هل الاستغفار له شروط؟
أنواع الاستغفار وشروطه
السؤال: 366413
Table Of Contents
أولا:
معنى الاستغفار
الاستغفار هو طلب المغفرة من الله تعالى، بأي لفظ من ألفاظ الدعاء والطلب .
قال ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (10/76) :" الاستغفار في لسان العرب هو طلب المغفرة من الله تعالى، وسؤاله غفران الذنوب السالفة والاعتراف بها، وكل دعاء كان في هذا المعنى فهو استغفار " انتهى.
وهو من العبوديات العظيمة التي أمر الله بها في كتابه، وأثنى على فاعلها.
قال الله تعالى :(وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )المزمل/20 .
وقال الله تعالى :( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) . الأنفال/33.
أفضل صيغ الاستغفار
وأجل صيغ الاستغفار ، التي ينبغي على العبد حفظها، والمداومة على استغفار به بها، وهي "سيد الاستغفار"، كما سماها نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ هي أخرجه البخاري (6306) من حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ( سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ) قَالَ: (وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ) .
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (295485).
ثانيا:
الاستغفار نوعان: استغفار مُفْرَدٌ ، وَاستغفار مَقْرُونٌ بِالتَّوْبَةِ
وأما ما ورد في السؤال عن شروط الاستغفار ، فجوابه :
أن هذا مبني على توصيف الاستغفار ، هل هو يُعد عبادة مستقلة لا يلزم منه التوبة ، أم إنه لا يمكن وقوعه إلا ملازما للتوبة ، ولا يصح إلا بها ؟
وهذان قولان لأهل العلم .
فمن رأى أنه مجرد دعاء وطلب وذكر، جعله عبودية مستقلة، ودعاء منفردا، يؤجر العبد عليه، وقد يجيب الله طلب العبد فيغفر ذنبه، خاصة إذا صاحب الاستغفارَ خشوعُ القلب وحضوره .
قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (10/318) :" وَأَمَّا الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ، مِنْ غَيْرِ إقْلَاعٍ عَنْهُ: فَهَذَا فِي نَفْسِ الِاسْتِغْفَارِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا تَوْبَةَ مَعَهُ ، وَهُوَ كَاَلَّذِي يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُ الذَّنْبَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ… وَلَا يُقْطَعُ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ، فَإِنَّهُ دَاعٍ دَعْوَةً مُجَرَّدَةً. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو بِدَعْوَةِ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلَّا كَانَ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْجَزَاءِ مِثْلَهَا ؛ وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ مِثْلَهَا . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إذًا نُكْثِرُ قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ ؛ فَمِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ قَدْ تَحْصُلُ مَعَهُ الْمَغْفِرَةُ ، وَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ صَرْفُ شَرٍّ آخَرَ أَوْ حُصُولُ خَيْرٍ آخَرَ، فَهُوَ نَافِعٌ كَمَا يَنْفَعُ كُلُّ دُعَاءٍ .
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: الِاسْتِغْفَارُ مَعَ الْإِصْرَارِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ ، فَهَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَغْفِرُ يَقُولُهُ عَلَى وَجْهِ التَّوْبَةِ، أَوْ يَدَّعِي أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ تَوْبَةٌ وَأَنَّهُ تَائِبٌ بِهَذَا الِاسْتِغْفَارِ؛ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعَ الْإِصْرَارِ لَا يَكُونُ تَائِبًا، فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَالْإِصْرَارَ ضِدَّانِ: الْإِصْرَارُ يُضَادُّ التَّوْبَةَ، لَكِنْ لَا يُضَادُّ الِاسْتِغْفَارَ بِدُونِ التَّوْبَةِ ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (7/488) :" وَقَدْ يُقَالُ: بَلْ الِاسْتِغْفَارُ بِدُونِ التَّوْبَةِ مُمْكِنٌ وَاقِعٌ، وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ؛ فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِغْفَارَ، إذَا كَانَ مَعَ التَّوْبَةِ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ: عَامٌّ فِي كُلِّ تَائِبٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ التَّوْبَةِ، فَيَكُونُ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُسْتَغْفِرِينَ الَّذِينَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ عِنْدَ الِاسْتِغْفَارِ مِنْ الْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ مَا يَمْحُو الذُّنُوبَ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ بِأَنَّ قَوْلَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثَقُلَتْ بِتِلْكَ السَّيِّئَاتِ؛ لَمَّا قَالَهَا بِنَوْعِ مِنْ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ الَّذِي يَمْحُو السَّيِّئَاتِ "انتهى.
وقال ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (1/114) :" قَوْلُهُ : ( ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ ) : عَلَّقَ الْغُفْرَانَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ؛ دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِهِ ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ مِنْ ذُنُوبِهِ تَوْبَةً؛ وَإِلَّا فَالِاسْتِغْفَارُ بِلَا تَوْبَةٍ لَا يُوجِبُ الْغُفْرَانَ …
لَكِنَّ الِاسْتِغْفَارَ بِلَا تَوْبَةٍ: فِيهِ أَجْرٌ، كَغَيْرِهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ "انتهى.
وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/409) :" فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(أَنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ، فَذَكَرَ مِثْلَ الْأَوَّلِ مَرَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ:( قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ).
وَالْمَعْنَى: مَا دَامَ عَلَى هَذَا الْحَالِ، كُلَّمَا أَذْنَبَ اسْتَغْفَرَ .
وَالظَّاهِرُ: أَنَّ مُرَادَهُ الِاسْتِغْفَارُ الْمَقْرُونُ بِعَدَمِ الْإِصْرَارِ ، وَلِهَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ:(مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً) . خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَأَمَّا اسْتِغْفَارُ اللِّسَانِ، مَعَ إِصْرَارِ الْقَلْبِ عَلَى الذَّنْبِ ، فَهُوَ دُعَاءٌ مُجَرَّدٌ؛ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَجَابَهُ ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ .
وَقَدْ يَكُونُ الْإِصْرَارُ مَانِعًا مِنَ الْإِجَابَةِ ، وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: وَيْلٌ لِلَّذِينِ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْمَلُونَ ….
وَقَوْلُ الْقَائِلِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، مَعْنَاهُ: أَطْلُبُ مَغْفِرَتَهُ ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي .
فَالِاسْتِغْفَارُ التَّامُّ الْمُوجِبُ لِلْمَغْفِرَةِ: هُوَ مَا قَارَنَ عَدَمَ الْإِصْرَارِ ، كَمَا مَدَحَ اللَّهُ أَهْلَهُ ، وَوَعَدَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ ، قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَرَةُ اسْتِغْفَارِهِ تَصْحِيحَ تَوْبَتِهِ ، فَهُوَ كَاذِبٌ فِي اسْتِغْفَارِهِ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: اسْتِغْفَارُنَا هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِغْفَارٍ كَثِيرٍ ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ … مِنْ لَفْظَةٍ بَدَرَتْ خَالَفْتُ مَعْنَاهَا
وَكَيْفَ أَرْجُو إِجَابَاتِ الدُّعَاءِ وَقَدْ … سَدَدْتُ بِالذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ مَجْرَاهَا
فَأَفْضَلُ الِاسْتِغْفَارِ مَا اقْتَرَنَ بِهِ تَرْكُ الْإِصْرَارِ ، وَهُوَ حِينَئِذٍ تَوْبَةٌ نَصُوحٌ .
وَإِنْ قَالَ بِلِسَانِهِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَهُوَ غَيْرُ مُقْلِعٍ بِقَلْبِهِ، فَهُوَ دَاعٍ لِلَّهِ بِالْمَغْفِرَةِ، كَمَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ، وَهُوَ حَسَنٌ؛ وَقَدْ يُرْجَى لَهُ الْإِجَابَةُ "انتهى.
وقال القاري في "مرقاة المفاتيح" (4/1618):" وَقَالَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ: الِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ: بِاللِّسَانِ، أَوْ بِالْقَلْبِ، أَوْ بِهِمَا .
الْأَوَّلُ: فِيهِ نَفْعٌ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ السُّكُوتِ، وَلِأَنَّهُ يَعْتَادُ فِعْلَ الْخَيْرِ.
وَالثَّانِي: نَافِعٌ جِدًّا. وَالثَّالِثُ: أَبْلَغُ مِنْهُ .
لَكِنَّهُمَا لَا يُمَحِّصَانِ الذَّنْبَ حَتَّى تُوجَدَ التَّوْبَةُ، فَإِنَّ الْعَاصِيَ الْمُصِرَّ: يَطْلُبُ الْمَغْفِرَةَ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وُجُودَ التَّوْبَةِ مِنْهُ.
قُلْتُ: قَوْلُهُ لَا يُمَحِّصَانِ الذَّنْبَ حَتَّى تُوجَدَ التَّوْبَةُ، مُرَادُهُ: أَنَّهُ لَا يُمَحِّصَانِهِ، قَطْعًا وَجَزْمًا، لَا أَنَّهُ لَا يُمَحِّصَانِهِ أَصْلًا، لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ دُعَاءٌ، وَقَدْ يَسْتَجِيبُ اللَّهُ دُعَاءَ عَبْدِهِ فَيُمَحِّصُ ذَنْبَهُ، وَلِأَنَّ التَّمْحِيصَ قَدْ يَكُونُ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِطَاعَةٍ مِنَ الْعَبْدِ ، أَوْ بِبَلِيَّةٍ فِيهِ " انتهى.
ثالثا:
شروط الاستغفار
على هذا القول، وحيث اعتبرنا الاستغفار عبادة مستقلة ، ودعاء وطلبا ، فحينئذ يشترط فيه ما يشترط في الطاعة المطلقة ، وكذلك ما يشترط في الدعاء .
وقد أخرج الترمذي في "سننه" (3479) ، من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ).
والحديث حسنه الشيخ الألباني في "صحيح الترمذي" (2766) .
وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (11/698) :" وَالْحَسَنَاتُ كُلُّهَا مَشْرُوطٌ فِيهَا الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ، وَمُوَافَقَةُ أَمْرِهِ بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ أَكْبَرِ الْحَسَنَاتِ " انتهى.
وقال ابن حجر في "فتح الباري" (11/100) :" وقال ابن أبي جمرة: مِنْ شُرُوطِ الِاسْتِغْفَارِ صِحَّةُ النِّيَّةِ، وَالتَّوَجُّهُ، وَالْأَدَبُ "انتهى.
ولذا يمكن إجمال شروط الاستغفار بناء على هذا القول فيما يلي :
الإخلاص ، وموافقة السنة ، وأكل الحلال الطيب ، وحضور القلب وخشوعه ، والأدب مع الله حال الاستغفار .
والفريق الثاني يرى أن الاستغفار مستلزم للتوبة ، وبالتالي اشتُرط فيها ما يشترط في التوبة ، وجعلوا المستغفر المصر كاذبا ، لا يُقبل استغفاره .
وكان عمدتهم في الاستدلال على ذلك قول الله تعالى :( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ )آل عمران/135 .
فهنا قُيد الاستغفار النافع بعدم الإصرار ، فحملوا الروايات المطلقة في الأمر بالاستغفار على المقيدة هنا باشتراط عدم الإصرار .
قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (4/210) :" قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الِاسْتِغْفَارُ الْمَطْلُوبُ هُوَ الَّذِي يَحُلُّ عُقَدَ الْإِصْرَارِ، وَيَثْبُتُ مَعْنَاهُ فِي الْجَنَانِ، لَا التَّلَفُّظُ بِاللِّسَانِ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، وَقَلْبُهُ مُصِرٌّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ؛ فَاسْتِغْفَارُهُ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِغْفَارٍ ، وَصَغِيرَتُهُ لَاحِقَةٌ بِالْكَبَائِرِ " انتهى.
وقال ابن القيم في "مدارج السالكين" (1/315) :
" وَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ فَهُوَ نَوْعَانِ: مُفْرَدٌ ، وَمَقْرُونٌ بِالتَّوْبَةِ …
فَالِاسْتِغْفَارُ الْمُفْرَدُ: كَالتَّوْبَةِ ، بَلْ هُوَ التَّوْبَةُ بِعَيْنِهَا ، مَعَ تَضَمُّنِهِ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ ، وَهُوَ مَحْوُ الذَّنْبِ ، وَإِزَالَةُ أَثَرِهِ ، وَوِقَايَةُ شَرِّهِ ….
وَأَمَّا مَنْ أَصَرَّ عَلَى الذَّنْبِ ، وَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ مَغْفِرَتَهُ ، فَهَذَا لَيْسَ بِاسْتِغْفَارٍ مُطْلَقٍ ، وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ الْعَذَابَ ، فَالِاسْتِغْفَارُ يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ ، وَالتَّوْبَةُ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِغْفَارَ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْآخَرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ .
وَأَمَّا عِنْدَ اقْتِرَانِ إِحْدَى اللَّفْظَتَيْنِ بِالْأُخْرَى ، فَالِاسْتِغْفَارُ: طَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا مَضَى ، وَالتَّوْبَةُ: الرُّجُوعُ، وَطَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا يَخَافُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِ .
فَهَاهُنَا ذَنْبَانِ: ذَنْبٌ قَدْ مَضَى ، فَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ: طَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّهِ ، وَذَنْبٌ يُخَافُ وُقُوعُهُ ، فَالتَّوْبَةُ: الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَهُ ، وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ رُجُوعٌ إِلَيْهِ لِيَقِيَهُ شَرَّ مَا مَضَى ، وَرُجُوعٌ إِلَيْهِ لِيَقِيَهُ شَرَّ مَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِ "انتهى.
وقال ابن حجر الهيتمي في "الفتح المبين" (630) :" وما ذكرناه من أن المراد بالاستغفار: التوبة، لا مجرد لفظه … هو ما ذكره بعضهم ، وهو الموافق للقواعد بالنسبة للكبائر ؛ إذ لا يكفرها إلا التوبة ، بخلاف الصغائر ؛ فإن لها مكفراتٍ أُخر ؛ كاجتناب الكبائر ، والوضوء ، والصلاة ، وغيرها ؛ فلا يبعد أن يكون الاستغفار مكفرًا لها أيضًا .
وينبغي أن يحمل على ذلك أيضًا تقييدُ بعضهم جميع ما جاء في نصوص الاستغفار المطلقة، بما في آية آل عمران من عدم الإصرار ؛ فإنه تعالى وعد فيها المغفرة لمن استغفره من ذنوبه ولم يصر على ما فعل ، قال: فتحمل نصوص الاستغفار المطلقة كلها، على هذا المقيد.
نعم؛ نحو أستغفر اللَّه، واللهم اغفر لي، من غير توبةٍ: دعاءٌ؛ فله حكمه، من أنه قد يُجاب تارةً ، وقد لا يُجاب أُخرى ؛ لأن الإصرار قد يمنع الإجابة كما أفاده مفهوم آية آل عمران السابقة "انتهى.
وقال ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (11/99) :" وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فعلوا ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ قَبُولِ الِاسْتِغْفَارِ: أَنْ يُقْلِعَ الْمُسْتَغْفِرُ عَنِ الذَّنْبِ؛ وَإِلَّا؛ فَالِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ مَعَ التَّلَبُّسِ بِالذَّنْبِ: كَالتَّلَاعُبِ " انتهى.
وقال الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير" (5/110) :" طلب المغفرة بالاستغفار مع الإصرار: طلبُ شيء قد فوت شرطه الذي أعلمه به ربه؛ فهو كالاستهزاء بربه، حيث طلب شيئاً قد شرطه بإقلاعه عنه؛ كأنه يقول: ما شرطه، ليس بشرطه!! قال الغزالي : الاستغفار الذي هو بمجرد اللسان: لا جدوى له " انتهى.
والاستغفار، على هذا القول: يجتمع فيه ثلاثة أمور ، وهي كونه عملا صالحا ، ودعاء وطلبا ، وتوبة ، فيشترط له حينئذ ما يشترط في الثلاث .
فيشترط فيه : ( الإخلاص ، وموافقة السنة ، لأنه من جنس العمل الصالح ، ويشترط فيه أكل الحلال الطيب ، وحضور القلب وخشوعه ، لأنه من جنس الدعاء ، ويشترط فيه الإقلاع عن الذنب ، والندم ، والعزم على عدم العود ، ورد الحقوق ، لأنه إعلان توبة )
ولعل الأقرب أن نقول :
الاستغفار الذي يقال دون حضور قلب ، هو أدنى منازل الذكر والاستغفار والدعاء؛ وإن يكن خيرا من سكوت صاحبه، ومن باب أولى: خيرا من اشتغاله بضده.
وينظر جواب السؤال رقم:(258651).
والاستغفار الذي فيه حضور القلب، واستشعار خشية الله، دون أن يكون فيه استحضار ذنب بعينه يقصد العبد التوبة منه، وإنما هو طلب العبد من الله مغفرة ذنوبه، فهذا دعاء وعمل صالح، يشترط فيه شروط العمل الصالح من الإخلاص والمتابعة، ويشترط فيه كذلك شروط الدعاء المستجاب من حضور القلب، والأكل من الحلال، وقد يُجاب العبد، وقد يدفع عنه شر ، أو يؤجر عليه يوم القيامة .
وأما الاستغفار الذي يقصد به صاحبه التوبة والندم على ذنب ما يسأل الله أن يغفره له ، فهذا يزاد فيه على ما سبق شروط التوبة ، وخاصة عدم الإصرار ، وإلا كان كاذبا ، والله أعلم .
ومن أراد الاستزادة يمكنه مراجعة الأجوبة رقم:(289765)، (184515) .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة