لماذا سأل الله تعالى ابراهيم – وهو سبحانه يعلم ما في الصدورـ (أَوَلَمْ تُؤْمِن)، فالله تعالى يعلم ما يقصد إبراهيم، فلماذا سأله؟
لماذا سأل الله إبراهيم (أَوَلَمْ تُؤْمِن) وهو يعلم أنه مؤمن؟
السؤال: 389769
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي البقرة/260.
وقول الله تعالى له: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) إيجاب وتقرير، فائدته أن يجيب إبراهيم عليه السلام بهذا الجواب المفيد للسامعين، وقد أقره الله عليه.
فأفاد: أن السؤال عن مثل هذا لأجل طمأنينة القلب وزيادة اليقين لا حرج فيه.
قال النسفي رحمه الله في تفسيره (1/ 215): " وإنما قال له: (أو لم تؤمن)، وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً؛ ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين.
و(بلى)، إيجابا لما بعد النفي، معناه: بلى آمنت، ولكن لأزيد سكوناً وطمأنينة بمُضامَّة علم الضرورة، علمَ الاستدلال. وتظاهرُ الأدلة: أَسْكَنُ للقلوب، وأزيد للبصيرة، فعلمُ الاستدلال يجوز معه التشكيك، بخلاف الضروري" انتهى.
وقال البيضاوي في تفسيره (1/ 157): " (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) بأني قادر على الإِحياء، بإعادة التركيب والحياة؟
قال له ذلك، وقد علم أنه أعرق الناس في الإِيمان؛ ليجيب بما أجاب به، فيعلم السامعون غرضه. (قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، أي: بلى آمنت، ولكن سألت ذلك لأزيد بصيرةً وسكونَ قلب، بمضامة العيان إلى الوحي، أو الاستدلال" انتهى.
وإبراهيم عليه السلام لم يشك، والأنبياء معصومون من ذلك، وإنما أراد زياد اليقين.
قال القرطبي رحمه الله: " وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم": فمعناه: أنه لو كان شاكا، لكنا نحن أحق به؛ ونحن لا نشك، فإبراهيم عليه السلام أحرى ألا يشك. فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم.
والذي روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذلك محض الإيمان": إنما هو في الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام.
وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع، وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به، يدلك على ذلك قوله: (ربي الذي يحيي ويميت) فالشك يبعد على من تثبت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوة والخُلة.
والأنبياء معصومون من الكبائر، ومن الصغائر التي فيها رذيلة؛ إجماعا.
وإذا تأملت سؤاله عليه السلام، وسائر ألفاظ الآية: لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شي موجود، متقرر الوجود عند السائل والمسئول، نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا. ومتى قلت: كيف ثوبك؟ وكيف زيد؟ فإنما السؤال عن حال من أحواله.
وقد تكون" كيف" خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه بكيف، نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي.
و" كيف"، في هذه الآية: إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر…
ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك، فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث.
وقد أخبر الله تعالى أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل فقال: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)، وقال اللعين: (إلا عبادك منهم المخلصين)، وإذا لم يكن له عليهم سلطنة، فكيف يشككهم؟!
وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها، وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترقى من علم اليقين، إلى عين اليقين.
فقوله: (أرني كيف) طلب مشاهدة الكيفية… وليست الألف في قوله: (أولم تؤمن) ألف استفهام، وإنما هي ألف إيجاب وتقرير، كما قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا
والواو واو الحال. و(تؤمن) معناه إيمانا مطلقا، دخل فيه فصل إحياء الموتى. (قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) أي سألتك ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهانا والمعلوم عيانا" انتهى من "تفسير القرطبي" (3/ 298).
وقال الشيخ ابن عثيمين، في تفسير الآية الكريمة: " ومنها: إثبات أن إبراهيم مؤمن بقدرة الله عز وجل على إحياء الموتى؛ لقوله تعالى: قال أو لم تؤمن قال بلى؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا، وبين ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم؛ فأثبت شكاً فينا، وفي إبراهيم، وأننا أحق بالشك من إبراهيم؟ فالجواب أن الحديث لا يراد به هذا المعنى؛ لأن هذا معنًى يخالف الواقع؛ فليس عند الرسول صلى الله عليه وسلم شك في إحياء الموتى؛ وإنما المعنى أن إبراهيم لم يشك؛ فلو قدر أنه يشك فنحن أحق بالشك منه؛ وما دام الشك منتفياً في حقنا فهو في حقه أشد انتفاءً؛ فإذا عُلم أننا الآن نؤمن بأنه تعالى هو القادر، فإبراهيم أولى منا بالإيمان بذلك؛ هذا هو معنى الحديث، ولا يحتمل غيره؛ فإن قلت: لا زال هنا إشكال؛ وهو: هل إبراهيم أكمل إيماناً من محمد صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: لا؛ ولكن قاله صلى الله عليه وسلم على سبيل التواضع؛ ولهذا قرن بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم: ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي؛
فيوسف بقي في السجن بضع سنين، وجاءه رسول الملك يدعوه؛ فقال له: لا أخرج، ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن [يوسف: 50]؛ مع أن غيره لو حبس سبع سنين، وقالوا له: اخرج، فإنه يخرج؛ هذا مقتضى الطبيعة؛ لكن يوسف عليه الصلاة والسلام كان حليماً حازماً؛ قال: لا أخرج حتى تظهر براءتي كاملة؛ فتبين من هذا أنه لا يلزم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا أن يكون إبراهيم أقوى إيماناً". انتهى، من "تفسير سورة البقرة" (3/304-305).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب