سمعت الإمام يدعو بهذا الدعاء : ” اللهم إن قدرت علينا بالسيئات فبدلها بالحسنات ” ، ويقول هذا الدعاء ورد عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فهل هذا الدعاء صحيح ؟
هل ثبت هذا الدعاء عن عمر بن الخطاب :” اللهم ان قدرت علينا بالسيئات فبدلها بالحسنات “؟.
السؤال: 304941
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
هذا الأثر المنقول عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لم يرد بهذا اللفظ الذي جاء في السؤال ، وإنما ثبت نحوه بلفظ :” اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ، فَأَثْبِتْنِي فِيهَا. وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ الذَّنْبَ وَالشِّقْوَةَ ، فَامْحُنِي وَأَثْبِتْنِي فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ ، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ ، وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ “.
والأثر : أخرجه الطبري في “تفسيره” (13/564) ، والدولابي في “الكنى والأسماء” (635) ، وابن بطة في “الإبانة” (1565) ، واللالكائي في “شرح أصول اعتقاد أهل السنة” (1206) ، جميعا من طريق أبي حكيمة ، قال : سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ: “اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ فَأَثْبِتْنِي فِيهَا ، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ الذَّنْبَ وَالشِّقْوَةَ فَامْحُنِي وَأَثْبِتْنِي فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ ، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ ، وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ “.
وإسناده حسن كما قال ابن كثير في “مسند الفاروق” (2/549) .
فإن أبا حكيمة عصمة ، قال فيه أبو حاتم كما في “الجرح والتعديل” (7/20) :” محله الصدق “. انتهى.
وأبو عثمان النهدي هو عبد الرحمن بن مل ، ثقة مشهور .
ثانيا:
مما يتعلق بهذا الدعاء مسألة مشهورة ، وهي : هل يتغير ما كتب من قدر العبد ، سواء كان في اللوح المحفوظ ، أم في صحف الملائكة ؟ وهل هو عام في كل شيء ، أم يستثنى منه الحياة والموت والسعادة والشقاوة ؟
وهذه المسألة ذكرها الإمام الطبري في “تفسيره” (13/564) ، واستقصى فيها أقوال السلف :
فمنهم من يرى : أن ما كتب لا يتغير مطلقا .
ومنهم من يرى : أن ما يتغير هو ما في أيدي الملائكة ، دون ما كان في اللوح المحفوظ .
ومنهم من يرى : أنه قد يغير الله المكتوب ، سوى الحياة والموت والسعادة والشقاوة .
ومنهم من يرى : أنه لا مانع من أن يغير الله القدر المكتوب مطلقا ، وهذا ينقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، واستظهره القرطبي في “الجامع لأحكام القرآن” (9/329) .
قال شيخ الإسلام في “مجموع الفتاوى” (14/490) :” وَالْجَوَابُ الْمُحَقَّقُ: أَنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ لِلْعَبْدِ أَجَلًا فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ ، فَإِذَا وَصَلَ رَحِمَهُ ، زَادَ فِي ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ ، وَإِنْ عَمِلَ مَا يُوجِبُ النَّقْصَ ، نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ .
وَنَظِيرُ هَذَا : مَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ آدَمَ لَمَّا طَلَبَ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُرِيَهُ صُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ، فَأَرَاهُ إيَّاهُمْ ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ بَصِيصٌ ، فَقَالَ مَنْ هَذَا يَا رَبِّ؟ فَقَالَ ابْنُك دَاوُد . قَالَ: فَكَمْ عُمُرُهُ؟ قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً . قَالَ: وَكَمْ عُمْرِي؟ قَالَ: أَلْفُ سَنَةٍ . قَالَ فَقَدْ وَهَبْت لَهُ مِنْ عُمْرِي سِتِّينَ سَنَةً . فَكُتِبَ عَلَيْهِ كِتَابٌ ، وَشَهِدَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ : قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِي سِتُّونَ سَنَةً . قَالُوا: وَهَبْتهَا لِابْنِك دَاوُد . فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ، فَأَخْرَجُوا الْكِتَابَ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَنَسِيَ آدَمَ ، فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ ، وَجَحَدَ آدَمَ ، فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَمَّلَ لِآدَمَ عُمُرَهُ، ولدَاوُد عُمُرَهُ . فَهَذَا دَاوُد كَانَ عُمُرُهُ الْمَكْتُوبُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ جَعَلَهُ سِتِّينَ.
وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْت كَتَبَتْنِي شَقِيًّا ، فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي سَعِيدًا ؛ فَإِنَّك تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِمَا كَانَ ، وَمَا يَكُونُ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ ، لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا كَتَبَهُ لَهُ ، وَمَا يَزِيدُهُ إيَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا عِلْمَ لَهُمْ ، إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ . وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ كَوْنِهَا ، وَبَعْدَ كَوْنِهَا ؛ فَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ ، وَأَمَّا عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَخْتَلِفُ ، وَلَا يَبْدُو لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ ؛ فَلَا مَحْوَ فِيهِ وَلَا إثْبَاتَ .
وَأَمَّا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ : فَهَلْ فِيهِ مَحْوٌ وَإِثْبَاتٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ” انتهى.
وقال ابن القيم في “شفاء العليل” (ص90) :” ومما ينبغي أن يُعلم : أنه لا يمتنع ، مع الطبع والختم والقفل : حصول الإيمان ؛ بأن يَفُك الذي ختم على القلب وطبع عليه وضرب عليه القفل ، ذلك الختم والطابع والقفل ، ويهديه بعد ضلاله ، ويعلمه بعد جهله ، ويرشده بعد غيه ، ويفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده ، حتى لو كتب على جبينه الشقاوة والكفر ، لم يمتنع أن يمحوها ، ويكتب عليه السعادة والإيمان .
وقرأ قارئ عند عمر بن الخطاب: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ، وعنده شاب فقال : اللهم عليها أقفالها ، ومفاتيحها بيدك ، لا يفتحها سواك . فعرفها له عمر وزادته عنده خيرا .
وكان عمر يقول في دعائه: ” اللهم إن كنت كتبتني شقيا ، فامحني واكتبني سعيدا ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت .
فالرب تعالى فعال لما يريد ، لا حجر عليه ” انتهى.
فمما سبق يتضح أن دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يدل على أن الله يغير ما كتب للعبد من قدر الشقاوة أو السعادة ، إن شاء ، لا معقب لحكمه، ولا راد لفضله سبحانه ، فهو الفعال لما يريد .
ثالثا:
وأما تبديل السيئة بالحسنة بعد وقوعها ، فهذا إنما يكون بالتوبة والأعمال الصالحة .
كما في قوله تعالى : وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) الفرقان/68-70.
ويمكن الاستزادة في هذا المعنى بمراجعة هذه الأجوبة (222686) ، (280741) .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة