أريد أن أستفسر عن الجنة، لا شيء مستحيل على الله تعالى، وأُمنيتي في الجنة خلق حياة دنيا غير دنيانا هذه، وبحكم أنني فتاة والرجال كثيرون الظلم على النساء، فتمنيت أن يخلق الله بعد دخولنا للجنة دنيا يكون فيها تعاملنا نحن النساء بمثل تعامل الرجال، ونرد ظلمهم، ونعيشهم ماعيشونا، فهل ممكن تتحقق هذه الأُمنية؟
ما حكم تمني المرأة أن تكون في الجنة حياة كالحياة الدنيا يكون للمرأة فيها القوامة؟
السؤال: 383348
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
الثابت من نعيم الجنة أنه يتحقق لأهلها فيها كل ما تشتهيه أنفسهم.
قال الله تعالى: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ الزخرف/71.
وقال الله تعالى : وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ فصلت/31.
أي ما تشتهيه أنفس أهل الجنة، وليس أنفس أهل الدنيا؛ قال الله تعالى:
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ، ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ، لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ق/31 – 35.
أما نفوس أهل الدنيا فقد تشتهي وتريد النقائص والمعايب والمستخبثات، والجنة مطهرة من كل هذا، كما في قوله تعالى:
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الأنعام/127.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
” وقد اختلف في تسمية الجنة بدار السلام، فقيل: السلام هو الله، والجنة داره، وقيل: السلام هو السلامة، والجنة دار السلامة من كل آفة وعيب ونقص، وقيل: سميت “دار السلام”؛ لأن تحيتهم فيها سلام، ولا تنافي بين هذه المعاني كلها ” انتهى. “أحكام أهل الذمة” (1 / 417 – 418).
فأهل الجنة أخلاقهم واحدة كاملة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لاَ يَبُولُونَ وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ، وَلاَ يَتْفِلُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ المِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمْ الأَلُوَّةُ، الأَلنْجُوجُ عُودُ الطِّيبِ، وَأَزْوَاجُهُمُ الحُورُ العِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ رواه البخاري (3327)، ومسلم (2834).
فمن يقيس ما تشتهيه نفوس أهل الجنة على كل شهوات نفوس أهل الدنيا، فقد قاس قياسا باطلا؛ لأن الجنة كاملة، كما سبق.
قال الله تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ العنكبوت/64.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه تعالى:
” وأما الدار الآخرة، فإنها دار ( الْحَيَوَانُ ) أي: الحياة الكاملة ” انتهى. “تفسير السعدي” (ص 635).
وأما الدنيا فناقصة، فلا يقاس الكامل على الناقص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” والغلط في “القياس” يقع من تشبيه الشيء بخلافه، وأخذ القضية الكلية باعتبار القدر المشترك من غير تمييز بين نوعيها، فهذا هو “القياس الفاسد” كقياس الذين قالوا إنما البيع مثل الربا، وقياس إبليس – أي فيما حكاه الله عنه: ( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )-،. ونحو ذلك من الأقيسة الفاسدة التي قال فيها بعض السلف: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. يعني: قياس من يعارض النص ومن قاس قياسا فاسدا، وكل قياس عارض النص فإنه لا يكون إلا فاسدا، وأما القياس الصحيح فهو من الميزان الذي أنزله الله، ولا يكون مخالفا للنص قط، بل موافقا له. ” انتهى. “مجموع الفتاوى” (6 / 299 – 300).
ثانيا:
وبناء على ما سبق؛ فإن رغبة المرأة في أن تشتهي في الجنة حياة تكون لها فيها سلطة على الرجل، لتنتقم من ظلم الرجال في هذه الدنيا؛ فهذه شهوة لنفوس أهل الدنيا المتصفة بالتنافس والغيرة وحب العلو، والتي تستصعب العفو والمغفرة والتجاوز والتغافل؛ وأما الجنة فهي خالية من هذا النقص بل أهلها في سلام وأمن ومحبة ومودة.
قال الله تعالى:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ الحجر/45 – 47.
ثم إن أهل الجنة لا يدخلون الجنة إلا بعد القصاص من بعضهم البعض بسبب مظالم الدنيا، فلا يدخلون الجنة إلا وقد هذّبوا ورضوا وسلمت نفوسهم من الانتقام والبغض.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ رواه البخاري (2440).
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا ، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ رواه البخاري (6534).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَقْتَصُّ الْخَلْقُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى الْجَمَّاءُ مِنْ الْقَرْنَاءِ، وَحَتَّى الذَّرَّةُ مِنْ الذَّرَّةِ رواه أحمد (2 / 363)، وصححه محققو المسند ، والألباني في “السلسلة الصحيحة” (1967).
وهذا التمني الذي ذكر في السؤال ممتنع؛ لأن هذه الحياة التي تتمناها هذه المرأة هل تكون داخل الجنة أم خارجها؟
فإن كانت داخل الجنة، فقد سبق أن أهلها لا غلّ في صدورهم بل كلهم إخوان.
وإما أن تكون خارج الجنة، فهذا أيضا ممتنع؛ لأن أهل الجنة لا يشتهون الخروج منها إلى غيرها، كما في قول الله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ، خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا الكهف/107 – 108.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
” فإن قيل: قد علم أن الجنة كثيرة الخير، فما وجه مدحها بأنهم لا يبغون عنها حولا؟
فالجواب: أن الإنسان قد يجد في الدار الأنيقة معنى لا يوافقه، فيحبّ أن ينتقل إلى دار أخرى، وقد يملّ، والجنة على خلاف ذلك ” انتهى. “زاد المسير” (3 / 114).
ثالثا:
وكذلك المرأة التي تشتهي أن تكون رجلا، أو يكون لها خصائص الرجل وما أعطاه الله من التفضيلات الكونية، أو الشرعية: هذا نقص ومرض قد يلحق نفوس أهل هذه الحياة الدنيا، أما الجنة فهي حياة كاملة، فلا يلحق نساء أهل الجنة هذا النقص.
ثم إن المرأة إذا اشتهت أن تكون في الجنة رجلا؛ لا يخلو أن تكون هذه الشهوة والأمنية إما في هذه الدنيا وإما في الآخرة.
ففي الدنيا، هي أمنية محرمة؛ لأن رغبة المرأة بالتشبه بالرجل أمر محرم وجاء فيه اللعن، كما روى البخاري (5886) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ” لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالمُتَرَجِّلاَتِ مِنَ النِّسَاءِ”.
والجنة تدرك بمخالفة الهوى المحرم لا باتباعه.
قال الله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى النازعات/40 – 41.
وأما إن كنت تقصدين أن هذا الاشتهاء والتمني يكون في الآخرة، فهو ممتنع؛ لأن أهل الجنة طيبة نفوسهم ليس فيها ما يستخبث من رغبات أهل الدنيا.
قال الله تعالى:
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ الزمر/73.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
” ( ف ـ) بسبب طيبكم ( ادْخُلُوهَا خَالِدِينَ )؛ لأنها الدار الطيبة، ولا يليق بها إلا الطيبون ” انتهى. “تفسير السعدي” (ص 730 – 731).
فإذا كان الإنسان قد ابتلي بنقيصة وكان راغبا صادقا في طلب الجنة، وهو يؤمن بأن الله تعالى قادر على كل شيء ويجيب دعوة الداعي، فلماذا إذا يتمنى أن تبقى معه هذه النقيصة في الجنة؟ فلما لا يجتهد ويداوم على دعاء الله تعالى بأن يعافيه منها حتى يدرك الدرجات العالية في الجنة؟!
والمرأة إذا كانت تعاني من مثل هذا الاضطراب، فصبرت ولم ترتكب ما نهى الله تعالى عنه، فإذا دخلت الجنة أرضاها الله تعالى ورضيت.
قال الله تعالى: يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ، وَادْخُلِي جَنَّتِيالفجر/27 – 30.
وقال الله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ البيّنة/7 – 8.
فيزول عنها كل ما تعانيه من شعور محزن.
قال الله تعالى:
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ، الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ فاطر/33 – 35.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه تعالى:
” ( وَ ) لما تم نعيمهم، وكملت لذتهم ( قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) وهذا يشمل كل حزن… ” انتهى. “تفسير السعدي” (ص 690).
والحاصل:
أن الاهتمام بمثل ذلك، والدعاء به: هو من العدوان في الدعاء، واشتهاؤه، اشتهاء لما لا يكون.
والذي يليق بالمسلم والمسلمة مهما كان حالهما أن لا يحملا همّ ما سيكون في الجنة فالعبد لا يكون فيها إلا راضيا مسرورا، بل تكون الهمة متعلقة بالأعمال الموصلة إليها.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب