0 / 0

كيف يعرف علماء الجرح والتعديل سير الرواة وتاريخهم

السؤال: 389806

حفظ الحديث، لدينا سير الرواة، ولكن كيف نعرف سيرتهم الذاتية؟ فمن قرر أنه ينبغي علينا توثيق السير الذاتية لكل شخص؟ لأنّ الكتب في سير الرواة جاءت متأخرة 200 سنة فأكثر، إذا تقرّر لاحقًا بعد 100 عام، أننا ينبغي أن نعرف السير الذاتية للراوي، ألن نفقد بعض المعلومات عن الرواة؛ لأنه لم يفكّر أحد من قبل في توثيق حياة الرواة؟ كيف نعرف أن حياة الرواة كانت محفوظة وليست مُختَلقة؟ وضّح كيف نعرف حياة الرواة؛ لأنه لم تكن هناك أعمال سابقة في وقتهم مثل التابعون كانت حياتهم موثقة، فكيف يمكن لابن حجر أو أيّ شخص بعد جيل التابعين أو أتباع التابعين معرفة سيرهم الذاتية أو أيّ راوٍ آخر؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

إن علم الجرح والتعديل كانت نشأته مع بداية عصر الرواية، وسايرها في جميع مراحلها، ولم يتخلف عنها؛ لأن هذا العلم ضرب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن النصيحة الواجبة، ولم يترك أهل العلم هذا الواجب في عصر من الأعصار، بل هناك دوما طائفة متفرغة لهذا الواجب الشرعي، بداية من عصر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

قال ابْنِ سِيرِينَ: “لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ” رواه مسلم في “مقدمة صحيحه” (1/15).

قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:

” وقوله: ( فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم ) هذه الفتنة يعني بها – والله أعلم -: فتنة قتل عثمان، وفتنة خروج الخوارج على علي ومعاوية؛ فإنهم كفروهما حتى استحلوا الدماء والأموال…

فيعني بذلك – والله أعلم -: أن قتلة عثمان والخوارج لما كانوا فساقا قطعا، واختلطت أخبارهم بأخبار من لم يكن منهم، وجب أن يُبحث عن أخبارهم فترد، وعن أخبار غيرهم ممن ليس منهم فتقبل، ثم يجري الحكم في غيرهم من أهل البدع كذلك ” انتهى من “المفهم”(1/123).

وقال العلائي رحمه الله تعالى:

” وقول ابن سيرين: “لم يكونوا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم”.

قلت: لأن المبتدعة كذَبت أحاديث كثيرة تشيد بها بدعتها، قال ابن عباس رضي الله عنه -لما بلغه ما وضعه الرافضة من أهل الكوفة على علي رضي الله عنه-: ” قاتلهم الله أي علم أفسدوا”. رواه مسلم في مقدمة صحيحه أيضا.

قال الإمام الشافعي رحمه الله: كان ابن سيرين، وعروة بن الزبير، وطاووس، وإبراهيم النخعي، وغير واحد من التابعين؛ يذهبون إلى أن لا يقبلوا الحديث إلا عن ثقة يعرف ما يروي، ويحفظ، وما رأيت أحدا من أهل الحديث يخالف هذا المذهب” انتهى من”جامع التحصيل” (ص 69– 70).

وتتابع أهل الحديث بعد ذلك على النظر في الرواة والتمييز بينهم.

قال ابن عدي رحمه الله تعالى:

” وقد أقام الله عز وجل قوما من صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم، والتابعين بعدهم، وتابعي التابعين وإلى يومنا هذا من يبين أحوالهم، وينبه على الضعفاء منهم، ويعتبر رواياتهم ليعرف بذلك صحيح الأخبار من سقيمها…

وهم في المرتبة التي يُسْمَع ذلك منهم، ويقبل قولهم فيهم لمعرفتهم بهم، إذ هو علم يدق، ولا يحسنه إلا من فهمه الله ذلك ” انتهى من “الكامل في ضعفاء الرجال” (1/78).

وقال ابن حبان رحمه الله تعالى:

” ثم أخذ مسلكهم – أي مسلك الصحابة – واستن بسنتهم واهتدى بهديهم فيما استنوا من التيقظ في الروايات، جماعة من أهل المدينة، من سادات التابعين منهم: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وسالم بن عبد الله بن عمر… فجدوا في حفظ السنن والرحلة فيها والتفتيش عنها، والتفقه فيها…

ثم أخذ عنهم العلم وتتبع الطرق وانتقاء الرجال، ورحل في جمع السنن جماعة بعدهم، منهم: الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وسعد بن إبراهيم في جماعة معهم من أهل المدينة، إلا أن أكثرهم تيقظًا وأوسعهم حفظًا وأدومهم رحلة وأعلاهم همة الزهري رحمة الله عليه…

ثم أخذ عن هؤلاء مسلك الحديث وانتقاد الرجال وحفظ السنن والقدح في الضعفاء، جماعة من أئمة المسلمين والفقهاء في الدين، منهم: سفيان بن سعيد الثوري، ومالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وحماد بن سلمة، والليث بن سعد، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة في جماعة معهم، إلا أن من أشدهم انتقاءً للسنن وأكثرهم مواظبة عليها، حتى جعلوا ذلك صناعة لهم، لا يشوبونها بشيء آخر ثلاثة أنفس: مالك، والثوري، وشعبة…

ثم أخذ عن هؤلاء بعدهم الرسم في الحديث والتنقير عن الرجال والتفتيش عن الضعفاء والبحث عن أسباب النقل جماعة، منهم: عبد الله بن المبارك، ويحيى بن سعيد القطان، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، ومحمد بن إدريس المطلبي الشافعي في جماعة معهم، إلا أن من أكثرهم تنقيرا عن شأن المحدثين وأتركهم للضعفاء والمتروكين، حتى جعلوا هذا الشأن صناعة لهم لم يتعدوها إلى غيرها، مع لزوم الدين والورع الشديد والتفقه في السنن؛ رجلان: يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي…

ثم أخذ عن هؤلاء مسلك الحديث والاختبار وانتقاء الرجال في الآثار، حتى رحلوا في جمع السنن إلى الأمصار، وفتشوا المدن والأقطار، وأطلقوا على المتروكين الجرح وعلى الضعفاء القدح، وبيّنوا كيفية أحوال الثقات والمدلّسين والأئمة والمتروكين، حتى صاروا يقتدى بهم في الآثار، وأئمة يسلك مسلكهم في الأخبار، جماعة، منهم: أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وعبيد الله بن عمر القواريري، وزهير بن حرب أبو خيثمة في جماعة من أقرانهم، إلا أن من أورعهم في الدين وأكثرهم تفتيشا على المتروكين وألزمهم لهذه الصناعة على دائم الأوقات منهم، كان أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني رحمة الله عليهم أجمعين…

ثم أخذ عن هؤلاء مسلك الانتقاد في الأخبار وانتقاء الرجال في الآثار جماعة، منهم: محمد بن يحيى الهذلي النيسابوري، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وأبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد الرازي، ومحمد بن إسماعيل الجعفي البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، وأبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، في جماعة من أقرانهم، أمعنوا في الحفظ، وأكثروا في الكتابة، وأفرطوا في الرحلة، و واظبوا على السنن والمذاكرة، والتصنيف والمدارسة حتى أخذ عنهم من نشأ من بعدهم من شيوخنا هذا المذهب، وسلكوا هذا المسلك … ” انتهى من”المجروحين” (1/ 38–58).

وقد تناقل أهل الحديث أقوال المعدلين والمجرحين بالأسانيد كنقل الحديث، ونقلوا كذلك شيئا من سير الرواة عمن عاصرهم، إلى أن جاء عصر تصنيف الكتب؛ فأودعوا هذه الأقوال بأسانيدها في كتب مخصصة لهذا العلم، كما صنع البخاري في كتبه كـ “التاريخ الكبير”، وابن سعد في “الطبقات”، وابن أبي حاتم في “الجرح والتعديل” وابن عدي في “الكامل” وغيرهم كثير.

ومع اعتمادهم في الجرح والتعديل على الروايات المنقولة عمن عاصر أولئك الرواة من الأئمة، كذلك اعتمدوا على طريقة ثانية، وهي دراسة أحاديث الراوي، ومقارنتها بأحاديث الثقات المعروفين، لمعرفة مدى أمانته وضبطه وجودة حفظه.

كما في قول الإمام مسلم رحمه الله تعالى:

” وعلامة المنكر في حديث المحدث، إذا ما عُرِضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا، خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك، كان مهجور الحديث، غير مقبوله، ولا مستعمله…

لأن حكم أهل العلم، والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث: أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك، ثم زاد بعد ذلك شيئا ليس عند أصحابه؛ قبلت زيادته.

فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته، وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما، أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس” انتهى من “مقدمة صحيح مسلم” (1/6).

وقال رحمه الله تعالى:

” فبجمع هذه الروايات ومقابلة بعضها ببعض، تتميز صحيحها من سقيمها، وتتبين رواة ضعاف الاخبار من أضدادهم من الحفاظ ” انتهى من “التمييز”(ص209).

وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:

” من الأئمة من لا يوثق من تقدمه حتى يُطَّلع على عدة أحاديث له تكون مستقيمة، وتكثر حتى يغلب على ظنه أن الاستقامة كانت ملكة لذاك الراوي، وهذا كله يدل على أن جل اعتمادهم في التوثيق والجرح إنما هو على سبر حديث الراوي، وقد صرح ابن حبان بأن المسلمين على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح، نص على ذلك في “الثقات”، وذكره ابن حجر في “لسان الميزان” (1/14) واستغربه، ولو تدبر لوجد كثيرا من الأئمة يبنون عليه، فإذا تتبع أحدهم أحاديث الراوي، فوجدها مستقيمة، تدل على صدق وضبط، ولم يبلغه ما يوجب طعنا في دينه وثقه، وربما تجاوز بعضهم هذا كما سلف، وربما يبني بعضهم على هذا حتى في أهل عصره ” انتهى من”التنكيل” (1/256).

ومن جاء بعد ذاك من المتأخرين، فإن عمدتهم في الجرح والتعديل هي هذه الكتب المصنفة في عصر الرواية، كما نلاحظ هذا في كلام مؤلف أشهر كتاب في الجرح والتعديل بعد عصر الرواية، وهو الحافظ المزي في مقدمة كتابه الشهير “تهذيب الكمال”، والذي هو عمدة لمصنفات كثيرة جاءت بعده، كبعض مصنفات الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، حيث قال المزي رحمه الله تعالى:

” واعلم: أن ما كان في هذا الكتاب من أقوال أئمة الجرح والتعديل ونحو ذلك، فعامته منقول من كتاب: “الجرج والتعديل” لأبي محمّد عبد الرحمن بن أَبي حاتم الرازي الحافظ ابن الحافظ، ومن كتاب”الكامل” لأبي أحمد عبد اللّه بن عديّ الجرجاني الحافظ، ومن كتاب “تاريخ بغداد” لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي الحافظ، ومن كتاب “تاريخ دمشق” لأبي القاسم عليّ بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر الدمشقي الحافظ.

وما كان فيه من ذلك منقولا من غير هذه الكتب الأربعة، فهو أقل مما كان فيه من ذلك منقولا منها، أو من بعضها.

ولم نذكر إسناد كل قول من ذلك فيما بيننا وبين قائله خوف التطويل.

وقد ذكرنا من ذلك الشيء بعد الشيء، لئلا يخلو الكتاب من الإسناد؛ على عادة من تقدمنا من الأئمة في ذلك.

وما لم نذكر إسناده فيما بيننا وبين قائله: فما كان من ذلك بصيغة الجزم، فهو مما لا نعلم بإسناده عن قائله المحكي ذلك عنه بأسا، وما كان منه بصيغة التمريض، فربما كان في إسناده إلى قائله ذلك نظر، فمن أراد مراجعة شيء من ذلك أو زيادة اطلاع على حال بعض الرواة المذكورين في هذا الكتاب، فعليه بهذه الأمهات الأربعة…

فمن أراد زيادة اطلاع على ذلك، فعليه بعد هذه الكتب الأربعة بكتاب “الطبقات الكبير” لمحمد بن سعد كاتب الواقدي، وكتاب “التاريخ” لأبي بكر أحمد بن أبي خيثمة زهير بن حرب، وكتاب “الثقات” لأبي حاتم محمّد بن حبان البستي، وكتاب “تاريخ مصر” لابي سعيد عبد الرّحمنِ بن أحمد بن يونس بن عبد الاعلى الصدفي، وكتاب “تاريخ نيسابور” للحاكم أَبي عبد اللّه محمّد بن عبد الله النيسابوري الحافظ، وكتاب “تاريخ أصبهان” لأبي نعيم أحمد بن عبد اللّه بن أحمد الأصبهاني الحافظ، فهذه الكتب العشرة أمهات الكتب المصنفة في هذا الفن ” انتهى من “تهذيب الكمال في أسماء الرجال” (1 /152–154).

ولهذا فإن الراوي الذي لا يقف العلماء المتأخرون على توثيق ولا تجريح له من الأئمة السابقين؛ فإنهم عادة يعدونه: مجهولا، ويردون روايته.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android