0 / 0
14,33918/02/2019

هل يستدل بقصة غرق ابن نوح عليه السلام على تقديم النقل القطعي على العقل الظني ؟

السؤال: 296849

هل نستطيع الاحتجاج على الذين يقدمون العقل على النقل بقصة غرق ابن سيدنا نوح عليه السلام ؟

ملخص الجواب

الاستدلال بقصة غرق ابن نوح ، على تقديم النقل القطعي على العقل الظني إذا تعارضا: هو من ملح التفاسير، وإشارات الآيات، واستنباط فوائدها . وسواء صح ذلك الاستدلال، أو لم يصح : فبناء الدين، عامة، والعقائد : على النقل الصحيح، المؤيد بالعقل الصريح : هو طريق أهل السنة ، ومسلك السلف الصالح ، ولا يمكن أن يتعارض الدليلان: النقل الصحيح ، مع العقل الصريح ؛ بل يقطع العاقل، إذا تدبر حقيقة الأمر بـ : (موافقة صريح المعقول، لصحيح المنقول) .

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :

لا بأس بالإشارة إلى مثل ذلك المعنى؛ لا على أنه “مدلول” الآية، نصا ، أو ظاهرا قويا، ولا أن هذا هو تفسيرها الذي تقتضيه قواعد التفسير عند أهل العلم ؛ بل هو أقرب إلى : الملح ، والنكت ، والإشارات التي يذكرها العلماء كثيرا في مثل هذا المقام ، ويستأنس بها ؛ كما يذكر كثير من السلف : أن أول من (قاس) إبليس !!

روى ابن أبي شيبة (36956) والدرامي (189) عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، قَالَ : ” أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ ، وَإِنَّمَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِالْمَقَايِيسِ”.

وفي رواية للدارمي (196) عَنِ الْحَسَنِ ، بيان هذا القياس : فقد تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12] قَالَ: ” قَاسَ إِبْلِيسُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ “.

ثانيا :

وجه الاستدلال بقصة غرق ابن نوح عليه السلام، على أن النقل القطعي يقدم على العقل الظني إذا تعارضا:

أن ابن نوح عليه السلام قدَّم العقل على النقل القطعي ؛ فظن أنه إذا آوى إلى الجبل فإنه سينجو من الطوفان ؛ لأن الجبل عالٍ ولن يصل الماء إلى قمته ، إذ قال :   سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ  هود/43 .

بينما أهمل النقل القطعي ، وهو الوحي الذي جاء من عند الله على لسان أبيه ؛ بأن الله تعالى قضى بأن كل من على الأرض سيغرق إلا من آمن بالله تعالى ، إذ قال :  لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ   هود/43.

فكانت نتيجة تقديم العقل الظني، على النقل القطعي : أن ابن نوح ، الكافر بالشرع ، والنقل : قد غرق ، وأن أباه قد نجا ، بما معه من الدين والوحي (النقل) :   وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ  هود/43 . 

قال البقاعي: ” ولما كان الحال حال دهش واختلال ، كان السامع جديراً بأن لا يصبر بل يبادر إلى السؤال، فيقول : فما قال ؟

فقيل : ( قال ) ، قول من ليس له عقل ، تبعاً لمراد الله : ( سآوي إلى جبل يعصمني ) أي : بعلوه ( من الماء ) أي : فلا أغرق ( قال ) أي : نوح عليه السلام ( لا عاصم ) أي : لا مانع من جبل ولا غير موجود ( اليوم ) أي : لأحد ( من أمر الله ) أي : الملك الأعظم المحيط أمره وقدرته وعلمه ، وهو حكمه بالغرق على كل ذي روح لا يعيش في الماء ( إلا من رحم ) أي إلا مكان من رحمة الله ، فإنه مانع من ذلك ، وهو السفينة ، أو لكن من رحمه الله ؛ فإن الله يعصمه ” انتهى من “نظم الدرر في تناسب الآيات والسور” (9/ 289).

وعلى أية حال، فليس هذا الاستنباط من متين العلم، ومحكم النظر في الآية، إنما هو من باب ملحها، وإشاراتها، كما ذكرنا .

ثالثا:

وسواء صح هذا الاستدلال، أو لم يصح ؛ فالأصل المقرر عند أهل السنة : أن ما جاءت به الرسل ، من الآيات والمعجزات : هو حق وصدق بلا ريب ، وما جاء في رسالاتهم ، من العقائد، والشرائع: فليس في المعقول الصريح ما يمكن أن يقدم عليه ، فإن الرسل معصومون فيما يبلغون به عن الله تعالى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” ليس في المعقول الصريح ما يمكن أن يكون مقدمًا على ما جاءت به الرسل ، وذلك لأن الآيات والبراهين دالة على صدق الرسل ، وأنهم لا يقولون على الله إلا الحق ، وأنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله ، من الخبر ، والطلب ، لا يجوز أن يستقر في خبرهم عن الله شيء من الخطأ ، كما اتفق على ذلك جميع المقرين بالرسل ، من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم .

فوجب أن جميع ما يخبر به الرسول عن الله : صدق وحق ، لا يجوز أن يكون في ذلك شيء مناقض لدليل عقلي ولا سمعي ، فمتي علم المؤمن بالرسول أنه أخبر بشيء من ذلك : جزم جزما قاطعا أنه حق ، وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به ، وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي ، لا عقلي ، ولا سمعي .

وأن كل ما ظُن أنه عارضه من ذلك : فإنما هو حجج داحضة ، وشبه من جنس شبه السوفسطائية ، وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول قد شهد له بذلك ، وأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل صحيح، كان هذا العقل شاهدا بأن كل ما خالف خبر الرسول ، فهو باطل ، فيكون هذا العقل والسمع ، جميعا : شهدا ببطلان العقل المخالف للسمع ” انتهى من “درء تعارض العقل والنقل” (1/172). 

وإذا تقرر أن كل ما أخبر به الرسل ، يوافق العقل والفطرة ؛ فليعلم أنه قد يقع في أخبار الرسل ما تحار فيه العقول ، ولا تدركه لعجزها ، وضعفها ؛ وأما أن يقع في أخبرها ما تجزم العقول الصحيحة ببطلانه ، وإحالته : فحاشا ، وكلا .

قال ابن القيم رحمه الله : ” الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بما تحيله العقول وتقطع باستحالته ، بل أخبارهم قسمان : 

أحدهما : ما تشهد به العقول والفطر . 

الثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها ، كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر وتفاصيل الثواب والعقاب ، ولا يكون خبرهم محالا في العقول أصلا ، وكل خبر يظن أن العقل يحيله ، فلا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون الخبر كذبا عليهم ، أو يكون ذلك العقل فاسدًا ، وهو شبهة خيالية ، يظن صاحبها أنها معقول صريح ” انتهى من “الروح” (ص 62) . وينظر : “الصواعق المرسلة” (3/ 829-830).

والحاصل:

أن الاستدلال بقصة غرق ابن نوح ، على تقديم النقل القطعي على العقل الظني إذا تعارضا: هو من ملح التفاسير، وإشارات الآيات، واستنباط فوائدها .

وسواء صح ذلك الاستدلال، أو لم يصح : فبناء الدين، عامة، والعقائد : على النقل الصحيح، المؤيد بالعقل الصريح : هو طريق أهل السنة ، ومسلك السلف الصالح ، ولا يمكن أن يتعارض الدليلان: النقل الصحيح ، مع العقل الصريح ؛ بل يقطع العاقل، إذا تدبر حقيقة الأمر بـ : (موافقة صريح المعقول، لصحيح المنقول) .

والله أعلم. 

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android