ما المقصود بما وراء عالم العلو؟ هل يعني مكان ما وراء هذا الكون؟
قرأت مرة: يقول الإمام الطحاوي:
“الله وراء الزمان والمكان” بهذه العبارة إذا قصدنا أن الزمان والمكان من خلق الله تعالى، كما أنه لم يكن هناك شيء قبله، ولا يمكن أن يحيط به الزمان والمكان، فهل ستكون هذه فكرة صحيحة؟ وهل ستكون هذه العقيدة موافقة للصواب؟
وأيضا: “مسألة التحديد في حق الله تعالى، أكد ابن تيمية في كتبه أن الله خارج عن الحدود التي نعرفها، ولكن له حد لا يعلمه إلا الله تعالى، فمن قال لابن تيمية أن لله حد لا يعلمه إلا هو بينما لم يخبر الله بذلك في القرآن؟ أليس الله كاملا وأبعد من أي حدود؟
ما معنى أن الله فوق العالم؟
السؤال: 403200
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى فوق جميع مخلوقاته، كما دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف، والعالم مخلوق، والعرش سقف العالم، والله فوق ذلك كله لا يحويه مكان ولا زمان ولا جهات مخلوقة.
وما فوق العالم أو راء العالم جهة عدمية، أي ليس فيها مخلوق، وليست هذه الجهة – العلو – في نفسها شيئا ماديا ملموسا، يحوي ما يكون فيها ، كالظرف والإناء الذي يحوي ما يوضع فيه ، ويحيط به؛ لا، فليس شيء من ذلك هناك؛ بل الله تعالى فوق العالم كله، بما فيه، ومن فيه.
فلو قال إنسان: إن الله ليس في جهة وأراد أنه ليس في جهة مخلوقة تحيط به، فقد أصاب، فإن الله لا يحيط به ، ولا يحويه شيء، سبحانه الكبير المتعال.
وإن أراد أنه ليس فوق العالم، فهذا نفي للعلو الثابت لله تعالى، وهو مؤد لأحد أمرين عظيمين: أن يكون وجود الله في الذهن، لا في الخارج والحقيقة، أو أن يكون هو عين العالم، أي القول بالاتحاد والوحدة.
فكل من نفى علو الذات على العالم حقيقة، فهو بين هذه الأمرين، وكلاهما ضلال مبين، وكفر عظيم.
قال ابن القيم رحمه الله في بيان مذهب الاتحادية: “فإنهم لما أصلوا أن الله تعالى غير مباين لهذا العالم المحسوس، صاروا بين أمرين لا ثالث لهما إلا المكابرة:
أحدهما: أنه معدوم لا وجود له، إذ لو كان موجوداً، لكان إما داخل العالم وإما خارجاً عنه، وهذا معلوم بالضرورة؛ فإنه إذا كان قائماً بنفسه، فإما أن يكون مبايناً للعالم أو محايثاً له، إما داخلاً فيه وإما خارجاً عنه.
الأمر الثاني: أن يكون هو عين هذا العالم، فإنه يصح أن يقال فيه حينئذ: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مبايناً له ولا حالاً فيه؛ إذ هو عينه، والشيء لا ينافي نفسه ولا يحايثها.
فرأوا أن هذا خير من إنكار وجوده والحكم عليه بأنه معدوم، ورأوا أن الفرار من هذا إلى إثبات موجود قائم بنفسه، لا داخل العالم ولا خارجاً، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، ولا مبايناً له ولا محايثاً، ولا فوقه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا خلفه ولا أمامه: فرارٌ إلى ما لا يسيغه عقل ولا تقبله فطرة ولا تأتي به شريعة.
ولا يمكن أن يُقرّ برب هذا شأنه إلا على أحد وجهين لا ثالث لهما:
أحدهما: أن يكون سارياً فيه، حالاً فيه، فهو في كل مكان بذاته، وهو قول جميع الجهمية الأقدمين.
الوجه الثاني: أن يكون وجوده في الذهن لا في الخارج، فيكون وجوده سبحانه وجودا عقلياً؛ إذ لو كان موجوداً في الأعيان، لكان إما عين هذا العالم أو غيره، ولو كان غيره لكان إما بائناً عنه أو حالاً فيه، كلاهما باطل، فثبت أنه عين هذا العالم، فله حينئذ كل اسم حسن قبيح، وكل صفة كمال ونقص، وكل كلام حق وباطل، نعوذ بالله من ذلك” انتهى من “مختصر الصواعق المرسلة”، ص495.
ثانيا:
قال الطحاوي في عقيدته المشهورة: “تعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات” انتهى.
وهذا حق فإن الجهات الست وغيرها من المخلوقات (المبتدعات) لا تحيط به سبحانه، بل هو فوقها وفوق كل مخلوق.
ثالثا:
الحد هو ما يميز المحدود عن غيره، والذات إذا لم يكن لها حد، كانت ذاهبة في العالم مختلطة به، والله منزه عن ذلك، فهو بائن عن خلقه، متميز عنهم، لذاته حد يعلمه هو تعالى، ولا يحده أحد من خلقه، وقد صرح جماعة من الأئمة بإثبات بالحد، كابن المبارك، وأحمد في رواية، وعثمان بن سعيد الدارمي، والخلال، وحرب الكرماني، وإسحاق بن راهويه، وابن بطة، وأبي إسماعيل الأنصاري الهروي، وأبي القاسم ابن منده، وقوام السنة الأصبهاني، والقاضي أبي يعلى، وأبي الحسن ابن الزاغوني، والحافظ أبي العلاء الهمذاني، وغير هؤلاء.
سئل ابن المبارك رحمه الله: “بم نعرف ربنا؟
قال: بأنه على العرش بائن من خلقه.
قيل: بحد؟
قال: بحد”.
رواه الدارمي في “النقض على بشر المريسي”، ص 57 وفي رده على الجهمية، ورواه عبد الله بن أحمد في “السنة” رقم (216)، والبيهقي في “الأسماء والصفات” (2/335).
قال شيخ الإسلام رحمه الله مبيناً وجه تكلم السلف بلفظ الحد: “ولما كان الجهمية يقولون ما مضمونه: أن الخالق لا يتميز عن الخلق، فيجحدون صفاته التي تميز بها، ويجحدون قَدْره … ويقولون: إنه لا يباين غيره، بل إما أن يصفوه بصفة المعدوم فيقولوا: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا كذا ولا كذا، أو يجعلوه حالاً في المخلوقات، أو وجودَ المخلوقات = فبيّن ابن المبارك أن الرب سبحانه وتعالى على عرشه مباين لخلقه، منفصل عنه، وذكر الحد لأن الجهمية كانوا يقولون: ليس له حد، وما لا حد له، لا يباين المخلوقات، ولا يكون فوق العالم لأن ذلك مستلزم للحد” انتهى من “بيان تلبيس الجهمية” (3/42).
والمنازع في ذلك بين أمرين:
1 – أن يقول: إن الله تعالى متميز عن خلقه، ليس داخلاً فيهم ولا متصلاً بهم، ولا ذاهباً في الجهات، وهذا إثبات لمعنى الحد، وهو الحق. فيكون خلافه مع من أثبت الحد خلافا في إثبات اللفظ المعين، أو السكوت عنه.
2 – أو يقول: إنه ذاهب في الجهات، غير متميز عن خلقه، فلا حد له بوجه من الوجوه، وحينئذ إما أن يكون له وجود في الخارج، أو لا وجود له إلا في الذهن، فإن قال: بل له وجود في الخارج، ثم نفى تميزه وبينونته عن الخلق، لزمه القول بالاتحاد، وأن وجود الخالق هو عين وجود المخلوق، كما تقدم.
وإن قال: بل وجوده في الذهن فقط، فهذا عين الكفر الذي هو فوق كفر اليهود والنصاري وعباد الوثن.
والمعطلة يؤول قولهم إلى هذا، وأنه ليس في السماء إله – كما عابهم به السلف-.
ولهذا قال الدارمي رحمه الله: ” باب الحد والعرش. قال أبو سعيد: وادعى المعارض أيضاً أنه ليس لله حد ولا غاية ولا نهاية، وهذا هو الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته، واشتق منها أغلوطاته، وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهماً إليها أحد من العالمين.
فقال له قائل ممن يحاوره: قد علمت مرادك بها أيها الأعجمي، وتعني أن الله لا شيء؛ لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء، إلا وله حد وغاية وصفة، وأن “لا شيء” ليس له حد ولا غاية ولا صفة، فالشيء أبداً موصوف لا محالة. و”لا شيء”: يوصف بلا حد ولا غاية. وقولك: لا حد له، يعني أنه لا شيء.
قال أبو سعيد: والله تعالى له حدّ لا يعلمه أحد غيره، ولا يجوز لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه، ولكن يؤمن بالحد ويكل علم ذلك إلى الله” انتهى من “نقض الدارمي على بشر المريسي” ص 57
وينظر: “مقالة التفويض بين السلف والمتكلمين”، ص 555 – 558
ومن نفى إطلاق “لفظ” الحد من أهل السنة، فلعدم ثبوته في النصوص؛ لكنهم لا ينازعون في إثبات معناه وأنه متميز بائن عن خلقه.
وممن صرح بلفظ البينونة- أي أنه بائن عن خلقه-: ابن المبارك، والمزني، والدارمي، وحرب الكرماني- ونقله عمن أدركه من أهل العلم، من أصحاب الحديث وأهل السنة-، وأبو زرعة وأبو حاتم- ونقلاه عن علماء الأمصار-، ومحمد بن عثمان ابن أبي شيبة، وعبد الله بن أبي جعفر الرازي، وهشام بن عبد الله الرازي الحنفي، والحافظ سنيد بن داود المصيصي، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معاذ الرازي، والحافظ حماد البوشنجي، وإمام الأئمة أبو بكر ابن خزيمة، وأبو القاسم الطبراني محدث الدنيا، وأبو عبد الله ابن بطة العكبري شيخ الحنابلة، والحافظ أبو نعيم الأصبهاني مصنف حلية الأولياء، ومعمر بن زياد الأصفهاني، وشيخ الإسلام أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي.
وينظر: “مقالة التفويض” ص 560.
والطحاوي رحمه الله يثبت أن الله فوق العالم، ثم ينفي الحدود، ومراده الحدود المخلوقه، فالله لا يحده شيء من خلقه.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب