قال تعالى : (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ (20)طه /18-20 ، السؤال عن تفسير هذه الآية ، فأنا أرى أنه بعدما أوضح موسى مدى أهمية العصا له عندما أمره الله بالقائها فألقاها على الفور، مما يدل على الثقة العمياء في الخالق ، وأنه من الممكن أن يستغنى الإنسان عن شئ يحبه ، وذي أهمية قصوى له بمجرد الثقة أن من أمرك بهذا هو الله تعالى ، لذلك فهو سيعيد لك بخير كثير ومنافع أكثر عند الثقة به ، والتخلي عن شئ مهم في سبيل طاعته ، فهل هذا كلام صحيح أم خطأ ؟
كل الخير في الامتثال والتسليم لأمر الله
السؤال: 301677
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولًا:
ننبه السائل الكريم إلى أهمية إحسان استخدام الألفاظ ؛ فإنها قوالب المعاني .
فكان الأولى بالسائل أن يقول ” التوكل ” أو “الاستسلام” ، أو “حسن الظن بالله” ، ونحو ذلك من الألفاظ الشرعية، التي تعبر عن المعاني السليمة ، بدلا من التعبير عن ذلك بـ(الثقة العمياء)، وما حواه من ظلال لا تلائم مقام التسليم لله ، والإيمان به ، والتوكل عليه .
وإلا؛ فهي ثقة نعم ، إلا أنها غير عمياء ، بل عن يقين راسخ بأن الخير بيديه ، والشر ليس إليه سبحانه وبحمده ، وأن الاستقامة على شرعه ، وتنفيذ أمره ، والابتعاد عن نهيه هي مفتاح الخير كله .
ثانيا:
قال الإمام الطحاوي رحمه الله : ” ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام ” انتهى من ” شرح الطحاوية ” (1/ 231).
يقول الشيخ ” البراك ” في شرح ” الطحاوية ” (128) بتصرف يسير: ” فلا يستقر إسلام العبد، وتحصل له الطمأنينة ؛ إلا إذا ثبتت تلك القدم على ظهر التسليم.
والاستسلام، والتسليم معناهما متقارب، قال تعالى: ( وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ) [لقمان: 22].
الإسلام: الاستسلام والانقياد، وهذا يقتضي عدم المنازعة؛ لأن من ينازع ، لم يستسلم ..
والتسليم أصل مهم، فإذا أصَّلت أصل الدين: الإيمان بالله ورسوله وكتابه.
والإيمان بالله: يتضمن أنه تعالى هو الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه، وأنه تعالى رب كل شيء ومليكه، وأنه سبحانه وتعالى موصوف بالكمال ، منزه عن النقص؛ فلا ظلم ولا عبث في خلقه وشرعه وقدره؛ بل هو تعالى حكيم في ذلك كله.
إذا حققت هذا؛ فكل ما يرد عليك ، عن الله تعالى ، وعن رسوله – صلى الله عليه وسلم – فلا بد أن يقوم على التسليم؛ لأن المعارضة والمنازعة ما تجيء إلا من ضعف الإيمان بعدل الرب، ومن ضعف الإيمان بحكمة الرب.
وكل ما يعارض الحق فهو باطل؛ لكن تارة تكون المعارضة وقحة صريحة، كما يفعل الكفرة أو الذين قد تزلزل إيمانهم، أو كاد أن يزول، فهؤلاء يتكلمون بالمعارضات في شرع الله وقدره، وأحيانًا لا يتكلم بها لكن تكون في النفس.
والمسلم يجب عليه أن يدفع كل المعارضات التي تخطر بباله، أو يسمعها على ألسن الشياطين، أو ألسن الجاهلين، يدفع ذلك بالإيمان بأن الله تعالى حكم عدل، حكيم عليم.
وهذا لا يقتضي أن الشرع مخالف للعقل؛ بل العقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح؛ لكن العقل مع النقل له طاقة ، وله حدود، فلا يمكن لعقل الإنسان أن يدرك ويحيط بكل شيء؛ بل له حدود يقف عندها؛ لأن الإنسان ناقص، فلا يمكن أن كل سؤال تجيب عليه، أو يجاب عليه، فلا بد من أن تقول: الله أعلم، الله حكيم عليم.
فإذا سلم الإنسان : استراح كثيرا ، وأراح.
وما يرد عليك من المعارضات:
إما أن تدفعه بالبينات والحجج الكاشفة لزيف تلك الشبهات الواردة.
وإن لم يتهيأ ذلك ، لقلة العلم : فادفعه بهذا الأصل [ التسليم] ، وقل: آمنت بالله ورسوله، فإن الشيطان يلقي الوساوس في النفوس..”.
ثالثا:
أما المعنى الذي فهمته من الآية ؛ فهو صحيح وقد نص عليه عدد من المفسرين ، وهو أن موسى عليه السلام ظن أن الله تعالى أمره برفض العصا ، فعن وهب ” قال له الرب: ( ألقها يا موسى ) فظن موسى أنه يقول ارفضها ؛ فألقاها على وجه الرفض ” انتهى من ” التفسير البسيط ” : (14/382)، ” تفسير البغوي ” (5/269).
” ومن ترك شيئًا لله : لم يجد فقده ” انتهى من “تفسير” القرطبي (18/26).
يقول الشيخ السعدي : ” الشاكر والشكور، من أسماء الله تعالى، الذي يقبل من عباده اليسير من العمل، ويجازيهم عليه، العظيم من الأجر، الذي إذا قام عبده بأوامره، وامتثل طاعته: أعانه على ذلك، وأثنى عليه ومدحه، وجازاه في قلبه نورا وإيمانا وسعة، وفي بدنه قوة ونشاطا، وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء، وفي أعماله زيادة توفيق.
ثم بعد ذلك، يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملا موفرا، لم تنقصه هذه الأمور.
ومن شكره لعبده، أن من ترك شيئا لله أعاضه الله خيرا منه، ومن تقرب منه شبرا، تقرب منه ذراعا، ومن تقرب منه ذراعا، تقرب منه باعا، ومن أتاه يمشي، أتاه هرولة، ومن عامله، ربح عليه أضعافا مضاعفة.
ومع أنه شاكر، فهو عليم بمن يستحق الثواب الكامل، بحسب نيته وإيمانه وتقواه، ممن ليس كذلك، عليم بأعمال العباد، فلا يضيعها، بل يجدونها أوفر ما كانت، على حسب نياتهم التي اطلع عليها العليم الحكيم ” انتهى من ” تفسير السعدي ” (76).
رابعا:
وفي الآية معنى عملي مهم ، مفيد للمسلم في تعامله مع ما يرد عليه من أوامر رب العالمين، ورسوله الكريم، وهو : سرعة الاستجابة لذلك، وعدم التكاسل، أو التباطؤ، أو التلكؤ ، أو التسويف.
ووجه ذلك من الآية: أن الله تعالى قالها : ( فألقاها ) والفاء تدل على “التعقيب” ؛ يعني : أن موسى عليه السلام : قد بادر، والتزم أمر ربه ، وأطاعه ، فألقى عصاه التي لها فيها مآرب، وحاجات، فور سماعه كلام رب العالمين.
وهكذا فليكن شأن المسلم مع أوامر ربه ؛ قال الله تعالى : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا الأحزاب/36 .
على أننا ننصحك أيضا : أن تعرض ما يتبادر لك من المعاني والخواطر، على كلام أهل العلم في تفسير الآية، وأن تكثر من النظر في التفاسير الميسرة القريبة، مثل : “مختصر التفسير” ـ ط مركز تفسير ـ أو” التفسير الميسر”ـ ط وزارة الأوقاف ـ وبعدها ، ومن أهمها: تفسير الشيخ السعدي رحمه الله. فإن ذلك سوف يعينك كثيرا في تدبر معاني الآيات، والوقوف على اللطائف المستنبطة منها .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب