حكم الاستعانة بالجن في العلاج أو رد المفقودات
الاستعانة بالجن في العلاج أو رد المفقودات ونحو ذلك، محرم في قول أكثر مشايخنا، لأنه شرك، أو ذريعة للشرك، ولو ادعى الجني أنه مسلم، مع أنه قد يكذب في هذا، وليس هذا من التعاون والتآخي؛ لأنه تعاون مع من لا يُرى، ولا يعرف حاله ولا مقصده، وقد يكون مريدا للإغواء والفتنة.
ثم لو كان هذا الطريق مشروعا، لدلّ عليه النبي صلى الله وعليه وسلم، ولاستعان الصحابة بالجن في المعارك، أو في العلاج، أو في جلب الدواء من البلاد البعيدة، أو معرفة أخبار الأعداء، أو غير ذلك؛ فعدم ورود شيء من ذلك بسند صحيح، يدل على أن هذا باب مغلق.
سئل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله عن حكم استخدام الجن من المسلمين في العلاج إذا لزم الأمر؟
فأجاب:"لا ينبغي للمريض استخدام الجن في العلاج، ولا يسألهم، بل يسأل الأطباء المعروفين، وأما اللجوء إلى الجن فلا؛ لأنه وسيلة إلى عبادتهم وتصديقهم؛ لأن في الجن من هو كافر، ومن هو مسلم، ومن هو مبتدع، ولا تعرَف أحوالُهم، فلا ينبغي الاعتماد عليهم، ولا يسألون، ولو تمثلوا لك، بل عليك أن تسأل أهل العلم والطب من الإنس.
وقد ذم الله المشركين بقوله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا الجن/6؛ ولأنه وسيلة للاعتقاد فيهم والشرك، وهو وسيلة لطلب النفع منهم والاستعانة بهم، وذلك كله من الشرك " انتهى من " مجلة الدعوة " (العدد 1602، ربيع الأول 1418 هـ، ص 34 ).
وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله:
"لا يستعان بالجان، لا المسلم منهم ولا الذي يقول إنه مسلم؛ لأنه قد يقول مسلم وهو كذاب من أجل أن يتدخل مع الإنس، فيُسد هذا الباب من أصله، ولا يجوز الاستعانة بالجن ولو قالوا إنهم مسلمون؛ لأن هذا يفتح الباب.
والاستعانة بالغائب لا تجوز سواء كان جنيّاً أو غير جني، وسواء كان مسلماً أو غير مسلم، إنما يستعان بالحاضر الذي يقدر على الإعانة، كما قال تعالى عن موسى: … فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ… القصص/15، هذا حاضر ويقدر على الإغاثة، فلا مانع من هذا في الأمور العادية " انتهى من " السحر والشعوذة " (ص 86، 87 ).
وسئل الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله:
" هل يجوز الذهاب للعلاج عند من يزعم أنه يعالج بمساعدة جن مسلمين؟ وهل هذه المساعدة من الجن للقارئ من الاستعانة الجائزة أو المحرمة؟
فأجاب: "الاستعانة بالجن سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين وسيلة من وسائل الشرك، والاستعانة معناها: طلب الإعانة؛ ولهذا فمن المتقرر عند أهل العلم أنه لا يجوز طلب الإعانة من مسلمي الجن؛ لأن الصحابة – رضوان الله عليهم – لم يطلبوا ذلك منهم، وهم أولى أن تخدمهم الجن، وأن تعينهم.
وأصل الاستعانة بالجن: من أسباب إغراء الإنسي بالتوسل إلى الجني، وبرفعة مقامه، وبالاستمتاع به، وقد قال – جل وعلا -: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام: 128] [الأنعام: 128]، فحصل الاستمتاع – كما قال المفسرون – من الجني بالإنسي: بأن الإنسي يتقرب إليه، ويخضع له، ويذل، ويكون في حاجته، ويحصل الاستمتاع من الإنسي بالجني بأن يخدمه الجني، وقد يكون مع ذلك الاستمتاع ذبح من الإنسي للجني، وتقرب بأنواع العبادات، أو بالكفر بالله – جل وعلا – والعياذ بالله، بإهانة المصحف، أو بامتهانه أو نحو ذلك.
ولهذا نقول: إن تلك الاستعانة بجميع أنواعها لا تجوز، فمنها ما هو شرك – كالاستعانة بشياطين الجن- يعني: الكفار – ومنها ما هو وسيلة إلى الشرك، كالاستعانة بمسلمي الجن.
وبعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن الجن قد تخدم الإنسي. وهذا المقام فيه نظر وتفصيل؛ ذلك أنه – رحمه الله – ذكر في آخر كتاب "النبوات": أن أولياء الله لا يستخدمون الجن إلا بما فعله معهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأن أمرهم، ونهاهم، أي: بالأوامر، والنواهي الشرعية، أما طلب خدمتهم وطلب إعانتهم، فإنه ليس من سجايا أولياء الله، ولا من أفعالهم، قال: مع أنه قد تنفع الجن الإنس، وقد تقدم له بعض الخدمة ونحو ذلك، وهذا صحيح من حيث الواقع.
فالحاصل: أن المقام فيه تفصيل: فإذا كان الاستخدام بطلب الخدمة من الجني المسلم، فهذا وسيلة إلى الشرك، ولا يجوز أن يعالج عند أحد يعرف منه أنه يستخدم الجن المسلمين.
وإذا كانت الجن تخدم بعض الناس بدون طلبه، فإن هذا قد يحصل، لكن لم يكن هذا من خلق أولياء الله، ولا مما سخره الله – جل وعلا – لخاصة عباده، فلا يسلم من هذا حاله من نوع خلل جعلت الجن تكثر من خدمته، وإخباره بالأمور، ونحو ذلك.
فالحاصل: أن هذه الخدمة إذا كانت بطلب منه، فإنها لا تجوز، وهي نوع من أنواع المحرمات؛ لأنها نوع استمتاع، وإذا كانت بغير طلب منه، فينبغي له أن يستعيذ بالله من الشياطين، ويستعيذ بالله من شر مردة الجن؛ لأنه قد يؤدي قبول خبرهم، واعتماده، إلى حصول الأنس بهم، وقد يقوده ذلك الاستخدام إلى التوسل بهم والتوجه إليهم – والعياذ بالله -. " انتهى "التمهيد لشرح كتاب التوحيد" (1/ 615).
وينظر جواب هذه الأسئلة: 11114، 78546، 121234، 6846، 11063.
هل يعتبر المستعين بالجن عرافاً؟
المستعين بالجن المسلم هل يعدّ عرافا، فيحرم سؤاله عن مكان السحر أو عن شيء مفقود، ويحرم تصديقه؟
أكثر أهل العلم على جعله عرافا، وعلى منع سؤاله.
جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (1/410): "س: أحيانا نفقد بعض المال أو الذهب من المنزل ونعتقد أنه سُرق، ونذهب لأحد الأشخاص ويعرف بالمخبر، ونشرح له ذلك، ويوعدنا خيرا، وأحيانا نسترجع المفقود، وأحيانا لا، فما حكم ذهابنا لهؤلاء الأشخاص؟
ج: لا يجوز ذهابكم إليه لأنه كاهن، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن إتيان الكهان ونحوهم وسؤالهم وتصديقهم."
وجاء فيها أيضا (1/411): "س: قلتم في سؤال سابق لي وجوابه إن الذهاب إلى المخبر لا يجوز لأنه كاهن. أود أن أشير هنا أن الأشخاص الذين نذهب لهم معروفون بتمسكهم بتعاليم الدين الحنيف، ولا يقرأون غير القرآن والأحاديث الشريفة في مثل تلك المسائل التي ذكرتها في سؤالي، فما حكم ذهابنا إليهم؟
ج: مجرد قراءة القرآن والأحاديث لا يُعرف به مكان المفقود، ولا يسترجع به، ومن ذهب إلى من يدعي معرفة مكان المفقود بمجرد قراءة القرآن والأحاديث، فهو ملتجئ إلى كاهن دجال، ولو ادعى أنه صالح متمسك بالدين، وقد يتظاهر بقراءة القرآن والحديث الشريف للتضليل والتلبيس، وهم في الباطن من الكهنة والعرافين." انتهى.
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك حفظه الله:
ترك جدنا تركة مخفية في بيت لنا قديم بحثنا عنها ولم نجدها، وتعرفت على شخص أكد وجودها وأنه يستطيع إخراجها، علماً أنه يستخدم الجن، لكنه أقسم بالله أنه لا يشرك بالله عندما يستخدمهم وأنه لم يشرك بالله، هل يجوز لي أن أستخدمه في إخراجها؟ علماً أنه قال لي: أنا وأنت نذهب لأحد المشايخ ونسأله عن جواز ذلك من عدمه، ولكنني لم أفعل، علماً أنني سمعت أنه يجوز ذلك إذا لم يكن فيه إضرار بالآخرين، وهو كذلك إذ التركة خاصة بنا وهي كبيرة جداً.
فأجاب: " ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدة أن من أتى كاهناً أو عرافاً، فسأله عن شيء فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. والمعروف أن الكهان إنما يتلقون ما يخبرون به عن الشيطان، مما يسترقه الشيطان من السماء، ومما يطلعون عليه من أحوال الناس.
وعلى ذلك فهذا الذي يدعي أنه يعرف مكان ذلك المال، وأنه يستعين بالجن في معرفة مكان هذا المال أو غيره من الأمور المخفية: الظاهر من حاله أنه كاهن، بل هو كاهن ولو زعم أنه لا يشرك، ولو أقسم على ذلك. فلا يجوز إذاً الاستعانة به على معرفة مكان هذا المال.
ولكن ابحثوا عن أسباب أخرى، وتحروا، لعلكم تعثرون على هذه التركة دون أن تتوسلوا بما حرم الله.
ولهذا نص بعض أهل العلم في تعريف الكاهن أنه الذي يخبر بالمغيبات في المستقبل، ويدل على مكان المسروق وعلى الضالة، فهذا مما يحترفه الكهان ويسألهم الناس فيه.
فالواجب على المسلم أن يحرص على سلامة دينه، ولو فاته ما فاته من أمر الدنيا، والله أعلم." انتهى.
وينظر جواب هذا السؤال 137948.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الكاهن والعراف: من يخبر عن المستقبل، وأما الإخبار بشيء ماض أو حاضر، فليس من ذلك.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وقد التبس على بعض طلبة العلم، فظنوا أنه كل من يخبر عن الغيب، ولو فيما مضى; فهو كاهن، لكن ما مضى، مما يقع في الأرض ليس غيبا مطلقا، بل هو غيب نسبي، مثل ما يقع في المسجد يعد غيبا بالنسبة لمن في الشارع، وليس غيبا بالنسبة لمن في المسجد.
وقد يتصل الإنسان بجني، فيخبره عما حدث في الأرض، ولو كان بعيدا; فيستخدم الجن، لكن ليس على وجه. محرم; فلا يسمى كاهنا; لأن الكاهن من يخبر عن المغيبات في المستقبل" انتهى من "شرح كتاب التوحيد" (1/ 313).
وما أشرتَ إليه من قول شيخ الإسلام في الاستعانة بالجني، فهو قول معروف، لكن لم يعتمده أكثر مشايخنا، وقول شيخ الإسلام ليس على إطلاقه، بل يذكر قيودا عدة، وقد أشار إلى خطر التعامل مع الجن وبَيَّنَ أن تلقي الأخبار عنهم يدخل في الاستمتاع المحرم. قال:
" ومن استمتاع الإنس بالجن استخدامهم في الإخبار بالأمور الغائبة كما يخبر الكهان، فإن في الإنس من له غرض في هذا؛ لما يحصل به من الرياسة والمال وغير ذلك، فإن كان القوم كفارا كما كانت العرب، لم تبال بأن يقال: إنه كاهن، كما كان بعض العرب كهانا، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وفيها كهان، وكان المنافقون يطلبون التحاكم إلى الكهان، وكان أبو أبرق الأسلمي أحد الكهان قبل أن يسلم.
وإن كان القوم مسلمين، لم يُظهر أنه كاهن، بل يجعل ذلك من باب الكرامات وهو من جنس الكهان؛ فإنه لا يخدم الإنسي بهذه الأخبار إلا لما يستمتع به من الإنسي، بأن يطيعه الإنسي في بعض ما يريده: إما في شرك، وإما في فاحشة، وإما في أكل حرام، وإما في قتل نفس بغير حق. فالشياطين لهم غرض فيما نهى الله عنه، من الكفر والفسوق والعصيان، ولهم لذة في الشر والفتن، يحبون ذلك، وإن لم يكن فيه منفعة لهم، وهم يأمرون السارق أن يسرق، ويذهبون إلى أهل المال، فيقولون: فلان سرق متاعكم" انتهى من "مجموع الفتاوى" (13/ 82).
وتأمل قوله: " وإما في قتل نفس بغير حق": فإن بعض الرقاة قد يقتلون جنيا، بتحريض من الجن الذي يستعينون به، وقد لا يكون مستحقا للقتل شرعا.
وقال رحمه الله: " وأما سؤال الجن، وسؤال من يسألهم: فهذا إن كان على وجه التصديق لهم في كل ما يخبرون به، والتعظيم للمسئول: فهو حرام" انتهى من "مجموع الفتاوى" (19/ 62).
وعلى كل حال؛ فالصواب سد هذا الباب مطلقا.
والله أعلم.