دائما نقول إن الأنبياء معصومون من الشرك قبل النبوة ولكن لم أجد على هذا القول دليل بل وجدت أدلة تخالف ذلك. فقد قال الله على إبراهيم [فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ قال بن عباس انه راى كوكبافعبده حتى غاب فلما غاب قال لا أحب الآفلين فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فعبده حتى غاب فلما غاب قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين] . والآية تنص على أنه يبحث عن الإله الحق ثم تبين له أن الكواكب غير صالحة للألوهية ولو كان يناظر قومه لقال الله ( فلما جن عليه الليل رءا قومه يعبدون كوكبا فقال لقومه هذا ربي ) مثلا وأيضا آدم قال الله فيه[هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا] كما هو واضح في الآية حينما جاء إبليس إلى حواء أمرها أن تسمي ابنها عبد الحارث ونبينا لم يكن يعلم باليوم الاخر والوحي وعقيدة الولاء و البراء قبل مبعثه ومعلوم أن هذه من أصول الدين التي لا يكون الإنسان مسلما إلا بها وكيف يعلمها وقد تربى في بيئة وثنية ولو كان يعلمها لم قال الله [ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان] [ووجدك ضالا فهدى] ولم يقل [ووجدك مهتديا فزادك هدى] ثم بالله بعد هذه الأدلة أليس من يقول إن الأنبياء معصومون من الشرك قبل النبوة مكذبا للقرآن
عصمة الأنبياء من الكفر والشرك قبل البعثة ورد الشبهات في ذلك
السؤال: 317529
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
الجمهور على أن الأنبياء معصومون من الكفر قبل البعثة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وكثير من أهل السنة يقولون: إن الأنبياء معصومون من الكفر قبل النبوة، كما قال ذلك ابن الأنباري والزجاج وابن عطية وابن الجوزي والبغوي.
قال البغوي: وأهل الأصول على أن الأنبياء كانوا مؤمنين قبل الوحي” انتهى من تفسير آيات أشكلت (1/ 181).
واستدل الإمام أحمد على ذلك في حق نبينا صلى الله عليه وسلم بحديث العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي عَبْدُ اللهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ: دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى بِي، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ رواه أحمد (17150) وصححه شعيب في تحقيق المسند.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ” وقد استدل الإمام أحمد بحديث العرباض بن سارية هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل على التوحيد منذ نشأ، وردّ بذلك على من زعم غير ذلك.
بل قد يستدل بهذا الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم وُلد نبيا؛ فإن نبوته وجبت له من حين أخذ الميثاق منه، حين استُخرج من صُلب آدم ، فكان نبيا من حينئذ ، لكن كانت مدة خروجه إلى الدنيا متأخرة عن ذلك ، وذلك لا يمنع كونه نبيا قبل خروجه، كمن يولى ولاية ويؤمر بالتصرف فيها في زمن مستقبل؛ فحُكم الولاية ثابت له من حين ولايته ، وإن كان تصرفه يتأخر إلى حين مجيء الوقت.
قال حنبل: قلت لأبي عبد الله يعني أحمد: من زعم أن النبي كان على دين قومه قبل أن يبعث؟ قال: هذا قول سوء، ينبغي لصاحب هذه المقالة أن يُحذر كلامه ولا يجالس.
قلت له: إن جارنا الناقد أبا العباس يقول هذه المقالة؟ قال: قاتله الله، وأي شيء أبقى إذا زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه وهم يعبدون الأصنام؟ قال الله تعالى حاكيا عن عيسى عليه السلام: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] .
قلت له: وزعم أن خديجة كانت على ذلك حين تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية ؟ قال: أما خديجة ، فلا أقول شيئا ، قد كانت أول من آمن به من النساء .
ثم قال: ماذا يُحدِث الناس من الكلام؟! هؤلاء أصحاب الكلام؛ من أحب الكلام لم يُفلح ، سبحان الله لهذا القول . واحتج في ذلك بكلام لم أحفظه.
وذكر أن أمه حين ولدت رأت نورا أضاءت له قصور الشام ، أو ليس هذا عندما ولدت رأت هذا ، وقبل أن يبعث كان طاهرا مطهرا من الأوثان؟ أوليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب؟
ثم قال: “احذروا الكلام ، فإن أصحاب الكلام أمرهم لا يؤول إلى خير” . خرّجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب السنة.
ومراد الإمام أحمد الاستدلال بتقدم البشارة بنبوته من الأنبياء الذين قبله ، وبما شوهد عند ولادته من الآيات ، على أنه كان نبيا من قبل خروجه إلى الدنيا ، وولادته. وهذا هو الذي يدل عليه حديث العرباض بن سارية هذا ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر فيه أن نبوته كانت حاصلة من حين كان آدم منجدلا في طينته، والمراد بالمنجدل: الطَّريح المُلقى على الأرض، قبل نفخ الروح فيه …
ثم استدل صلى الله عليه وسلم على سبق ذكره ، والتنويه باسمه ونبوته ، وشرف قدره لخروجه إلى الدنيا ، بثلاث دلائل – وهو مراده بقوله : ( وسأنبئكم بتأويل ذلك ) – :
الدليل الأول: دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام ، وأشار إلى ما قص الله في كتابه عن إبراهيم وإسماعيل، أنهما قالا عند بناء البيت الذي بمكة: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة/127-129]….
والثاني بشارة عيسى به: وعيسى آخر أنبياء بني إسرائيل، وقد قال تعالى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] .
وقد كان المسيح عليه الصلاة والسلام يحض على اتِّباعه ، ويقول: إنه يُبعث السيف فلا يمنعنكم ذلك منه. وروي عنه أنه قال: سوف أذهب أنا ويأتي الذي بعدي لا يتحمدكم بدعواه ولكن يسل السيف فتدخلونه طوعا وكرها…
الثالث: مما دل على نبوته قبل ظهوره: رؤيا أمه التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وذكر أن أمهات النبيين كذلك يرين.
والرؤيا هنا: إن أريد بها رؤيا المنام، فقد روي أن آمنة بنت وهب رأت في أول حملها بالنبي صلى الله عليه وسلم أنها بشرت بأنه يخرج منها عند ولادتها نور يضيء له قصور الشام.
وروى الطبراني بإسناده عن أبي مريم الكندي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي شيء كان أول من أمر نبوتك؟ قال: ( أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم”، وتلا: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب: 7] الآية، وبشرى المسيح عيسى ابن مريم، ورأت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامها، أنه خرج من بين يديها سراج أضاءت لها منه قصور الشام ) . ثم قال: ( ووراء ذلك ) ، مرتين، أو ثلاثا”.
وإن أريد بها : رؤية عين ، كما قال ابن عباس في قول الله عز وجل: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الاسراء: 60] : إنها رؤية عين أُرِيَها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به، فقد رويَ أن أمه رأت ذلك عند ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن اسحاق: كانت آمنة بنت وهب تُحدث أنها أُتِيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لها: إنك حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي: أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد. وآيةُ ذلك: أن يخرج معه نور يملأ قصور بُصرى من أرض الشام، فإذا وقع، فسميه محمدا، فإن اسمه في التوراة: أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في الإنجيل: أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في القرآن محمد” انتهى من لطائف المعارف/163-172، مختصرا .
وقال السفاريني رحمه الله في لوامع الأنوار (2/ 305): ” تنبيه: لم يكن نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة على دين قومه، بل ولد مسلما مؤمنا، كما قال ابن عقيل وغيره، قال في نهاية المبتدئين: قال ابن عقيل: لم يكن – صلى الله عليه وسلم – على دين سوى الإسلام، ولا كان على دين قومه قط، بل ولد نبينا مؤمنا صالحا على ما كتبه الله، وعلمه من حاله. انتهى”.
ثانيا:
أما قوله تعالى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ الشورى/52 : فمعناه لم يكن لك علم بقراءة الكتب، ولا نزل عليك كتاب من قبل، ولم يكن لك علم بشرائع الإسلام.
قال ابن عاشور: ” وَمَعْنَى عَدَمِ دِرَايَةِ الْكِتَابِ: عَدَمُ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِقِرَاءَةِ كِتَابٍ، أَوْ فَهْمِهِ.
وَمَعْنَى انْتِفَاءِ دِرَايَةِ الْإِيمَانِ: عَدَمُ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ الشَّرْعِيِّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَأُصُولِ الدِّينِ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْإِيمَانُ عَلَى مَا يُرَادِفُ الْإِسْلَامَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [الْبَقَرَة: 143]، وَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي يَزِيدُ وَيَنْقُصُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) [المدثر: 31] . فـ ( يزدادَ ) ، فِي مَعْنَى عَدَمِ دِرَايَةِ الْإِيمَانِ؛ انْتِفَاءُ تَعَلُّقِ علم الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. فَانْتِفَاءُ دِرَايَتِهِ بِالْإِيمَانِ ، مِثْلُ انْتِفَاءِ دِرَايَتِهِ بِالْكِتَابِ، أَيِ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ بِحَقَائِقِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: مَا كُنْتَ تَدْرِي، وَلَمْ يَقُلْ: مَا كُنْتَ مُؤْمِنًا.
وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ لَا يَقْتَضِي أَن الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِوُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّةِ إِلَهِيَّتِهِ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ؛ إِذِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ مَعْصُومُونَ مِنَ الشِّرْكِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ ، فَهُمْ مُوَحِّدُونَ لِلَّه، وَنَابِذُونَ لِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ تَفَاصِيلَ الْإِيمَان، وَكَانَ نبيئنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَهْدِ جَاهِلِيَّةِ قَوْمِهِ يَعْلَمُ بُطْلَانَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ قَوْمُهُ يُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَبُطْلَانُ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ عِنْدَهُ ، تُمَحِّضُهُ لِإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ لَا مَحَالَةَ.
وَقَدْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي دَلَائِلِ النُّبُوءَةِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَذَكَرَهُ عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ غَيْرَ مَعْزُوٍّ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا نَشَأْتُ- أَيْ عَقَلْتُ- بُغِّضَتْ إِلَيَّ الْأَوْثَانُ ، وَبُغِّضَ إِلَيَّ الشِّعْرُ، وَلَمْ أَهمَّ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ إِلَّا مَرَّتَيْن، فَعَصَمَنِي اللَّهُ مِنْهُمَا ، ثُمَّ لَمْ أَعُدْ.
وَعَلَى شِدَّةِ مُنَازَعَةِ قُرَيْشٍ إِيَّاهُ فِي أَمْرِ التَّوْحِيدِ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُحَاجُّوهُ بِأَنَّهُ كَانَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ مَعَهُمْ” انتهى من التحرير والتنوير (25/ 152).
ثالثا:
وأما قوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى الضحى/7، فالمراد به : بُعده عن النبوة ، وعن علم تفاصيل الشرائع.
أو: كنتَ غافلا عن الوحي.
قال البغوي رحمه الله في تفسيره (8/ 456): ” قَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ كَيْسَانَ: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا): عَنْ مَعَالِمَ النُّبُوَّةِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، غَافِلًا عَنْهَا؛ فَهَدَاكَ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ: (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يُوسُفَ -3) ، وَقَالَ: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) (الشُّورَى -52) .
وَقِيلَ: ضَالًّا فِي شِعَابِ مَكَّةَ ، فَهَدَاكَ إِلَى جَدِّكَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَرَوَى أَبُو الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَلَّ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ صَبِيٌّ صَغِيرٌ، فَرَآهُ أَبُو جَهْلٍ مُنْصَرِفًا عَنْ أَغْنَامِهِ ، فَرَدَّهُ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ…
وَقِيلَ: وَجَدَكَ ضَالًّا : ضَالَّ نَفْسِكَ ، لَا تَدْرِي مَنْ أَنْتَ، فَعَرَّفَكَ نَفْسَكَ وَحَالَكَ” انتهى.
وقال القاسمي في تفسيره (9/ 492): ” (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) : أي غافلا عما أوحاه إليك من الهدى والفرقان، فهداك إليه ، وجعلك إماما له، كما في آية (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى: 52] .
قال الشهاب: فالضلال مستعار من : (ضل في طريقه) ، إذا سلك طريقا غير موصلة لمقصده ، لعدم ما يوصله للعلوم النافعة، من طريق الاكتساب” انتهى.
خامسا:
وأما قوله تعالى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا : فليس المراد به آدم وحواء، بل من أشرك من ذريتهما.
قال في أضواء البيان (2/ 46): ” قوله تعالى: (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون):
في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء، والقرآن يشهد لأحدهما:
الأول: أن حواء كانت لا يعيش لها ولد، فحملت، فجاءها الشيطان، فقال لها سمي هذا الولد عبد الحارث، فإنه يعيش، والحارث من أسماء الشيطان، فسمته عبد الحارث، فقال تعالى: (فلما آتاهما صالحا) [7 190]، أي ولدا إنسانا ذكرا .
(جعلا له شركاء) : بتسميته عبد الحارث، وقد جاء بنحو هذا حديث مرفوع ، وهو معلول كما أوضحه ابن كثير في تفسيره.
الوجه الثاني: أن معنى الآية : أنه لما آتى آدم وحواء صالحا، كفر به بعد ذلك كثير من ذريتهما، وأسند فعل الذرية إلى آدم وحواء، لأنهما أصل لذريتهما كما قال: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) [7 11] ، أي بتصويرنا لأبيكم آدم لأنه أصلهم، بدليل قوله بعده: (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم).
ويدل لهذا الوجه الأخير أنه تعالى قال بعده: ( فتعالى الله عما يشركون * أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ) [7 190، 191] ، وهذا نص قرآني صريح في أن المراد: المشركون من بني آدم، لا آدم وحواء، واختار هذا الوجه غير واحد لدلالة القرآن عليه، وممن ذهب إليه الحسن البصري، واختاره ابن كثير، والعلم عند الله تعالى” انتهى.
سادسا:
إبراهيم عليه السلام آتاه الله رشده وهو فتى، فأنكر على قومه عبادة الأصنام، ودعاهم إلى عبادة الله وحده، كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ الأنبياء/51، 52
وحديثه عن الشمس والقمر يحتمل أنه كان مع قومه، ويحتمل أنه كان بعد هجرته وانتقاله إلى حرّان حيث كانوا يعبدون الكواكب، وهو ، على كلا الحالين : مناظر لهم، مبين بطلان عبادة الكواكب، ولهذا بادر على الفور بإعلان البراءة من شركهم فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الأنعام/78، 79
فهذا لا يقوله من هو شاك أو متردد أو ناظر، وما علاقة قومه بذلك، لو لم يكن يناظرهم ويقيم الحجة عليهم.
ولهذا قال الله تعقيبا على ذلك: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ الأنعام/83
وهذا يدل على أنه كان في مقام مناظرة، لا نظر.
قال ابن حزم رحمه الله: ” وأما قوله عليه السلام، إذ رأى الكوكب والشمس والقمر: هذا ربي.
فقال قوم: إن إبراهيم عليه السلام قال ذلك محققا، أولَ خروجه من الغار .
وهذا خرافة، موضوعة، مكذوبة، ظاهرة الافتعال، ومن المحال الممتنع أن يبلغ أحد حد التمييز والكلام بمثل هذا، وهو لم ير قط شمسا ولا قمرا ولا كوكبا .
وقد أكذب الله عز وجل هذا الظن الكاذب بقوله الصادق: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ؛ فمحال أن يكون من آتاه الله رشده من قبل ، يدخل في عقله أن الكواكب ربه…
والصحيح من ذلك : أنه عليه السلام إنما قال ذلك موبخا لقومه ، كما قال لهم نحو ذلك في الكبير من الأصنام، ولا فرق ؛ لأنهم كانوا على دين الصابئين، يعبدون الكواكب ويصورون الأصنام على صورها وأسمائها في هياكلهم، ويعيدون لها الأعياد، ويذبحون لها الذبائح، ويقربون لها القرب والقرابين ، ويقولون: إنها تعقل وتدبر ، وتضر وتنفع ، ويقيمون لكل كوكب منها شريعة محدودة، فوبخهم الخليل عليه السلام على ذلك…
ومعاذ الله أن يكون الخليل عليه السلام أشرك قط بربه…
وبرهان قولنا هذا : أن الله تعالى لم يعاتبه على شيء مما ذُكر، ولا عنَّفه على ذلك، بل صدقه تعالى بقوله: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) ” انتهى من “الفصل في الملل والأهواء والنحل” (4 / 17).
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله :” وَالْحَقُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ ، مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْهَيَاكِلِ وَالْأَصْنَامِ ، فَبَيَّنَ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ مَعَ أَبِيهِ خَطَأَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الْأَرْضِيَّةِ ، الَّتِي هِيَ عَلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ السَّمَاوِيَّةِ ، لِيَشْفَعُوا لَهُمْ إِلَى الْخَالِقِ الْعَظِيمِ ، الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَعْبُدُوهُ ، وَإِنَّمَا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِعِبَادَةِ مَلَائِكَتِهِ ، لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ ، وَبَيَّنَ فِي هَذَا الْمَقَامِ خَطَأَهُمْ وَضَلَالَهُمْ فِي عِبَادَةِ الْهَيَاكِلِ ، وَهِيَ الْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ السَّبْعَةُ الْمُتَحَيِّرَةُ ، وَهِيَ: الْقَمَرُ، وَعُطَارِدُ، وَالزَّهْرَةُ، وَالشَّمْسُ ، وَالْمِرِّيخُ، وَالْمُشْتَرَى ، وَزُحَلُ ، وَأَشُدُّهُنَّ إِضَاءَةً وَأَشْرَقُهُنَّ عِنْدَهُمُ الشَّمْسُ ، ثُمَّ الْقَمَرُ، ثُمَّ الزُّهَرَةُ .
فَبَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّ هَذِهِ الزُّهْرَةَ لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ مَقَدَّرَةٌ بِسَيْرٍ مُعَيَّنٍ ، لَا تَزِيغُ عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا ، وَلَا تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا تَصَرُّفًا، بَلْ هِيَ جِرْمٌ مِنَ الْأَجْرَامِ ، خَلَقَهَا اللَّهُ مُنِيرَةً ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الْعَظِيمَة ِ، وَهِيَ تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ ، ثُمَّ تَسِيرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ ، حَتَّى تَغِيبَ عَنِ الْأَبْصَارِ فِيهِ، ثُمَّ تَبْدُو فِي اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ ، وَمِثْلُ هَذِهِ لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ.
ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْقَمَرِ، فَبَيَّنَ فِيهِ مِثْلَ مَا بَيَّنَ فِي النَّجْمِ.
ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الشَّمْسِ كَذَلِكَ. فَلَمَّا انْتَفَتِ الْإِلَهِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الْأَجْرَامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ أَنْوَرُ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْأَبْصَارُ، وَتَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، ( قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) أَيْ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ عِبَادَتِهِنَّ وَمُوَالَاتِهِنَّ ، فَإِنْ كَانَتْ آلِهَةً ، فَكِيدُونِي بِهَا جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونَ، ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ: إِنَّمَا أَعْبُدُ خَالِقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَمُخْتَرِعَهَا وَمُسَخِّرَهَا وَمُقَدِّرَهَا وَمُدَبِّرَهَا، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَإِلَهُهُ ” انتهى من “تفسير ابن كثير” (3/ 292) .
وقال الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: ” قوله: ( هَذَا رَبِّي )، في المواضع الثلاثة : محتمل لأنه كان يظن ذلك، كما روي عن ابن عباس وغيره، ومحتمل لأنه جازم بعدم ربوبية غير الله، ومراده: هذا ربي في زعمكم الباطل، أو أنه حذف أداة استفهام الإنكار، والقرآن يبين بطلان الأول، وصحة الثاني.
أما بطلان الأول: فالله تعالى نفى كون الشرك الماضي عن إبراهيم في قوله: ( وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ، في عدة آيات، ونفي الكون الماضي، يستغرق جميع الزمن الماضي، فثبت أنه لم يتقدم عليه شرك يوما ما.
وأما كونه جازما موقنا بعدم ربوبية غير الله، فقد دل عليه ترتيب قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي ) إلى آخره، ” بالفاء” ، على قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )؛ فدل على أنه قال ذلك موقنا مناظرا ، ومحاجا لهم، كما دل عليه قوله تعالى: ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ) الآية، وقوله: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) الآية، والعلم عند الله تعالى ” انتهى من “أضواء البيان” (2 / 236 – 237).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم (42216) ورقم (248875)
والنصيحة لأخينا السائل أن يحذر الجرأة في إطلاق الأحكام، والخوض فيما لم يتأهل للنظر فيه ، فضلا عن القطع فيه برأي، والإزراء على من قال بغير ما رآه من أهل العلم والديانة . وأن يدع الاشتغال والتنقير عما لا يعود عليه بفائدة، ويجعل شغله فيما يوصله إلى ربه ، ويزيده إيمانا، وفقها ، وعملا صالحا.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة