ذكرتم في إحدى فتاواكم أن سيدنا علي والصحابة عموما رضي الله عنهم أجمعين، قد حصل منهم أن اجتهدوا فخالفوا السنة الصحيحة الثابتة، فآمل ذكر أمثلة على ذلك، مع التعليق والشرح.
هل خالف بعض الصحابة السنة النبوية؟!
السؤال: 400129
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
الصحابة رضوان الله عليهم مع عظيم فضلهم وعلو مكانتهم وشدة تحريهم للحق، إلا أنهم لم تثبت لهم العصمة، فربما وقع من بعضهم الخطأ، ولذلك أمروا عند الاختلاف بالتحاكم إلى نصوص الكتاب والسنة.
قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا النساء /59.
قال ابن حزم رحمه الله تعالى:
" قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) والبرهان على أن المراد بهذا الرد إنما هو إلى القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا وإلى كل من يخلق ويُركب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجنة والناس، كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من أتى بعده عليه السلام وقبلنا ولا فرق … " انتهى من "الإحكام" (1/97).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ما من أحد من أعيان الأئمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا لهم أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة ، وهذا باب واسع لا يحصى ، مع أن ذلك لا يغض من أقدارهم ولا يسوغ اتباعهم فيها، كما قال سبحانه: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ).
قال مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم: ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى من "الفتاوى الكبرى" (6/94).
وبسبب عدم عصمتهم لم يكن قولهم حجة في جميع الحالات ، كما سبق تفصيل هذا في جواب السؤال رقم: (229770).
والخطأ الذي قد يصدر من أحدهم بمخالفة السنة الثابتة، هذا الخطأ لا ينقص مقدارهم؛ لأن لهم أعذارهم في هذه الأخطاء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته؛ دقيق ولا جليل؛ فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له من عذر في تركه.
وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة:… " انتهى من "رفع الملام" (20/232) من "مجموع الفتاوى" .
فقد يخالف الصحابي السنة لأنها لم تبلغه.
ومن أمثلة هذا : تحريق علي رضي الله عنه للمرتدين الذين ادعوا فيه الألوهية ورفضوا التوبة.
عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَرَّقَ قَوْمًا، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ. وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ رواه البخاري (3017).
قال الإمام الترمذي بعد روايته لهذا الحديث (1458): " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ فِي المُرْتَدِّ " انتهى.
وقد يترك أحدهم السنة التي بلغته بسبب اجتهاد له في فهمهما ويكون هذا الاجتهاد مجانبا للصواب.
كاجتهاد عثمان وعائشة رضي الله عنهما في إتمام الصلاة في السفر في بعض الأحوال.
روى البخاري (1084)، ومسلم (695) عَنِ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن يَزِيدَ، قال: " صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ".
وروى البخاري (1090)، ومسلم (685) عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " الصَّلاَةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ، وَأُتِمَّتْ صَلاَةُ الحَضَرِ)، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ: مَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ؟ قَالَ: (تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ".
وقد تنوعت أقوال أهل العلم في تحديد هذا التأويل.
وينظر مزيدا من الأمثلة في رسالة "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة