الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
من ترك الصلاة لعذر نوم أو نسيان، فإنه يلزمه قضاؤها باتفاق العلماء ، مهما كان عدد الصلوات التي تركها.
قال المازري رحمه الله: ” الاتفاق على أن الناسي يقضي .
وقد شذّ بعض الناس فقال: ما زاد على خمس صلوات لا يلزم قضاؤها.
ويصح أن يكون وجه هذا القول أن القضاء يسقط في الكثير للمشقة ولا يسقط فيما لا يشق ، كما أن الحائض يسقط عنها قضاء الصلاة.
وعلله بعض أهل العلم بالمشقة لكثرة ذلك ، وتكرر الحيض، ولم يسقط الصوم إذ ليس ذلك موجوداً فيه” انتهى من “المعلم بفوائد مسلم” (1/ 440).
ثانيا:
من ترك الصلاة لعذر الإغماء أو البنج، فلا قضاء عليه عند الجمهور، خلافا للحنابلة، وللحنفية فيما إذا كان الصلوات المتروكة لم تزد على خمس.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ” قوله: أو إغماء، أي: يقضي من زال عقلُهُ بإغماءٍ، والإغماء: هو التَّطبيق على العقل، فلا يكون عنده إحساس إطلاقاً، فلو أَيْقَظْتَه لم يستيقظ.
فإذا أُغمي عليه وقتاً أو وقتين : وجبَ عليه القضاء؛ لورود ذلك عن بعض الصَّحابة رضي الله عنهم كعمار بن ياسر، وقياساً على النَّوم .
وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل.
والأئمةُ الثَّلاثةُ يَرَون عدم وجوب القضاء على المُغمى عليه .
لكنَّ أبا حنيفة رحمه الله يقول: إذا كانت خمس صلوات فأقلَّ، فإنَّه يقضي؛ لأنَّها سهلة ويسيرة، أمَّا إذا زادت على الخمس، فلا يقضي .
وكلامُ أبي حنيفة مبنيٌّ على شيء من العقل والرَّأي؛ فأخذ بعِلَّةِ مَنْ عَلَّل بالقضاء، وأخذ بسقوط الأمر للمشقَّة.
ولكن لا شَكَّ أنَّ مثل هذا التَّقديرِ الدَّقيق يحتاج إلى دليل، وإلاَّ فهو تحكُّمٌ؛ فالإنسان الذي لا يَشُقُّ عليه خمسُ صلوات لا يَشُقُّ عليه ستُّ صلوات.
فإذا نظرنا إلى التَّعليل وجدنا أنَّ الرَّاجح قول من يقول: لا يقضي مطلقاً؛ لأنَّ قياسه على النَّائم ليس بصحيح، فالنَّائم يستيقظ إذا أُوقِظَ، وأمَّا المُغمى عليه فإنَّه لا يشعر.
وأيضاً: النَّوم كثير ومعتاد، فلو قلنا: إنَّه لا يقضي سقط عنه كثير من الفروض. لكن الإغماء قد يمضي على الإنسان طولُ عمره ولا يُغمى عليه، وقد يسقط من شيء عالٍ فيُغمى عليه، وقد يُصاب بمرضٍ فيُغمى عليه.
وأما قضاء عمَّار ـ إن صحَّ عنه ـ فإنَّه يُحمل على الاستحباب، أو التَّورُّعِ، وما أشبه ذلك” انتهى من “الشرح الممتع” (2/ 16).
وهذا فيمن أغمي عليه بغير اختياره، وأما من أغمي عليه باستعمال البنج باختياره، فقد رجح الشيخ أنه يقضي.
وينظر: جواب السؤال رقم : (151203) .
ثالثا:
من ترك الصلاة عمدا، أثم، وعليه القضاء عند جماهير العلماء، مهما كان عدد الصلوات.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يلزمه القضاء، وهو مذهب الظاهرية، وهو قول الحسن البصري، وأبي بكر الحميدي، وإليه ذهب ابن تيمية وابن رجب، وكثير من المعاصرين منهم ابن باز وابن عثيمين.
وسبب الخلاف أمران:
الأول: هل القضاء يحتاج إلى أمر جديد من الشارع، أم يلزم القضاء بناء على الأمر بالأداء؟
فمن قال بالأول، قال: لم يرد أمر من الشارع بالقضاء في حق التارك عمدا، فلا يلزمه القضاء.
والجمهور يقولون: لا يحتاج القضاء إلى أمر جديد، وإذا وجب القضاء على الناسي وهو معذور، فأولى أن يجب القضاء على العامد وهو آثم.
الثاني: هل تارك الصلاة يكفر بتركها تكاسلا-أي من غير جحود-؟
فمن قال: يكفر- وهو قول جمهور السلف وأصحاب الحديث كما حكاه محمد بن نصر المروزي عنهم، بل حُكي إجماعا للصحابة-اختلفوا هل يقضي أم لا ؟ بناء على أن المرتد هل يلزمه ما تركه من العبادات زمن ردته أم لا؟ والجمهور على أنه لا يلزمه خلافا للشافعي.
وفي “الموسوعة الكويتية” (22/ 200) : ” ذهب الحنفية والمالكية إلى عدم وجوب قضاء الصلاة التي تركها أثناء ردته؛ لأنه كان كافرا، وإيمانه يجبها .
وذهب الشافعية إلى وجوب القضاء.
ونُقل عن الحنابلة القضاء وعدمه. والمذهب عندهم عدم وجوب القضاء” انتهى.
واعلم أن جمهور القائلين بكفر تارك الصلاة من السلف يرون أن على التارك القضاء، ولم يحكوا في ذلك خلافا ، إلا عن الحسن البصري رحمه الله.
قال الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله:
” فَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ صَلَاةً مُتَعَمِّدًا حَتَّى يَذْهَبَ وَقْتُهَا : فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا ، لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا ، إِلَّا مَا يُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ .
فَمَنْ أَكْفَرَهُ بِتَرْكِهَا : اسْتَتَابَهُ ، وَجَعَلَ تَوْبَتَهُ وَقَضَاءَهُ إِيَّاهَا : رُجُوعًا مِنْهُ إِلَى الْإِسْلَامِ .
وَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْ تَارِكَهَا : أَلْزَمَهُ الْمَعْصِيَةَ ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءَهَا…
فَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنِ الْحَسَنِ، فَإِنَّ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ، عَنِ الْأَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: إِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ صَلَاةً وَاحِدَةً مُتَعَمِّدًا : فَإِنَّهُ لَا يَقْضِيَهَا .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ [هو ابن نصر] : وَقَوْلُ الْحَسَنِ هَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَانَ يُكَفِّرُهُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ مُتَعَمِّدًا ، فَلذَلِكَ لَمْ يَرَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ مَا تَرَكَ مِنَ الْفَرَائِضِ فِي كُفْرِهِ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي : أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ يُكَفِّرُهُ بِتَرْكِهَا ؛ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالصَّلَاةِ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ ، فَإِذَا تَرَكَهَا حَتَّى يَذْهَبَ وَقْتُهَا ، فَقَدْ لَزِمَتْهُ الْمَعْصِيَةُ لِتَرْكِهِ الْفَرْضَ فِي الْوَقْتِ الْمَأْمُورِ بِإِتْيَانِهِ بِهِ فِيهِ ، فَإِذَا أَتَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : فَإِنَّمَا أَتَى بِهِ فِي وَقْتٍ لَمْ يُؤْمَرْ بِإِتْيَانِهِ بِهِ فِيهِ، فَلَا يَنْفَعُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِغَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، عَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ فِي النَّظَرِ ؛ لَوْلَا أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى خِلَافِهِ.
وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا ، قَالَ فِي النَّاسِي لِلصَّلَاةِ حَتَّى يَذْهَبَ وَقْتُهَا ، وَفَى النَّائِمِ أَيْضًا: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْتِ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا اسْتَيْقَظَ أَوْ ذَكَرَ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ ، فَقَضَاهَا بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ= لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي النَّظَرِ قَضَاؤُهَا أَيْضًا .
فَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ، وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَبَطُلَ حَظُّ النَّظَرِ” انتهى من “تعظيم قدر الصلاة” (2/ 996، 1000).
وقال المازري رحمه الله: ” وأما من ترك الصلاة متعمداً حتى خرجت أوقاتها، فالمعروف من مذاهب الفقهاء أنه يقضي .
وشذ بعض الناس وقال: لا يقضي، ويحتج بدليل الخطاب [أي مفهوم المخالفة] في قوله: “من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها”. دليله أن العامد بخلاف ذلك.
فإن لم نقل بدليل الخطاب : سقط احتجاجه.
وإن قلنا بإثباته ، قلنا: ليس هذا هاهنا في الحديث من دليل الخطاب، بل هو من التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه إذا وجب القضاء على النّاسي مع سقوط الإِثم ، فأحرى أن يجب على العامد” انتهى من “المعلم” (1/ 440)، ونقله القاضي عياض في “إكمال المعلم” (2/ 670)، وقال عقبه:
” سمعت بعض شيوخنا يحكى أنه بلغه عن مالك قولةٌ شاذةٌ في المفرّط ، كقول داود، ولا يصح عنه ولا عن أحد من الأئمة ، [ولا] من يُعتزى إلى علم ، سوى داود وأبى عبد الرحمن الشافعي. وقد اختلف الأصوليون في الأمر بالشيء المؤقت، هل يتناول قضاءه إذا خرج وقته ، أو يحتاج إلى أمر ثان؟
وقال بعض المشايخ: إن قضاء العامد مستفاد من قوله – عليه السلام -: ” فليصلها إذا ذكرها “؛ لأنه بغفلته عنها بجهله وعمده ، كالناسى، ومتى ذكر تركه لها ، لزمه قضاؤها.
واحتج – أيضاً – بعضهم بقوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي على أحد التأويلين، وبقوله في الحديث: ” لا كفارة لها إِلا ذلك “، والكفارة إنما تكون من الذنب، والنائم والناسي لا ذنب له، وإنما الذنب للعامد” انتهى.
فعُلم بهذا أن الجماهير على إلزام تارك الصلاة عمدا بالقضاء، سواء في ذلك من قال بكفره، ومن لم يقل به ، بل حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على ذلك .
وذهب كثير من المعاصرين إلى أن تارك الصلاة عمدا لا يلزمه القضاء، ولو كان لا يكفر بتركه لها.
سُئِلَ الشيخ ابن باز رحمه الله: هل على المرتَدّ قضاء الصلاة والصيام إذا عاد إلى الإسلام وتاب إلى الله ؟
فأجاب : ” ليس عليه القضاء ، ومَن تاب ، تاب الله عليه ، فإذا ترك الإنسان الصلاة ، أو أتى بناقض من نواقض الإسلام ، ثم هداه الله وتاب : فإنَّه لا قضاء عليه .
هذا هو الصواب من أقوال أهل العلم ؛ لأنَّ الإسلام يَجُبّ ما قبله ، والتوبة تهدِم ما كان قبلها.
قال الله سبحانه وتعالى: ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ) الأنفال/ 38؛ فبيَّن الله سبحانه وتعالى أنَّ الكافر إذا أسلم غفر الله له ما قد سلف .
والنبي صلى الله عليه وسلم قال : التوبة تَجُبّ ما قبلها ، والإسلام يهدِم ما كان قبله ” .
انتهى من ” مجموع فتاوى ابن باز ” (29/ 196).
وجاء في ” فتاوى اللجنة الدائمة ” : ” وليس على المرتد إذا رجع إلى الإسلام أن يقضي ما ترك في حال الرِّدَّة ، من صلاة وصوم وزكاة … إلخ.
وما عملَه في إسلامه قبل الرِّدَّة من الأعمال الصالحة ؛ لم يبطل بالرِّدَّة ، إذا رجع إلى الإسلام ؛ لأنَّ الله سبحانه علَّق ذلك بموته على الكفر، كما قال عز وجل : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ) الآية البقرة/161، وقال سبحانه : ( وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) الآية البقرة/217″ انتهى من “فتاوى اللجنة الدائمة” (2/ 9).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
” ثالثاً: أنه لو صلَّى قبل الوقت متعمِّداً ، فصلاته لا تجزئه بالاتفاق، فأيُّ فرق بين ما إذا فعلها قبل الوقت أو فعلها بعده؟ فإن كُلَّ واحد منهما قد تعدَّى حُدودَ الله عزّ وجل، وأخرج العبادة عن وقتها: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 229].
رابعاً: أن هذا الرَّجُل إذا أخَّرها عن وقتها فإنه ظالمٌ معتدٍ، وإذا كان ظالماً معتدياً ، فالله لا يحبُّ المعتدين، ولا يحبُّ الظَّالمين، فكيف يُوصف هذا الرَّجُل الذي لا يحبُّه الله لعدوانه وظُلمه بأنه قريب من الله متقرِّب إليه؟! هذا خلاف ما تقتضيه العقول والفِطَر السَّليمة.
أما قولهم: إنَّه وجب على المعذور القضاء بعد الوقت؛ فغير المعذور من باب أَولى؛ فممنوع، لأن المعذور معذور غير آثم، ولا يتمكَّن من الفعل في الوقت، فلما لم يتمكَّن، لم يُكلَّف إلا بما يستطيع .
أما هذا الرَّجُل غير المعذور فهو قادر على الفعل، مُكلَّف به، فخالف واستكبر ولم يفعل، فقياس هذا على هذا من أبعد القياس، إذاً؛ فهذا قياس فاسد غير صحيح ، مع مخالفته لعموم النُّصوص: من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ، ومع أنَّه مخالف للقياس فيما إذا صَلَّى قبل دخول الوقت.
فالصَّواب: أن من ترك الصَّلاة عمداً ـ على القول بأنه لا يكفر ـ كما لو كان يصلِّي ويخلِّي، فإنه لا يقضيها، ولكن يجب عليه أن تكون هذه المخالفة دائماً نُصْبَ عينيه، وأن يُكثر من الطَّاعات والأعمال الصَّالحة لعلَّها تُكفِّر ما حصل منه من إضاعة الوقت” انتهى من “الشرح الممتع” (2/ 138).
ولاشك أن القول بعدم لزوم القضاء فيه تيسير للتوبة، فإن بعض تاركي الصلاة لا يتوبون لخوفهم من مشقة القضاء .
ويمكن أن يستأنس هنا بسقوط القضاء عن الحائض ، وأنه لعلة المشقة، لكن اعتماد من أسقط القضاء ، هو على ما قدمنا.
والله أعلم.