هناك إشكال عندي في مسألة القبلة إلى بيت المقدس، حيث قرأت أن اليهود هم من حرفوا القبلة باجتهادهم، لا عن طريق الوحي، ولم تكن قبلة موسى، ولكن هل كان أنبياء بني إسرائيل أيضًا يصلون لبيت المقدس على الرغم من كونها لم تكن قبلة عن طريق الوحي؟ وقد روى الإمام أحمد في مسنده قوله : (إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعن القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها.. إلى آخر الحديث) صححه الألباني، وشعيب الأرناؤوط؛ فهل أفهم من هذا الحديث أن اليهود أضلهم الله عنها فاختاروا بيت المقدس، وأقرهم الله بعدها على ذلك؟ أو أن الله جعل ذلك من أحكام دينهم، مثل يوم السبت فتكون القبلة وحيًا من الله، وليست تحريفًا من اليهود حسب الحديث؟
هل قبلة بيت المقدس كانت من الله أو من تحريف اليهود؟
السؤال: 427618
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
هذا الحديث رواه الإمام أحمد في “المسند” (41 / 481)، قال: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: ” بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَعَلَيْكَ)، قَالَتْ: فَهَمَمْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَتْ: ثُمَّ دَخَلَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَعَلَيْكَ)، قَالَتْ: ثُمَّ دَخَلَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: بَلِ السَّامُ عَلَيْكُمْ وَغَضَبُ اللهِ إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، أَتُحَيُّونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَمْ يُحَيِّهِ بِهِ اللهُ؟ قَالَتْ: فَنَظَرَ إِلَيَّ، فَقَالَ: (مَهْ، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ، قَالُوا قَوْلًا، فَرَدَدْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَضُرَّنَا شَيْءٌ، وَلَزِمَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ: آمِينَ ).
وقال محققو المسند: ” حديث صحيح، علي بن عاصم: وهو الواسطي، وإن كان ضعيفاً، قد توبع، ومحمد بن الأشعث بن قيس: روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في “الثقات” وبقية رجاله ثقات ” انتهى.
وهذا الحديث ينص على أن اليهود لم يتهدوا إلى الحق في السبت والقبلة.
فالسبت إنما أُقروا عليه بسبب عنادهم واختلافهم على أنبيائهم.
قال الله تعالى:
( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) النحل (124).
روى البخاري (876) ومسلم (855) عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ اليَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ).
ذكر أهل العلم أن الله تعالى أرشدهم إلى يوم الجمعة، فعارضوا الوحي بعقولهم واختاروا يوم السبت، فكتب عليهم وحرموا من الفضل.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” … وقال النووي: يمكن أن يكونوا أمروا به صريحا، فاختلفوا هل يلزم تعينه أم يسوغ إبداله بيوم آخر؟ فاجتهدوا في ذلك فاخطؤوا. انتهى.
ويشهد له ما رواه الطبري بإسناد صحيح عن مجاهد في قوله تعالى: ( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ). قال: أرادوا الجمعة فاخطؤوا وأخذوا السبت مكانه.
ويحتمل أن يراد بالاختلاف اختلاف اليهود والنصارى في ذلك، وقد روى ابن أبي حاتم من طريق أسباط بن نصر عن السدي التصريح بأنهم فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فأبوا، ولفظه: ( إن الله فرض على اليهود الجمعة فأبوا وقالوا: يا موسى إن الله لم يخلق يوم السبت شيئا فاجعله لنا، فجعل عليهم ) ، وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم في قوله تعالى: ( وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ) وغير ذلك، وكيف لا وهم القائلون ( سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) ” انتهى من “فتح الباري” (2/355).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
” ( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ).
لا شك أن الله تعالى شرع في كل ملة يوما من الأسبوع، يجتمع الناس فيه للعبادة، فشرع تعالى لهذه الأمة يوم الجمعة؛ لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة، واجتمعت الناس فيه وتمت النعمة على عباده.
ويقال: إنه تعالى شرع ذلك لبني إسرائيل على لسان موسى، فعدلوا عنه واختاروا السبت؛ لأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئا من المخلوقات الذي كمل خلقها يوم الجمعة، فألزمهم تعالى به في شريعة التوراة، ووصاهم أن يتمسكوا به وأن يحافظوا عليه، مع أمره إياهم بمتابعة محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعثه، وأخذه مواثيقهم وعهودهم على ذلك؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ).
قال مجاهد: اتبعوه وتركوا الجمعة.
ثم إنهم لم يزالوا متمسكين به، حتى بعث الله عيسى ابن مريم، فيقال: إنه حولهم إلى يوم الأحد. ويقال إنه: لم يترك شريعة التوراة إلا ما نسخ من بعض أحكامها وإنه لم] يزل محافظا على السبت حتى رفع، وإن النصارى بعده في زمن قسطنطين هم الذين تحولوا إلى يوم الأحد، مخالفة لليهود، وتحولوا إلى الصلاة شرقا عن الصخرة، والله أعلم. ” انتهى من “تفسير ابن كثير” (4 / 612).
وأما القبلة؛ فلم يرد في وحينا ولا في كتب أهل الكتاب ما يدل على أن استقبال بيت المقدس كان عن وحي وأمر من الله تعالى، فالله أعلم بحال ذلك، ويحتمل أن تكون من اجتهادهم فأقروا عليها كما أقروا على السبت.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
” استقبال أهل الكتاب لقبلتهم لم يكن من جهة الوحي والتوقيف من الله، بل كان عن مشورة منهم واجتهاد.
أما النصارى؛ فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق أبدا، وهم مقرُّون بذلك، ومقرُّون أن قبله المسيح كانت قبلة بني إسرائيل، وهي الصخرة، وإنما وضع لهم شيوخهم وأسلافهم هذه القبلة، وهم يعتذرون عنهم بأن المسيح فوَّض إليهم التحليل والتحريم وشرع الأحكام، وأن ما حلَّلوه وحرَّموه فقد حلله هو وحرمه في السماء، فهم مع اليهود متفقون على أن الله لم يشرع استقبال المشرق على لسان رسوله أبدا، والمسلمون شاهدون عليهم بذلك.
وأما قبلة اليهود؛ فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة ألبتَّةَ، وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا، فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه، فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة ” انتهى من “البدائع والفوائد” (4/1605).
وقال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى:
” واعلم أن اليهود يستقبلون بيت المقدس، وليس هذا الاستقبال من أصل دينهم … فلا تجد في أسفار التوراة الخمسة ذكرا لاستقبال جهة معينة في عبادة الله تعالى والصلاة والدعاء …
وأما النصارى فإنهم لم يقع في إنجيلهم تغيير لما كان عليه اليهود في أمر الاستقبال في الصلاة، ولا تعيين جهة معينة، ولكنهم لما وجدوا الروم يجعلون أبواب هياكلهم مستقبلة لمشرق الشمس، بحيث تدخل أشعة الشمس عند طلوعها من باب الهيكل، وتقع على الصنم صاحب الهيكل الموضوع في منتهى الهيكل؛ عكسوا ذلك، فجعلوا أبواب الكنائس إلى الغرب، وبذلك يكون المذبح إلى الغرب، والمصلون مستقبلين الشرق، وذكر الخفاجي أن بولس هو الذي أمرهم بذلك.
فهذه حالة النصارى في وقت نزول الآية، ثم إن النصارى من العصور الوسطى إلى الآن توسعوا، فتركوا استقبال جهة معينة، فلذلك تكون كنائسهم مختلفة الاتجاه، وكذلك المذابح المتعددة في الكنيسة الواحدة ” انتهى من “التحرير والتنوير” (2 / 9 — 10).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب