الأول: هل الإقراء للقرآن المجيد والسماعُ للحديث الشريف عن طريق برامج التواصل كالواتسب أو الماسنجر والسكايب وغيرهما مما هو شبيه بهما، هل يعتبر ذلك مقبولا تصح به الإجازة والسماع الحديثيُّ ؟ فيستبيحُ الشيخ قول وكتابة مثل: قرأ علي فلان ، أو سمع مني الصحيحين ، وما أشبه ذلك ، ويقول القارئ كذلك : قرأت على الشيخ فلان ختمة ، أو سمعت منه البخاري ومسلما ، مثلا . السؤال الثاني: ما حكم تسجيل القراءة وإرسالها إلى الشيخ فيسمعها، ثم يجيز الطالب في الرواية التي قرأ بها، هذا في القرآن، وفي الحديث بأن يقرأ الشيخ ما شاء الله له أن يقرأ من الأحاديث ثم يرسلها إلى الطلبة فيستمعونها، فهل يقولون سمعنا وحدثنا ؟ والفرق بين هذه الصورة وصورة السؤال الأول أن التسجيل الذي سجله الطالب لختمته قد يمكث عند الشيخ أشهرا قبل أن يستمع إليه الشيخ ، وقد يتغير إحكام الطالب لبعض القواعد التجويدية أو لإتقانه لفرش الحروف ، وأصول الرواية في ما بين ذلك من الزمن. السؤال الثالث: أعلم أن الصوت الذي يصل عبر الإنترنت ، والهاتف كذلك ليس سوى ترجمة لذبذبات صوت المتكلم ، وليس هو صوته فعلا، فهل في هذا تقوية لمذهب شعبة بن الحجاج في اشتراطه الرؤية في السماع ؟ وقوله “إذا حدثك المحدث ولم تره فلا ترو عنه فلعله شيطان قد تصور في صورته ” .
الأخذ عن الشيخ عبر برامج التواصل الحديثة هل هو معتبر، تصح به الإجازة ؟
السؤال: 289158
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
الإجازة على الوجه الذي في السؤال وهو إجازة الشيخ للطالب بإجادته لتلاوة القرآن أو إجادته لحفظه أو حفظ شيء من كتب السنة ؛ هي في حقيقتها شهادة، ولذا تسمى الوثيقة التي تثبت ذلك بالإجازة وبالشهادة أيضا.
والشهادة مبناها على العلم بالمشهود به.
قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره لقوله تعالى: ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ يوسف/81 .
قال رحمه الله تعالى:
” تضمنت هذه الآية جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها، فإن الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا، فلا تسمع إلا ممن علم، ولا تقبل إلا منهم، وهذا هو الأصل في الشهادات، ولهذا قال أصحابنا: شهادة الأعمى جائزة، وشهادة المستمع جائزة، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة، وكذلك الشهادة على الخط- إذا تيقن أنه خطه أو خط فلان- صحيحة، فكل من حصل له العلم بشيء جاز أن يشهد به ” انتهى من “تفسير القرطبي” (11 / 426 – 427).
وبناء على هذا ؛ فإن الشيخ عبر وسائل التواصل الحديثة إذا تحقق من إتقان الطالب لتلاوة القرآن الكريم ، جاز له شرعا أن يشهد له بذلك ، ولا حرج في أن يجيزه بناء على هذا السماع منه .
ثانيا:
حرص العلماء على الدقة في ألفاظ التحمل والأداء ، حتى تكون معبرة عن حقيقة ما تم ، ولذلك كانوا يعبرون : بـ حدثني ، وحدثنا ، وأخبرني ، وأخبرنا ، وحدثنا قراءة عليه ، … وغير ذلك من الألفاظ التي يظن من لم يعرف مصطلح المحدثين أنها مترادفة ، والواقع أنها متباينة ، وقد فرق العلماء بينها .
وانظر في طرق تحمل الحديث وألفاظ أدائها : “علوم الحديث” لابن الصلاح (ص70-79) ،
” تدريب الراوي” (ص 181-191) .
فينبغي لمن يجيز طالبا ، أو يحدث عن شيخ عبر وسائل الاتصال الحديثة أن يبين ذلك في ألفاظه :
فيقول الطالب مثلا : حدثني الشيخ عن طريق الهاتف وأجازني .. ونحو ذلك .
أو يقول الشيخ : قرأ علي الطالب عن طريق الهاتف .. وقد أجزته .. ونحو ذلك .
ففي ذلك الاقتداء بالسلف والأئمة في اختيار الألفاظ المعبرة عن حقيقة الحال ، مع ما في ذلك من الاحتياط وإبراء الذمة ، حتى لا يأتي أحد ويقدح في هذه الإجازة بأن الشيخ والطالب كانا في بلاد متباعدة ولم يلتقيا .
وتحمل العلم عن الشيخ أو إجازة الطالب بعد سماع صوته عبر وسائل الاتصال الحديثة ، يشبه ما قاله العلماء قديما : أنه لا يشترط لصحة السماع رؤية الشيخ ، فله أن يحدث عن شيخه إذا علم أن الصوت صوته ، وإن كان لا يرى الشيخ ، كما لو كان خلف جدار ونحو ذلك ، خلافا لما قاله شعبة رحمه الله .
قال أبو عمرو بن الصلاح في “علوم الحديث” (ص79) :
“”يصح السماع ممن هو وراء حجاب ، إذا سُمع صوته فيما إذا حدث بلفظه، أو إذا عُرف حضوره بمسمع منه فيما إذا قرئ عليه.
وينبغي أن يجوز الاعتماد في معرفة صوته وحضوره على خبر من يوثق به. وقد كانوا يسمعون من عائشة رضي الله عنها وغيرها من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب، ويروونه عنهن اعتمادأ على الصوت.
واحتج عبد الغني بن سعيد الحافظ في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : (إن بلالاً ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم)” انتهى .
وفي تقريب النووي وشرحه “تدريب الرواي” للسيوطي (ص191-192) مثل ذلك .
وأما اشتراط شعبة للرؤية أثناء السماع ، فقد رواه ابن عدي في “الكامل” (1 / 165)؛ قال: حَدَّثَنَا مُحَمد بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُكْرَمٍ، حَدَّثَنا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمد، قَالَ: سَمِعْتُ قُرَّادًا يَقُولُ: سَمعتُ شُعْبَة يَقُولُ: ” إِذَا حَدَّثَ الْمُحَدِّثُ، وَلَمْ يُرَ وَجْهَهُ فَلا تُصَدِّقْهُ، لَعَلَّهُ شَيْطَانٌ قَدْ تَصَوَّر فِي صُورَتِهِ يَقُولُ: حَدَّثَنا وَأَخْبَرَنَا “.
وهذا الرأي مضعّف عند أهل التحقيق في علم الحديث؛ وشعبة رحمه الله تعالى عنده تشدد في الرواية والنقد.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” كل طبقة من نقاد الرجال لا تخلو من متشدد ومتوسط.
فمن الأولى: شعبة وسفيان الثوري ، وشعبة أشد منه ” انتهى من “النكت” (1 / 482).
ورأي شعبة هذا إن كان يقصد حقيقته؛ فهذا غريب جدا لأن الالتفات لمثل هذ الاحتمال البعيد لا تستقيم معه الرواية ولا الحياة؛ لأن الشيطان كما قد يخدع الناس بالصوت، قد يخدعهم بالصورة؛ فبهذا ينتشر الشك في كل ما يسمعه الإنسان ويراه.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
” ويجوز السماع من وراء حجاب، كما كان السلف يروون عن أمهات المؤمنين…
وقال بعضهم عن شعبة: ” إذا حدثك من لا ترى شخصه فلا تروي عنه، فلعله شيطان قد تصور في صورته، يقول: حدثنا أخبرنا “.
وهذا عجيب وغريب جدا! ” انتهى من “اختصار علوم الحديث” (ص 118).
وقد ذكر النووي كلام شعبة في كتابه “التقريب” (192) ورده قائلا : “وهو خلاف الصواب وقول الجمهور” انتهى .
وقال السخاوي رحمه الله تعالى:
” ولكن هذا بعيد، لا سيما ويتضمن عدم الوثوق بالراوي ولو رآه ” انتهى من “فتح المغيث” (2 / 384).
وأما إن كان شعبة رحمه الله تعالى لا يقصد حقيقة قوله وظاهره؛ وإنما أراد المبالغة في النهي عن هذه الطريقة ، وعدم الاعتداد بها؛ فهذا المعنى تعقبه أهل التحقيق بسماع الرواة عن أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، وسماع العميان وهم لا يرون من يحدثهم.
وتقوية رأي شعبة بما ذكرته من الذبذبات لم يتبين لنا وجهه؛ مع أن ما ذكرته لا ينفي أن الصوت الواصل إلينا هو صوت المتحدث نفسه ، وهذه الذبذبات هي التي تعمل على نقله .
رابعا :
أما ما ذكرته من كون التسجيل قد يبقى عند الشيخ أشهرا … إلخ ، فلا يؤثر ذلك على صحة الإجازة.
لأن الواقع أن المهتم بعلوم التجويد والقراءات : أنه يزداد إتقانا للقراءة ومهارة فيها كلما مضى عليه الوقت ، وليس العكس .
ولأن بعض من يقرأ على الشيخ مباشرة قد يبقى في الختمة الواحدة عدة سنوات ، وليس ذلك مانعا من إعطاء الشيخ الإجازة له .
والذي ينبغي للعبد أن يحرص على ما ينفعه ، ويسأل عما يحتاجه في دينه ودينه ، وأن يدع التكلف والوساوس ، وافتراض غرائب الأمور ؛ فالعمر أنفس من أن يضاع في مثل ذلك .
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب