إذا تحاربوا على الدين , ولم يكن لهم غرض سواه , لم يكن للكفار على المؤمنين ظفر “. انتهى
وكذلك لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق مطلقا ، فيصير الحق مهجورا غير معمول به في جميع الأرض ، فهذا أيضا منتف .
قال ابن رجب في “جامع العلوم والحكم” (ص69) : ” ومع هذا ؛ فلابد في الأمة من عالم يوافق الحق ، فيكون هو العالم بهذا الحكم ، وغيره يكون الأمر مشتبها عليه ولا يكون عالما بهذا ، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة ، ولا يظهر أهل باطلها على أهل حقها ، فلا يكون الحق مهجورا غير معمول به في جميع الأمصار والأعصار “. انتهى
وهذا في هذه الأمة ، بخلاف ما سبق من الأمم ، فإنها كانت تستباح فيظهر عليها عدوها حتى يهلكها جميعا ، أو يسلبها دينها كما حدث مع بني إسرائيل .
قال المظهري في “المفاتيح شرح المصابيح” (6/100) :” “أن لا يظهرَ أهلُ الباطل على أهلِ الحق” ، قيل: ألاَّ يغلِبَ الكُفَّارُ على المُسْلمِين ، بصرفهم عما هو حقٌّ ؛ يعني: عن الإسلام إلى الكفر ، كما فَعَلَ الكُفَّارُ بقوم موسى عليه السلام في غيبته بأنْ حَمَلُوهم على عِبادَةِ العِجْل “. انتهى
وقال شيخ الإسلام في “الجواب الصحيح” (6/121) :” وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ:” لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ ، وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ “.
وَهَذَا أَخْبَرَ بِهِ حِينَ كَانَتْ أُمَّتُهُ أَقَلَّ الْأُمَمِ فَانْتَشَرَتِ الْأُمَّةُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا ، وَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ – وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ – لَمْ يَزَلْ فِيهَا طَائِفَةٌ ظَاهِرَةٌ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالسَّيْفِ ، لَمْ يُصِبْهَا مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ ، حَيْثُ كَانُوا مَقْهُورِينَ مَعَ الْأَعْدَاءِ ، بَلْ إِنْ غُلِبَتْ طَائِفَةٌ فِي قُطْرٍ مِنَ الْأَرْضِ ، كَانَتْ فِي الْقُطْرِ الْآخَرِ أُمَّةٌ ظَاهِرَةٌ مَنْصُورَةٌ ، وَلَمْ يُسَلِّطْ عَلَى مَجْمُوعِهَا عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَلَكِنْ وَقَعَ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ وَفِتَنٌ “. انتهى
ثم إن هذا الظهور إلى قرب قيام الساعة ، حتى يبعث الله ريحا طيبة فتأخذ أرواح المؤمنين ، ثم لا يبقى في الأرض إلا شرار الخلق ، وعليهم تقوم الساعة
ففي “صحيح مسلم” (1924) ، قال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيُّ : ” كُنْتُ عِنْدَ مَسْلَمَةَ بْنِ مُخَلَّدٍ ، وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ ، هُمْ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ، لَا يَدْعُونَ اللهَ بِشَيْءٍ إِلَّا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ ، أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ ، فَقَالَ لَهُ مَسْلَمَةُ: يَا عُقْبَةُ ، اسْمَعْ مَا يَقُولُ عَبْدُ اللهِ ، فَقَالَ عُقْبَةُ: هُوَ أَعْلَمُ ، وَأَمَّا أَنَا فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ ، قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ” .
فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَجَلْ ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ رِيحًا كَرِيحِ الْمِسْكِ مَسُّهَا مَسُّ الْحَرِيرِ ، فَلَا تَتْرُكُ نَفْسًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا قَبَضَتْهُ ، ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ “.
ولا شك أن اختلاف الأمم السابقة كان سببا لاستباحة العدو دينهم وأرضهم
روى ابن أبي شيبة في “مصنفه” (30555) ، أن معاوية رضي الله عنه قال :” مَا تَفَرَّقَتْ أُمَّةٌ قَطُّ إِلَّا أَظْهَرَ اللَّهُ أَهْلَ الْبَاطِلِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ إِلَّا هَذِهِ الْأُمَّةَ “.
فالاختلاف واقع في هذه الأمة كما وقع في الأمم السابقة ، إلا أنه لا يؤدي في هذه الأمة إلى ظهور أهل الباطل على أهل الحق ظهورا كليا مطلقا كما قدمنا .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب