بعث العباس ابنه عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنام وراءه، وعند النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل، فالتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : (متى جئت يا حبيبي ؟)، قال : مذ ساعة، قال : (هل رأيت عندي أحدا؟) قال: نعم، رأيت رجلا، قال : (ذاك جبريل عليه الصلاة والسلام، ولم يره خلق إلا عمي إلا أن يكون نبيا، ولكن أن يجعل ذلك في آخر عمرك).
فهل رأى عبد الله بن عباس سيدنا جبريل في صورته الحقيقية، أم متمثلا في صورة بشر، ولو كان متمثلا في صورة بشر؛ لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم إنه سيصاب بالعمى، فعلى حد علمي هناك بعض الصحابة قد رأوا سيدنا جبريل علي صورة دحية الكلبي ولم يصابوا بالعمى؟
هل فقد ابن عباس رضي الله عنه بصره بسبب رؤيته لجبريل عليه السلام؟
السؤال: 418638
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
هذا الحديث رواه الحاكم في “المستدرك” (3/536)، قال: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، حدثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حدثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَتْنَا زَيْنَبُ بِنْتُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قَالَ: ” بَعَثَ الْعَبَّاسُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَامَ وَرَاءَهُ وَعِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (مَتَى جِئْتَ يَا حَبِيبِي؟)
قَالَ: مُذْ سَاعَةٍ.
قَالَ: (هَلْ رَأَيْتَ عِنْدِي أَحَدًا؟)
قَالَ: نَعَمْ، رَأَيْتُ رَجُلًا.
قَالَ: (ذَاكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَمْ يَرَهُ خَلْقٌ إِلَّا عَمِّي إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، وَلَكِنْ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ فِي آخِرِ عُمُرِكَ)، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ وَفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَاجْعَلْهُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ).
ثم قال الحاكم عقبه: ” هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ” انتهى.
لكن في إسناده زَيْنَبُ بِنْتُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِي، وأبوها: وحالهما مجهول، فلم يرد فيهما توثيق معتبر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” قال ابن القطان: هو – سليمان بن علي – مع شرفه في قومه – لا يعرف حاله في الحديث ” انتهى من “تهذيب التهذيب” (2/104).
ولفظ الحديث يدل على أن ابن عباس رضي الله عنه لم ير جبريل عليه السلام على هيئته الملائكية، وإنما على صورة بشر، كما تدل عبارة: (قَالَ: نَعَمْ، رَأَيْتُ رَجُلًا).
وما ذكر فيه من قصة “العمى” يخالف صحيح الأخبار التي نصت على رؤية جمع من الصحابة لجبريل عليه السلام في صورة رجل، ومع ذلك؛ فلم يصبهم فقد البصر.
كمثل ما ورد في حديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: ” أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: (مَنْ هَذَا؟)
قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ، قال فقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ايْمُ اللَّهِ! مَا حَسِبْتُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ عن جِبْرِيلَ” رواه البخاري (3634)، ومسلم (2451).
ولهذا تعقب الذهبي تصحيح الحاكم بقوله: “بل منكر”.
وينظر: “مختصر استدارك الحافظ الذهبي على مستدرك الحاكم”، لابن الملقن، وحاشية التحقيق (5/2222).
ورواه الطبراني في “المعجم الكبير” (10/292)، قال: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْمِنْهَالُ بْنُ بَحْرٍ أَبُو سَلَمَةَ الْعُقَيْلِيُّ، حدثنا الْعَلَاءُ بْنُ بُرْدٍ، حدثنا الْفَضْلُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ فُرَاتٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ” مَرَرْتُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيَّ ثِيَابٌ بِيضٌ، وَهُوَ يُنَاجِي دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيَّ، وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَا لَا أَعْلَمُ، فَلَمْ أُسَلِّمْ، فَقَالَ (جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ هَذَا؟) قَالَ: هَذا ابْنُ عَمِّي، هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: (مَا أَشَدَّ وَضَحَ ثِيَابِهِ، أَمَا إِنَّ ذُرِّيَّتَهُ سَتَسُودُ بَعْدَهُ، لَوْ سَلَّمَ عَلَيْنَا رَدَدْنَا عَلَيْهِ)، فَلَمَّا رَجَعْتُ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا ابنَ عَبَّاسٍ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُسَلِّمَ؟ قُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي رَأَيْتُكَ تُنَاجِي دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ، فَكَرِهْتُ أَنْ تَنْقَطِعَ عَلَيْكُمَا مُنَاجَاتُكُمَا)، قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (أَمَا إِنَّهُ سَيَذْهَبُ بَصَرُكَ، وَيُرَدُّ عَلَيْكَ فِي مَوْتِكَ).
وهذا إسناد ضعيف، ففيه:
فرات بن السائب، قال فيه البخاري: ” تركوه؛ منكر الحديث”. انتهى من “التاريخ الكبير” (7/ 130).
والعلاء بن برد، مضعف.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
” العلاء بن برد بن سنان الدمشقي، ضعفه أحمد بن حنبل” انتهى من “المغني في الضعفاء” (2/439).
ورواه الطبراني في “المعجم الأوسط” (4/142) وعبد الله ابن الإمام أحمد في “فضائل الصحابة” (2 / 974): عن عَبْد الْعَزِيزِ بْن مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيّ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ” بَعَثَ الْعَبَّاسُ بِعَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ، فَوَجَدَ مَعَهُ رَجُلًا، فرَجَعَ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ، فَقَالَ: (رَأَيْتَهُ؟) قَالَ: نَعَمْ قَالَ: (ذَاكَ جِبْرِيلُ؛ أَمَا إِنَّهُ لَنْ يَمُوتَ حَتَّى يَذْهَبَ بَصَرُهُ، وَيُؤْتَى عِلْمًا).
قال الهيثمي رحمه الله تعالى:
” رواه الطبراني في الأوسط بأسانيد، ورجاله ثقات ” انتهى من “مجمع الزوائد” (9/277).
لكن متن هذا الحديث لم يجعل سبب فقد البصر هو رؤيته لجبريل عليه السلام، وإنما فيه مجرد إخبار بأنه سيفقد بصره.
ورؤيته رضي الله عنه لجبريل عليه السلام في صورة رجل هي ثابتة بإسناد أصح من هذا، فقد روى الإمام أحمد في “فضائل الصحابة” (2/955)، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ عَامِرٍ – أي الشعبي -، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ( قَدْ رَأَيْتُ عِنْدَهُ رَجُلًا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَزْعُمُ ابْنُ عَمِّكَ أَنَّهُ رَأَى عِنْدَكَ رَجُلًا قَالَ: كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ ).
وهذا إسناد صحيح كما قال محقق الكتاب الشيخ وصيّ الله عباس.
ثانيا:
لا يمكن للناس في هذه الحياة رؤية الملائكة على هيئتهم الحقيقية.
قال الإمام الطبري في تفسير قول الله تعالى:
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) الأنعام/9.
قال رحمه الله تعالى:
” يقول تعالى ذكره: ولو جعلنا رسولنا إلى هؤلاء العادلِين بي، القائلين: لولا أنزل على محمّدٍ ملك بتصديقه، ملكًا ينزل عليهم من السماء، يشهد بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم، ويأمرهم باتباعه ( لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا )، يقول: لجعلناه في صورة رجل من البشر، لأنهم لا يقدرون أن يروا الملك في صورته…” انتهى من “تفسير الطبري” (9/162).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الآية السابقة:
” فبين سبحانه أنه لو أنزل ملكا لم يمكنهم أن يروه إلا في صورة بشر، كما كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآه الناس في صورة دحية الكلبي، أو في صورة أعرابي لما أتاه وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، وكذلك لمّا أتوا إبراهيم ولوطا ورأتهم سارة وقوم لوط لم يأتوا إلا في صورة رجال، وكذلك لما أتى جبريل مريم عليها السلام لينفخ فيها أتاها في صورة رجل، قال تعالى: ( فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً ، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً ) ” انتهى من “الرد على المنطقيين” (ص539).
ولمزيد الفائدة تحسن مطالعة جواب السؤال رقم: (70364).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة