قرأت في "البداية والنهاية" لابن كثير كلاما خطيرًا ظننته من دس وكذب الشيعة، لكن بحثت في كثير من النسخ التي حققها شيوخ من أهل السنة والجماعة، مثل الشيخ عبد القادر الأرناووط، والدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، ووجدت نفس الكلام الذي أحسبه طعنا في الصحابة، فهل يمكن أن تفسروه لنا ؟ والنص كالآتي : " وبعث عثمان إلى عمرو يقول له : لا خير لك في المقام عند من يكرهك، فاقدم إلي، فانتقل عمرو بن العاص الى المدينة، وفي نفسه من عثمان أمر عظيم وشر كبير، فكلمه فيما كان من أمره بنفس، وتقاولا في ذلك، وافتخر عمرو بن العاص بأبيه على أبي عثمان وأنه كان أعز منه، فقال له عثمان : دع هذا فإنه من أمر الجاهيلة، وجعل عمرو بن العاص يؤلب الناس على عثمان، وكان بمصر جماعة يبغضون عثمان …" الجزء السابع من كتاب "البداية والنهاية"، سنة 35 من الهجرة. فهل هذا حق أن صحابيا بحجم عمرو بن العاص ألب الناس على ذي النورين عثمان بن عفان؟ وأنه إفتخر بنسبه وتعزى بعزاء الجاهيلة، والذي هو من الأمور الخطيرة التي حرمها رسول الله صل الله عليه وسلم؟
هل شارك عمرو بن العاص في التأليب على عثمان رضي الله عنهما؟
السؤال: 342216
ملخص الجواب
هذا الخبر ضعيف جدا لجهالة راويه وانقطاع سنده. ومع ضعف المرويات التي فيها اتهام عمرو بن العاص رضي الله عنه، فهي أيضا تخالف ما اشتهر من حاله، فمن المعلوم أنه كان بجانب معاوية في مطالبة علي بإقامة عقوبة القصاص على قتلة عثمان رضي الله تعالى عن هؤلاء الصحابة أجمعين.
Table Of Contents
أولا: التعليق على الخبر الوارد في السؤال وأنه ضعيف
المتقرر من صنيع أهل التاريخ في مصنفاتهم؛ هو أنهم يجمعون أثناء سرد الحوادث ما ورد من روايات ولو كانت ضعيفة، ولا يلتزمون ببيان كل ما هو ضعيف وباطل، فمجرد وجود رواية في مصنف تاريخي لا يلزم منه أنها صحيحة، ولا يلزم منه أيضا أن المصنف يعتقد بصدق ما فيها، بل غاية ما في الأمر أنه ساق كل ما وصل إليه من مرويات في الحادثة.
ومنها هذه الرواية التي في السؤال فقد ذكرها ابن كثير رحمه الله تعالى في "البداية والنهاية" (10 / 270)، وقبله الطبري في "التاريخ" (4 / 356)، حيث قال:
" وأما الواقدي فإنه ذكر في سبب مسير المصريين إلى عثمان ونزولهم ذا خشب أمورا كثيرة، منها ما قد تقدم ذكره، ومنها ما أعرضت عن ذكره كراهة مني لبشاعته، ومنها ما ذكر أن عبد الله بن جعفر حدثه عن أبي عون مولى المسور، قال: كان عمرو بن العاص على مصر عاملا لعثمان… " و ذكر الخبر قريبا مما ذكره ابن كثير.
وهو من رواية الواقدي، والواقدي وإن اشتهر بسعة معرفته بالسير والتاريخ، إلا أنه لا يحتج به، خاصة في مثل هذه الأخبار التي تمس أعراض الصحابة ودينهم.
قال النووي رحمه الله تعالى:
" الواقدي رحمه الله ضعيف عند أهل الحديث وغيرهم؛ لا يحتج برواياته المتصلة " انتهى من "المجموع" (1 / 114).
وقال الذهبي رحمه الله تعالى:
" جمع فأوعى، وخلط الغث بالسمين ، والخرز بالدر الثمين؛ فاطرحوه لذلك ، ومع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي ، وأيام الصحابة وأخبارهم…
وقد تقرر أن الواقدي ضعيف ، يحتاج إليه في الغزوات ، والتاريخ ، ونورد آثاره من غير احتجاج…
لا عبرة بتوثيق من وثقه ، إذ قد انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة، وأن حديثه في عداد الواهي رحمه الله " انتهى من "سير اعلام النبلاء" (9 / 454 – 469).
وهذه حال سائر الأخبار التي تطعن في عمرو بن العاص رضي الله عنه، كمثل ما رواه ابن شبة في "تاريخ المدينة" (3 / 1089)، قال:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي غَسَّانُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، قَالَ: كَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ طَعْنًا عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ: " وَاللَّهِ لَقَدْ أَبْغَضْتُ عُثْمَانَ ، وَحَرَّضْتُ عَلَيْهِ حَتَّى الرَّاعِيَ فِي غَنَمِهِ ، وَالسِّقَايَةَ تَحْتَ قِرْبَتِهَا " .
فغسان هذا مجهول.
قال ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى:
" غسان بن عبد الحميد بن عبيد بن سيار القرشى الكنانى…
سألت أبي عنه، فقال: شيخ مدينى نزل البصرة ، مجهول " انتهى من"الجرح والتعديل" (7 / 51).
وهو من طبقة لم تدرك زمن عثمان رضي الله عنه، فلا ندري ممن سمعه.
فالحاصل :
أنه خبر ضعيف جدا لجهالة راويه وانقطاع سنده.
ثانيا: بعد فتنة مقتل عثمان ظهر الكذب وكثر تلفيق الأخبار الباطلة
يجب علينا أن نتنبه إلى أن في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه وما تلاها من التفرق ظهر الكذب في أهل الفتنة ، ولفقوا أخبارا باطلة.
قال ابْنِ سِيرِينَ: " لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ "رواه مسلم في "مقدمة صحيحه" (1 / 15).
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم ) هذه الفتنة يعني بها – والله أعلم -: فتنة قتل عثمان، وفتنة خروج الخوارج على علي ومعاوية؛ فإنهم كفروهما حتى استحلوا الدماء والأموال…
فيعني بذلك – والله أعلم -: أن قتلة عثمان والخوارج لما كانوا فساقا قطعا، واختلطت أخبارهم بأخبار من لم يكن منهم، وجب أن يبحث عن أخبارهم فترد، وعن أخبار غيرهم ممن ليس منهم فتقبل، ثم يجري الحكم في غيرهم من أهل البدع كذلك " انتهى من "المفهم" (1 / 123).
ومع ضعف هذه المرويات التي تتهمه رضي الله عنه، فهي أيضا تخالف ما اشتهر من حاله، فمن المعلوم أنه كان بجانب معاوية في مطالبة علي بإقامة عقوبة القصاص على قتلة عثمان رضي الله تعالى عن هؤلاء الصحابة أجمعين.
فهذه الأخبار لا تتوافق مع حاله وجهاده رضي الله عنه، بل اللائق بحاله أنه كان مجتهدا باحثا عن الحق في مواقفه، كما تشير قصة وفاته، وهي لحظة صدق الإنسان مع نفسه، حيث روى الإمام مسلم (121) عَنِ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ، قَالَ:
" حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، يَبَكِي طَوِيلًا، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟ قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي، وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ، فَقَتَلْتُهُ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي.
قَالَ: مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟
قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.
قَالَ: تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟
قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي.
قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟
وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا.
فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ، وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي".
فقوله: " ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا " يشير بوضوح إلى أنه لم يكن يعلم على جهة اليقين هل أصاب في مواقفه أم لا؟ وهذا إنما يقوله من اجتهد ولم يتعمد مجانبة الصواب.
فعمرو بن العاص كسائر الصحابة رضوان الله عليهم بريئون من دم عثمان رضي الله عنه.
قال النووي رحمه الله تعالى:
" وأما عثمان رضي الله عنه فخلافته صحيحة بالإجماع ، وقتل مظلوما ، وقتلته فسقة؛ لأن موجبات القتل مضبوطة ، ولم يجر منه رضي الله عنه ما يقتضيه، ولم يشارك في قتله أحد من الصحابة.
وإنما قتله همج ورعاع ، من غوغاء القبائل ، وسفلة الأطراف والأرذال ، تحزبوا وقصدوه من مصر ، فعجزت الصحابة الحاضرون عن دفعهم ، فحصروه حتى قتلوه رضي الله عنه " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (15 / 148).
ومن الكتب التي يستحسن مطالعتها في مثل هذه المواضيع، كتاب "تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة" تأليف الدكتور محمد أمحزون.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب