أريد أن أعرف كيف للشيطان بعد أن رأي الله ورأي قدرته وعظمته وعبده حق العباده وسمع صوته ومناداته له بأمر صريح وهو السجود لسيدنا آدم عليه أفضل الصلاة والسلام أن يعصي الله هكذا ببساطه ويفسق عن أمر ربه؟؟ بل ليته يكتفي بالعصيان ولكنه تحدي الله صراحة !!! ألا يدع هذا للجنون؟ انا أعلم أنها خطيئة الكبر، لكن الكبر يكون بين البشر وبعضهم، أو من البشر تجاه الله وهم لم يروا الله ولم يسمعوه ولم يروا ملائكته الكرام ولا العظمة و الروعة فوق السموات السبع! كيف لإبليس وهو عالم بمن هو الله وعظمته أن يتجرأ هكذا بكل بساطه أن يعصي أمراً صريحاً لله، بل ويتحداه بإغواء البشر !! سامحوني علي جهلي واستغفر ربي عن زللي لكني أريد أن أعرف لتلك المسألة إجابة واضحه، أريد رداً مقنعاً متعمقاً اكثر من أنها مجرد الغرور والكبر، لا أريد رداً مختصراً من فضلكم يزيد من حيرتي بدلاً من أن يرشدني للحق
أريد أن أرد بهذا الرد علي نفسي أولاً وعلي من يجادلني في ديني، أعتذر عن الإطالة، بارك الله فيكم ونفع بكم، وجزاكم عنا كل الخير
كيف للشيطان أن يعصي الله ويتحداه؟!
السؤال: 426181
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولًا:
اعلم – أيها السائل الكريم – أنه لا يحيط بالنفوس ودقائقها إلا خالقها، ونحن في عالم البشر نقابل بين حين وآخر شأنًا من شؤون تعقيد النفوس هذه، نقف أمامه حائرين؛ كيف كان هذا؟ وكيف يكون؟ لحظات يتخذ الإنسان فيها قرارًا، أو يفعل فعلًا، أو يُقدم على خطوة، ليس لشيء من ذلك مُسَوِّغ، وتظن أنه لو أعيد المشهد ألف مرة، لما فعل هذا الإنسان ما فعل!!
ثانيًا:
يقول المولى تبارك وتعالى في الحديث القدسي: الكبرياءُ ردائي، والعظمةُ إزاري، فمَن نازعَني واحدًا منهُما، قذفتُهُ في النَّارِ أخرجه أبو داواد (4090)، وأحمد (9359).
وهذا الحديث يدل على وجود من قد يتكبر على ربه، وينازعه في كبريائه بفعله.
قال الملا علي القاري رحمه الله: “أي صفتاي المخصوصتان بي ليس لأحد أن يشاركهما معي.
(فمن نازعني واحداً منها)، بأن ادعى أنه موصوف بالكبر والتعظيم: (أُلقيه في جهنم).
ولعل الفرق بينهما: أن الكبرياء متعلق بالذات، والعظمة بالصفات.
والحديث بعينه رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وابن ماجه أيضاً، عن ابن عباس، ولفظهم: (قذفته) ، بدل (ألقيه)” انتهى، من “شرح مسند أبي حنيفة” (1/568).
وإذا رجعت إلى هذه المادة (كبر) في القرآن الكريم، وتأملت مواضع ورودها، لوجدتها واحدا من أعظم أسباب هلاك الأمم، وكفرهم برب العالمين؛ وهل أهلك فرعون وجنوده إلا الاستكبار.
ويكفيك أن تتأمل هذه الآيات الكريمات، في آخر سورة الجاثية، لترى كيف أن “الكبر” و”الاستكبار”: كان العقبة الكبرى، التي حالت بين الكافرين، ودين رب العالمين.
قال الله تعالى:وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الجاثية/27-37.
ثالثًا:
إذا أصيب الشخص بالكبر: فإنه يرد الحق مهما كان واضحا وظاهرا، وتأخذه العزة بالإثم، فيعمى عن الهدى، ويضيع مصلحة نفسه، وإن كانت واضحة للعيان، ويلقي نفسه في المهالك والردى، وإن كان أدنى عقل يرده عنها؛ لكنه لا يراها، لأنه أعمى البصيرة!!
وهذه ليست جريمة إبليس وحده، بل هي جريمة كل كافر، كفر وعادى أنبياء الله ورسله وأولياءه بعد أن تبين له الحق .
فهل كان فرعون وقومه في حاجة إلى مزيد من الآيات ، وموسى عليه السلام يريهم الآيات الواحدة تلو الأخرى؟
كان “الكبر” و”الاستكبار” من وراء ذلك كله. قال الله تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنْ الْمُهْلَكِينَ المؤمنون/45-48 .
وهل كان أبو جهل في حاجة إلى مزيد من الآيات الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد رأى منها ما رأى، وعلم من إعجاز القرآن الكريم ما علم ؟ ولكنه الكبر .
فهذا شأن كل من كذب بالحق بعد أن تبين له ، وهذا شأن أول المتكبرين إبليس ، حيث رد أمر الله وهو الحق ، وتعالى بنفسه ، ورأى أنه خير من آدم عليه السلام .
يقول القرطبي عن إبليس: إنه: “كره السجود في حقه، واستعظمه في حق آدم، فكان ترك السجود لآدم تسفيها لأمر الله وحكمته.
وعن هذا الكبر عبر عليه السلام بقوله: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر) . في رواية فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: (إن الله جميل يحب الجمال الكبر بَطَر الحق ، وغَمْط الناس) . أخرجه مسلم.
ومعنى بطر الحق: تسفيهه وإبطاله. وغمط الناس: الاحتقار لهم والازدراء بهم…
وقد صرح اللعين بهذا المعنى فقال: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} ص/76 {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} الإسراء/61 {قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} الحجر/26 فكفره الله بذلك” انتهى، من “تفسيره” (1/296).
رابعًا:
نعم، أمر إبليس أكثر عجبًا، وأكثر تعقيدًا، فهو – مع الكبر – قد تحدى الله، واختار الخلود في العذاب الأبدي، لكن ذلك ليس بمستحيل الوقوع لا عقلًا ولا شرعًا، فكم رأينا من أناس، اختاروا الكفر والخلود في النار، ومعارضة الرسول، بينما هم – كما يقول الله عز وجل – قد: {جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} النمل/14 ، فأي كبر وحمق يثير الحيرة في النفوس أكثر من هذا، أن يوقن إنسان بصدق الرسول، وأن من أطاع هذا الرسول دخل الجنة ، ومن عصاه دخل النار ، ثم هو يتكبر، ويجحد، ويختار مسيرة لنفسه تهوي به في نار لا يخرج منها.
وإذا كانت الجنة حراما على من في قلبه مثقال ذرة من كبر، لأن ذلك يحمله على رد الحق مهما كان واضحا ، واحتقار الناس؛ فكيف بمن امتلأ قلبه، وفاض، كبرًا ، كإبليس وفرعون وأبي جهل وغيرهم.
فليس بمستغرب ما فعله هؤلاء المتكبرون؛ فإنه يعمي القلوب والبصائر، كما أن الهوى يعمي صاحبه ويصمه، فهذا منه، بل هذا شر الهوى، وأشده على صاحبه، وأعماه له!!
فالخلاصة:
أن كبر إبليس على آدم مألوف لا عجب فيه، وتحديه لربه أمر عجيب ، لكننا نرى من تعقيد النفوس وإقدامها على ما فيه هلاكها مع بصيرتها به؛ ما يجعلنا مع عجبنا من ذلك نراه ممكنًا وواقعا ، ونستعيذ بالله من مسالك الهوى وتعقيد الشر المهلك في نفوس الخلق.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب