مسألة تشغلني ، وأتعرض لها كثيرا ، فأنا والكثير ممن أعرفهم ، وهى متعلقة بحكم التعامل فى المال الحرام سواء ميراثه أو قبوله كهدية ، أو هبة ، أو قبضة فى معاوضة ، أو اقتراضه قرضا حسنا ، وغيرها من المعاملات التى لا مناص من الوقوع فى بعضها ، وقد بحثت فى حدود سعتي ، وأنا فى بحثي هذا كنت ألتمس هدي الرسول صلى الله عليه وسلم الذى يؤكده الدليل الصحيح بلا احتمالات فى فهمه تسقط الإستدلال به ، أو ضعف فى إسناده ، فوقفت على تقسيم العلماء للمال الحرام على قسمين : الحرام لعينه ، أو لذاته ، وصورته المال المسروق ، وهذا محل اتفاق ـ بحسب فهمي ـ بين العلماء على أن حرمته لا تنتقل للحل بالمناولة من يد ليد ، حتى ولو كانت المناولة مباحة فى الأصل كالميراث ، أو الهدية ، أو الهبة ، أو المعاوضة ، أو القرض الحسن . الإشكالية عندي في المال المحرم لكسبه لا لعينه أو لذاته ، أقصد هنا تحديدا المال الحرام كله ، وليس المختلط ، سبب الإشكالية أننى أجد الجمهور يلحق حكم هذا المال بالمال المحرم لعينه أو لذاته فلا يتغير حكمه بالمناولة ، ولم أقف على دليل يشفي صدري مع الجمهور ، وذلك بلا شك لقصور بحثي ، وقلة حيلتي العلمية والبحثية ، فى المقابل وجدت علماء كالشيخ ابن العثيمين أجاز فيها الفوائد البنكية الربوية إذا انتقلت للورثة ، وتلك الفتوى معتمدة ، ويفتى بها على موقع موثوق به ، وبين الوقت والآخر أتذكر موقف الجمهور من تلك المسألة ، فأخشى على نفسي ، وذلك لجلالة علماء الجمهور في نفسي ، وفي نفس الوقت لا أجد دليلا بحسب بحثي القاصر يشجعني على الأخذ بقولهم ورد هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة ، فما هو دليل مذهب الجمهور ؟ وهل تلك المسألة الخلافية مما يؤاخذ عليه يوم القيامة لاسيما وأنا مخالف فيها للجمهور ؟
الخلاف في المال الحرام لكسبه هل يحل لمن انتقل إليه بالإرث أو بالهبة؟
السؤال: 289442
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
المال الحرام نوعان:
1-مال حرام لعينه، وهو ما أخذ بغير رضا، كالمسروق والمغصوب والمنهوب، وهذا يحرم على آخذه، وعلى من انتقل إليه ، إذا كان عالما بالحال؛ لأن الحرمة فيه تتعلق بعين المال، فهو عين مال المظلوم، ويلزم رده إليه ؛ والانتفاع به : مشاركة في الظلم والإثم.
2-مال محرم لكسبه، وهو ما أخذ بالرضا في مقابل عمل محرم، أو في معاملة محرمة، وذلك كأجرة الغناء والزمر والعمل المحرم ، وكالمال المأخوذ رشوة، أو فائدة ربوية، أو ثمن خمر ومخدرات، وما شابه ذلك.
وهذا النوع فيه خلاف من جهتين:
الأولى: فيما يلزم صاحبه إذا تاب، هل يلزمه رده، أم التصدق به، أم يباح له تملكه؟
وعلى الأخير هل يفرق بين من كان جاهلا بالتحريم ومن كان عالما؟
وينظر بيان هذه المسألة في جواب السؤال رقم : (219679) .
الثانية: هل يحل هذا المال لغير الكاسب، كمن انتقل إليه بوجه مباح، كالهبة أو الإرث أو النفقة؟ أم لا يحل؟
وقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
الأول: أنه لا يحل للكاسب ولا لغيره .
وهذا هو قول الجمهور، من الحنفية والشافعية والحنابلة، وأفتت به اللجنة الدائمة.
والثاني: أنه يحل لغير الكاسب، إذا انتقل إليه بوجه مباح ، كالإرث ، والهبة ، نحو ذلك .
وهذا هو المعتمد عند المالكية، وقول بعض الحنفية، والحسن البصري، والزهري، واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
انظر : “الأشباه والنظائر” لابن نجيم، 247، “حاشية ابن عابدين” (5/ 99)، “فتاوى ابن رشد” (1/ 640)، “الذخيرة” للقرافي (13/ 318)، “منح الجليل شرح مختصر خليل” (2/ 416)، “إحياء علوم الدين” (2/ 130)، “المجموع” (9/ 351)، “الإنصاف” (8/ 322)، “مجموع فتاوى “ابن تيمية (29/ 307)، “فتاوى اللجنة الدائمة” (16/455).
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: “عن رجل مراب خلف مالا وولدا وهو يعلم بحاله. فهل يكون المال حلالا للولد بالميراث؟ أم لا؟
فأجاب:
أما القدر الذي يَعلم الولد أنه ربا : فيخرجه إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن وإلا تصدق به. والباقي لا يحرم عليه؛ لكن القدر المشتبه يستحب له تركه. إذا لم يجب صرفه في قضاء دين أو نفقة عيال.
وإن كان الأب قبضه بالمعاملات الربوية التي يرخص فيها بعض الفقهاء : جاز للوارث الانتفاع به.
وإن اختلط الحلال بالحرام وجهل قدر كل منهما جعل ذلك نصفين” انتهى من “مجموع الفتاوى” (29/307) .
فهذا على مذهب الجمهور.
وقال ابن رشد: “وروي عن ابن شهاب أنه قال فيمن كان على عمل فيأخذ الرشوة، والغلول، والخمس، وفيمن كانت أكثر تجارته الربا: إن ما تركا من الميراث سائغ لورثتهما بميراثهم الذي فرضه الله لهم، علموا بخبث كسبه أو جهلوه، وإثم الظلم على جانيه” انتهى من “فتاوى ابن رشد” (1/ 640).
وهذا على القول الثاني.
وحجة الجمهور أن هذا المال لا يحل لكاسبه، ولا يملكه شرعا، ويلزمه التخلص منه أو رده، فلا ينتقل إلى غيره؛ إذا الانتقال بالإرث أو الهبة فرع عن تملكه، وهو غير حاصل.
وكلام الجمهور قليل في هذه المسألة، اعتمادا على الأصل، وهو أنه مال حرام، فلا يطيّبه الموت، ولا نقله من يد إلى يد.
وحجة القول الثاني ما يلي:
1-تعامل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع اليهود بيعا وشراء وإجارة وقرضا، مع اشتهار أخذهم الربا وأكلهم السحت.
ويجاب عنه بأن أموال اليهود كانت مختلطة، والكلام في المال الحرام الذي لم يختلط بغيره.
لكن ثبت عن ابن مسعود ما يقوي هذا المذهب ، وهو صريح فيه . قال ابن رجب رحمه الله :
” وروي في ذلك آثارٌ عن السَّلف، فصحَّ عن ابن مسعود أنَّه سُئِلَ عمَّن له جارٌ يأكلُ الرِّبا علانيةً ولا يتحرَّجُ من مالٍ خبيثٍ يأخُذُه يدعوه إلى طعامه، قال: أجيبوهُ، فإنَّما المَهْنأُ لكم والوِزْرُ عليه .
وفي رواية أنَّه قال: لا أعلمُ له شيئاً إلاّ خبيثاً أو حراماً، فقال: أجيبوه.
وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود، ولكنَّه عارضه بما رُوي عنه أنَّه قال: الإثم حَوَازُّ القلوب .
وروي عن سلمان مثلُ قولِ ابنِ مسعود الأول ، وعن سعيد بن جبير، والحسن البصري، ومُورِّق العِجلي، وإبراهيم النَّخعي، وابنِ سيرين وغيرهم، والآثار بذلك موجودة في كتاب ” الأدب ” لحُمَيد بن زَنجويه، وبعضها في كتاب ” الجامع ” للخلال، وفي مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم .” انتهى من “جامع العلوم والحكم” (1/209-210) .
2-أن الحرمة متعلقة بذمة الكاسب، لا بعين المال، فلا يحرم على من انتقل إليه.
ويجاب عنه: بأنه إذا كان كذلك، فإن المال يكون دينا في ذمة المتوفى، ويلزم الورثة سداد الدين قبل تقسيم التركة.
3-ان اختلاف جهة الأخذ مؤثر، فحرمة المال على الكاسب، لا يلزم منها حرمته على غيره، لحديث بريرة: (هو لها صدقة ولنا هدية).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ” قال بعض العلماء: ما كان محرما لكسبه، فإنما إثمه على الكاسب ، لا على من أخذه بطريق مباح من الكاسب، بخلاف ما كان محرما لعينه، كالخمر والمغصوب ونحوهما .
وهذا القول وجيه قوي، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما لأهله، وأكل من الشاة التي أهدتها له اليهودية بخيبر، وأجاب دعوة اليهودي، ومن المعلوم أن اليهود معظمهم يأخذون الربا ويأكلون السحت .
وربما يقوي هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم في اللحم الذي تصدق به على بريرة: (هو لها صدقة ، ولنا منها هدية) ” انتهى من “القول المفيد على كتاب التوحيد” (3/ 112).
وقال رحمه الله: ” انظر مثلاً بريرة مولاة عائشة رضي الله عنهما، تُصُدق بلحم عليها، فدخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوماً إلى بيته ، ووجد البُرمة -القدر- على النار، فدعا بطعام ولم يؤت بلحم، أتي بطعام ولكن ما فيه لحم، فقال: ألم أر البرمة على النار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، ولكنه لحم تصدق به على بريرة.
والرسول عليه الصلاة والسلام لا يأكل الصدقة، فقال: (هو لها صدقة ، ولنا هدية) ؛ فأكله الرسول عليه الصلاة والسلام ، مع أنه يحرم عليه هو أن يأكل الصدقة؛ لأنه لم يقبضه على أنه صدقة ، بل قبضه على أنه هدية.
فهؤلاء الإخوة نقول: كلوا من مال أبيكم هنيئاً مريئاً، وهو على أبيكم إثم ووبال، إلا أن يهديه الله عز وجل ويتوب، فمن تاب تاب الله عليه” انتهى من “اللقاء الشهري” (45/ 26).
وهذا الاستدلال يمكن أن يجاب عنه بالفرق بين الأمرين، وهو أن بريرة أخذت المال بوجه مباح، فملكته، وكان لها أن تهديه لغيرها.
وأما المرابي فإنه لم يملك المال شرعا، حتى ينقله لغيره.
نعم ؛ يصح هذا في المرابي إذا تاب، وقلنا إنه يملك المال إن كان جاهلا بالتحريم، أو كان عالما-كما هو ميل شيخ الإسلام- فحينئذ : إن أهداه لغيره، جاز، وهذا قياس حديث بريرة.
وأما إذا لم يتب، فإنه لا يملك المال، ولا ينتقل إلى غيره، لا بالهبة ولا بالإرث؛ لأنه لا يملكه شرعا.
وبهذا تعلم أن مذهب الجمهور مذهب قوي، وهو جار على الأصل، وهو أن الكاسب لم يملك المال، حتى ينقله لغيره .
وقد ذكر ابن رجب في الموضع المشار إليه آنفا بعض الآثار السلفية في المنع من ذلك ، موافقة للجمهور ، وقال أيضا : ” وعارض المروي عن ابن مسعود وسلمان، ما روي عن أبي بكر الصدِّيق أنَّه أكل طعاماً ثم أخبر أنَّه من حرام، فاستقاءه ” انتهى من “جامع العلوم” (1/211) .
ولهذا أفتت اللجنة الدائمة أن الفوائد الربوية لا تورث، ولا يأكل الولد منها. وينظر: “فتاوى اللجنة الدائمة” (16/455)، (22/ 344).
وينظر لمزيد الفائدة:
أحكام المال الحرام وضوابط الانتفاع والتصرف به في الفقه الإسلامي” د. عباس أحمد الباز، ص73- 92 وهي رسالة علمية، رجح فيها الباحث قول الجمهور.
وأيضا : “جامع العلوم والحكم” لابن رجب (1/208-211) .
وينظر جواب السؤال رقم : (70491) لمعرفة موقف المسلم من المسائل الاجتهادية .
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة