لا أريد أن أكون من الذين قيل لهم لا تزكو أنفسكم، لكني عليم بحالي، أنا أعمل أعمالا صالحة، وأدعو، وأجتهد، ولا ألقى من ذلك شيئا، نحن أكثر من يعمل، وأقل من يلقى، هناك نصابون، ومحتالون ومن لا يصلي أبدا، وجميعهم حالهم أفضل من حالنا، صبرت كثيرا، ودعوت كثيرا، وكلما دعوت تزداد المصائب، وإذا كانت الدنيا لا تساوي جناح بعوضة، وأنا أعمل ولا ألقى منها شيئا، فكيف يكون مصيري في الآخرة؟
كنت سابقا أحافظ على كل السنن الرواتب يوميا، وأقرأ القرآن، وأحافظ على الأذكار بعد كل صلاة، وأقوم رمضان كاملا، لكن لم أرى فائدة في الدنيا فكيف بالآخرة؟
انا من سنين أدعو، لكن حالنا حالنا، تركت الدعاء، صرت أخاف، تأتيني وساوس يعني لو دعاءك غير مستجاب يعني عملك ما في منه فائدة، فأنت تتعب على الفاضي، فاترك العمل، ووالله فعلا تعبت، وتركت كل العمل، إلا الصلوات، أتمنى أن أرجع لنفسي القديمة، لكن لم يعد لدي حافز للعمل.
سائل، يقول: كلما أدعو أصاب ببلاء!
السؤال: 392777
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
لبّ الإشكال الذي يجثم على نفسك، هو أن الشيطان وسوس إليك بقياس فاسد ليس بصحيح، وتصور ناقص لحقيقة العبادة والدعاء، ولم تدفعها بما ورد في نصوص الكتاب والسنة ، بل استسلمت لهذه الوساوس، فتمكنت منك.
أولا:
أما القياس الفاسد، فهو قياسك لثواب الآخرة على ثواب الدنيا ، فلما رأيت أن ما تدعو به من متاع الدنيا لم تُعطَه، جعلت هذا دليلا على أن الجزاء في الآخرة قد تحرمه أيضا ، فنزعت من نفسك الرجاء في رحمة الله تعالى وكرمه.
وهذا لا شك أنه من أفسد القياسات.
ومن الأمور التي يتبين بها فساد هذا القياس:
الأمر الأول:
أن هذه الدنيا لم يجعل الله تعالى نعيمها غاية للمؤمن ، بحيث إذا تخلف، تخلف نعيم الآخرة كذلك، بل هي دار ابتلاء وامتحان ، وقد يحرم الله تعالى بعض من يحبهم من زهرة هذه الدنيا، فالمؤمن قد يبتلى بالمصائب ليصبر وترتفع درجته، وقد يحرم بعض ما يتمناه من هذه الدنيا ، لأن الله تعالى يعلم أن هذا الحرمان هو الخير له.
قال الله تعالى:(وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) البقرة/216.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
” بل الذي ينافي الرضا- بالله تعالى وأقداره -: أنه يلح عليه – على الله تعالى -، متحكما عليه، متخيرا عليه ما لم يعلم: هل يرضيه أم لا؟ كمن يلح على ربه في ولاية شخص، أو إغنائه، أو قضاء حاجته؛ فهذا ينافي الرضا، لأنه ليس على يقين أن مرضاة الرب في ذلك ” انتهى من “مدارج السالكين” (3/2033).
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
” من الجهل أن يخفى على الإنسان مراد التكليف، فإنه موضوع على عكس الأغراض.
فينبغي للعاقل أن يأنس بانعكاس الأغراض ، فإن دعا وسأل بلوغ غرض، تعبد الله بالدعاء؛ فإن أُعطِيَ مراده شكر، وإن لم يَنل مراده، فلا ينبغي أن يلح في الطلب ؛ لأن الدنيا ليست لبلوغ الأغراض، وليقل لنفسه: ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ).
ومن أعظم الجهل، أن يمتعض في باطنه لانعكاس أغراضه، وربما اعترض في الباطن، أو ربما قال: حصول غرضي لا يضر، ودعائي لم يستجب!!
وهذا كله دليل على جهله، وقلة إيمانه وتسليمه للحكمة ” انتهى من “صيد الخاطر” (ص 625 – 626).
الأمر الثاني:
أن نعيم الدنيا ليس دليلا على كرامة العبد عند الله تعالى، ولا الفقر دليلا على مهانة العبد.
قال الله تعالى:(فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا… ) الفجر/15 – 17.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
” يقول تعالى منكرا على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله عليه في الرزق ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان. كما قال تعالى: ( أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ).
وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق، يعتقد أن ذلك من الله إهانة له قال الله: ( كَلَّا ) أي: ليس الأمر كما زعم، لا في هذا ولا في هذا، فإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كلٍّ من الحالين، إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرا بأن يصبر” انتهى من “تفسير ابن كثير” (8 /398).
الأمر الثالث :
أن المؤمن إنما يعبد الله تعالى لينال رضاه ، وثواب الآخرة ، أما الدنيا فهي حقيرة عنده ، كما هي حقيرة عند الله .
وقد حذرنا الله تعالى أن نكون مثل هؤلاء الذي يعبدون الله من أجل الدنيا .
قال الله تعالى عن المنافقين : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) التوبة/58.
وقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) الحج/11.
قال ابن كثير رحمه الله :
“قال مجاهد، وقتادة، وغيرهما: عَلَى حَرْفٍ : على شك .
وقال غيرهم: على طرف. ومنه حرف الجبل، أي: طرفه، أي: دخل في الدين على طرف، فإن وجد ما يحبه استقر، وإلا انشمر. [أي : خرج من الدين] .
وروى البخاري عن ابن عباس وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ قال: كان الرجل يَقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاما، ونُتِجَت خيلُه، قال: هذا دين صالح. وإن لم تلد امرأته، ولم تُنتَج خيله قال: هذا دين سوء …
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو المنافق، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت، انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لِمَا صلح من دنياه، فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق، ترك دينه ورجع إلى الكفر” انتهى من “تفسير ابن كثير” (5/400) .
الأمر الرابع :
أن الأنبياء وهم صفوة الخلق، عليهم الصلاة والسلام، لم يسلموا من الابتلاء بالفقر والمرض وأذى أقوامهم لهم ، بل كان لهم من ذلك النصيب الأوفر، وهكذا أتباعهم .
قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:
” أخرج الترمذي، وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص قال: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قال: ( الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ هُوِّنَ عَلَيْهِ … ) الحديث. قال الترمذي: “حسن صحيح”.
وقد ابتلى الله تعالى أيوب بما هو مشهور.
وابتلى يعقوب بفقد ولديه وشدد أثر ذلك على قلبه…
وابتلى محمدا عليه وعليهم الصلاة والسلام بما تراه في أوائل السيرة. فكلّفه أن يدعو قومه إلى ترك ما نشأوا عليه تبعا لآبائهم من الشرك والضلال، ويصارحهم بذلك سرا وجهارا، ليلا ونهارا، ويدور عليهم في نواديهم ومجتمعاتهم وقراهم.
فاستمر على ذلك نحو ثلاث عشرة سنة، وهم يؤذونه أشد الأذى، مع أنه كان قد عاش قبل ذلك أربعين سنة أو فوقها ولا يعرف أن يؤذى، إذ كان من قبيلة شريفة محترمة موقرة، في بيت شريف محترم موقر، ونشأ على أخلاق كريمة احترمه لأجلها الناس ووقّروه. ثم كان مع ذلك على غاية الحياء والغيرة وعزة النفس. ومن كانت هذه حاله يشتدّ عليه غاية الشدة أن يؤذى، ويشق عليه غاية المشقة الإقدام على ما يعرضه لأن يؤذى.
ويتأكد ذلك في جنس ذاك الإيذاء: هذا يسخر منه، وهذا يسبه، وهذا يبصق في وجهه – بأبي هو وأمي -، وهذا يحاول أن يضع رجليه على عنقه إذا سجد لربه، وهذا يضع سلى الجزور على ظهره وهو ساجد، وهذا يأخذ بمجامع ثوبه ويخنقه، وهذا ينخس دابته حتى تلقيه، وهذا عمه يتبعه أنّى ذهب، يؤذيه ويحذر الناس منه ويقول: إنه كذاب، وإنه مجنون. وهؤلاء يغرون به السفهاء، فيرجمونه حتى تسيل رجلاه دما. وهؤلاء يحصرونه وعشيرته مدة طويلة في شعب ليموتوا جوعا…
ومن وجه آخر ابتلى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن قبض أبويه صغيرا، ثم جده، ثم عمه الذي كان يحامي عنه، ثم امرأته التي كانت تؤنسه، وتخفف عنه.
ثم لم يزل البلاء يتعاهده صلى الله عليه وآله وسلم، وتفصيل ذلك يطول. وهذا وهو سيد ولد آدم وأحبهم إلى الله عز وجل.
فتدبر هذا كله لتعلم حق العلم أن ما نتنافس فيه ونتهالك عليه من نعيم الدنيا وجاهها ليس هو بشيء في جانب رضوان الله عز وجل والنعيم الدائم في جواره؛ وأن ما نفر منه من بؤس الدنيا ومكارهها ليس هو بشيء في جانب سخط الله عز وجل وغضبه والخلود في عذاب جهنم.
وفي “الصحيح” من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ ) ” انتهى من “آثار الشيخ عبد الرحمن المعلمي” (11/ 311-313).
الأمر الخامس :
استجابة الله للعبد بما يدعو به من أمور الدنيا لا يلزم أن تكون بنفس ما دعا به.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة، فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعوضه، وقد ورد في ذلك حديث صحيح أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رفعه: ( مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا ).
ولأحمد من حديث أبي هريرة: ( إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَهَا لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ ).
وله في حديث أبي سعيد رفعه: ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا ) وصححه الحاكم ” انتهى من “فتح الباري” (11/ 95–96).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” فالدعوة التي ليس فيها اعتداء يحصل بها المطلوب أو مثله. وهذا غاية الإجابة. فإن المطلوب بعينه قد يكون ممتنعا. أو مفسدا للداعي أو لغيره؛ الداعي جاهل، لا يعلم ما فيه المفسدة عليه، والرب قريب مجيب، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
والكريم الرحيم إذا سئل شيئا بعينه وعلم أنه لا يصلح للعبد إعطاؤه: أعطاه نظيره كما يصنع الوالد بولده إذا طلب منه ما ليس له. فإنه يعطيه من ماله نظيره، ولله المثل الأعلى” انتهى من “مجموع الفتاوى” (14/368).
وينظر جواب السؤال رقم:(229456).
ثانيا:
أما ما غفلت عنه من حقيقة العبادة، هو أن العبد يجب أن يعبد ربه بالخوف والرجاء، فدائما يسيء الظن بنفسه لا بربه سبحانه وتعالى، لأن من شيمة الإنسان الجهل والتقصير.
قال الله تعالى:(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الأعراف/55–56.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
” ( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ) أي: خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه، طمعا في قبولها، وخوفا من ردها، لا دعاء عبد مدل على ربه قد أعجبته نفسه، ونزل نفسه فوق منزلته، أو دعاء من هو غافل لاه ” انتهى من “تفسير السعدي” (ص 292).
وتأمل هذا الفصل النافع، وهذا الحوار البديع الذي عقده الإمام ابن الجوزي، رحمه الله، مع نفسه، حول إجابة الدعاء، وحكم تأخيره:
” رأيت من البلاء: أن المؤمن يدعو فلا يجاب، فيكرر الدعاء، وتطول المدة، ولا يرى أثرًا للإجابة؟
فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي يحتاج إلى الصبر، وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب.
ولقد عرض لي شيء من هذا الجنس؛ فإنه نزلت بي نازلة، فدعوت، وبالغت، والبخل معدوم، فما فائدة تأخير الجواب؟!
فقلت له [يعني: قال للشيطان، لما وسوس له في ذلك] :
اخسأ يا لعين! فما أحتاج إلى تقاضٍ، ولا أرضاك وكيلًا.
ثم عدت إلى نفسي فقلت: إياك ومساكنةَ وسوسته، فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك المقدِّر في محاربة العدو، لكفى في الحكمة.
قالت: فسلِّني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة!
فقلت: قد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك، وللمالك التصرف بالمنع والعطاء، فلا وجه للاعتراض عليه.
والثاني: أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة، فربما رأيت الشيء مصلحة، والحكمة لا تقتضيه، وقد يخفى وجه الحكمة؛ فيما يفعله الطبيب من أشياء تؤذي في الظاهر، يقصد بها المصلحة، فلعل هذا من ذاك.
والثالث: أنه قد يكون التأخير مصلحة، والاستعجال مضرة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: ( لايزال العبد في خير ما لم يستعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي! ) .
والرابع: أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك، فربما يكون في مأكولك شبهة، أو قلبُك وقت الدعاء في غفلة، أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه، فابحثي عن بعض هذه الأسباب، لعلك تقعي بالمقصود …
والخامس: أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب، فربما كان في حصوله زيادة إثم، أو تأخير عن مرتبة خير، فكان المنع أصلح، وقد روي عن بعض السلف: أنه كان يسأل الله الغزو، فهتف به هاتف: إنك إن غزوت، أسرت، وإن أسرت، تنصرت.
والسادس: أنه ربما كان فقد ما فقدته سببًا للوقوف على الباب واللجأ، وحصوله سببًا للاشتغال عن المسؤول. وهذا الظاهر، بدليل أنه لولا هذه النازلة، ما رأيناك على باب اللجأ، فالحق -عز وجل- علم من الخلق اشتغالهم بالبر عنه، فلذعهم في خلال النعم، بعوارض تدفعهم إلى بابه، يستغيثون به، فهذا من النعم في طَيِّ البلاء.
وإنما البلاء المحض ما يشغلك عنه، فأما ما يقيمك بين يديه، ففيه جمالك.
وقد حكي عن يَحْيَى البَكَّاء أنه رأى ربه عز وجل في المنام، فقال: يا رب! كم أدعوك ولا تجيبني؟ فقال: يحيى! إني أحب أن أسمع صوتك.
وإذا تدبرت هذه الأشياء، تشاغلت بما هو أنفع لك من حصول ما فاتك، من رفع خلل، أو اعتذار من زلل، أو وقوف على الباب إلى رب الأرباب. ” انتهى، من “صيد الخاطر” (82-84).
وينظر أيضا للفائدة: جواب السؤال رقم:(204615).
فالحاصل؛ أن عليك أن تعود إلى ما كنت عليه من الاجتهاد في العبادة مع الخوف والرجاء، وأن لا تجعل لهذه الدنيا قيمة إن فاتك شيء منها فلا تتحسر، وعليك أن تتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم وصالح المؤمنين بصبرهم على البلاء، وأن تتعبّد الله تعالى بالصبر على البلاء كما تتعبده بالشكر عند النعم، وأن تتيقن أن الله تعالى لا يضيع أجر العاملين ولو كان مقدار ذرة.
نسأل الله الكريم أن يرزقنا وإياكم التمسك بالحق والثبات عليه.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة