0 / 0

ما حكم نقل الفتوى من كتب السلف المتقدمين والعمل بها؟

السؤال: 429123

ما حكم من يقوم بأخذ الفتاوى من كتب السلف القديم بدون أن ينقلها له عالم ثقة؟ وإن كان جائزًا، فهلا أرشدتمونا لبعض الكتب النافعة في هذا؟

ملخص الجواب

يجوز نقل الفتاوى من كتب أهل العلم المتقدمين لمن كانت لديه القدرة العلمية والملكة التي تؤهله للنظر فيها، مع مراعاة تغير الفتوى المبنية على الأعراف والعوائد، ومن لم يكن كذلك فالواجب في حقه سؤال أهل العلم الثقات في زمانه، فإن لم يجد جاز له النظر في فتاوى أهل العلم المتأخرين والنقل عنهم كناقل ومبلغ.

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولاً: فضل السلف وجوب اتباعهم والسير على نهجهم.

السلف الصالح هم الجيل الذي زكاه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ البخاري (2652).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والخير كل الخير في اتباع السلف الصالح" انتهى من "مجموع الفتاوى"(6/ 505). 

وعلمهم هو الأصل الذي بنى عليه من بعدهم مسائل العلم، وأبواب الفقه، واستخرجوا منه أدوات الاستنباط، وذلك لما ميزهم الله به من العلم والفضل، ولقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقيهم العلم عنه، وقد نص الأئمة على ذلك.

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "قف ‌حيث ‌وقف ‌القوم، وقل كما قالوا، واسكت كما سكتوا؛ فإنهم عن علم وقفوا، وببصر ناقد كفوا…، ولقد تكلموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي" انتهى من "إعلام الموقعين" (4/ 115).

وقال الإمام أحمد رحمه الله ناصحًا تلميذَه أبا الحسن الميموني: "إيّاك أن تتكَّلم في مسألة ليس لك فيها إمام" انظر: "سير أعلام النبلاء" (11/296).

 

ثانياً: نقل الفتوى من كتب السلف والعمل بها.

يجوز لأهل العلم المتأخرين ممن لم يبلغوا درجة الاجتهاد: اتباع أقوال الأئمة المتقدمين، والأخذ باجتهاداتهم وتقليدهم، سواء كان المتبوعون من أهل القرون الثلاثة الأولى المشهود لهم بالخيرية، أو كانوا ممن بعدهم من أئمة الهدى والدين، الذين ساروا على منهاج السابقين، ونقحوا علومهم، ونقلوها للأمة.

فقد ذهب جماهير أهل العلم إلى جواز تقليد المجتهد الميت، وحكاه بعضهم إجماعاً.

قال النووي رحمه الله: "وموت المجتهد: هل يخرجه عن أن يُقلَّد ويُؤخذ بقوله؟

وجهان: الصحيح: أنه لا يخرجه، بل يجوز تقليده، كما يعمل بشهادة الشاهد بعد موته، ولأنه لو بطل قوله بموته، لبطل الإجماع بموت المجمعين" انتهى من "روضة الطالبين وعمدة المفتين" (11/99).

وقال ابن القيم رحمه الله: "هل يجوز للحي ‌تقليد الميت، والعمل بفتواه، من غير اعتبارها بالدليل الموجب لصحة العمل بها؟

فيه وجهان: …، والثاني: الجواز، وعليه عمل جميع المقلِّدين في أقطار الأرض، وخيار ما بأيديهم من التقليد: ‌تقليد ‌الأموات.

ومن منع منهم ‌تقليد الميت: فإنما هو شيء يقوله بلسانه، وعمله في فتاويه وأحكامه بخلافه، والأقوال لا تموت بموت قائلها، كما لا تموت الأخبار بموت رواتها وناقليها" انتهى من "إعلام الموقعين" (4/165).

وقال المرداوي رحمه الله: "‌ويقلد ‌ميتا. ‌على ‌الصحيح ‌من ‌المذهب. ‌وعليه ‌الأصحاب. ‌وهو ‌كالإجماع ‌في ‌هذه ‌الأعصار" انتهى من "الإنصاف" (28/320).

وقال ابن النجار الحنبلي رحمه الله: "وله ‌تقليد مجتهد ميت، كتقليد حي؛ لأن قوله باق في الإجماع. وهذا قول جمهور العلماء.

وفيه يقول الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: المذاهب لا تموت بموت أربابها" انتهى من "شرح الكوكب المنير" (4/513).

ولكن النظر في كتب السلف والأئمة المتقدمين، والأخذ عنها في الأحكام والفتاوى: ليس متاحاً لكل من آنس من نفسه قدرة على القراءة فيها، فما سطّره السلف في كتبهم: يلزم لفهمه دُرْبة في العلم، ومعرفة بقواعده وأصوله، ومجمله ومفصله، وراجحه ومرجوحه.

فمن كان لديه قدر من العلم الشرعي، وملكة في الفهم تؤهله للنظر فيها، ونقل فتاويهم لمن دونه، فلا جناح عليه.

ومن فقد القدرة العلمية، والملَكة التي تؤهله للنظر في كتب المتقدمين، فهذا لا ينبغي له النقل عنها، لما قد يحدث لديه من لبس في فهم مصطلحاتهم، وفك عباراتهم، فيفهمها على غير وجهها.

قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: "سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة، فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك، ولا للإسناد القوي من الضعيف؛ فيجوز أن يعمل بما شاء ويتخير ما أحب من متنه فيفتي ويعمل به؟

قال لا يعمل حتى يسأل: ما يؤخذ به منها؟ فيكون يعمل على أمر صحيح؛ يسأل عن ذلك أهل العلم " انتهى من "صفة الفتوى والمفتي والمستفتي" (ص26).

قال ابن عقيل: " فقدْ جعلَه عاميّاً، ولا يجوِّزْ لَه الأخذَ بشيءٍ منْ ذلك، فكانَ ذلك تنبيهاً على أنّه لا يجوزُ له أنْ يفتيَ غيرَه؛ لأنَّ تقليدَ الكتبِ، وأقوالِ الصَّحابةِ، إذا لم يكنْ معَه معرفةٌ، غيرُ موثوقِ بها، فيصيرُ بذلك مقلِّداً لِما لا يجوزُ تقليدُه، وهو المخبرُ، والمخبرُ لا يقلدُ، كذلك الكتاب" انتهى، من "الواضح في أصول الفقه" (5/459).

وقد سئل شيخ المالكية في زمانه: الشيخ أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن عليش، رحمه الله: "هل يُستفتى من قرأ الكتب المستعملة، مثل المدونة والعُتبية، دون رواية، أو كتب المتأخرين لا توجد لها رواية أم؟

فأجاب: " من قرأها على الشيوخ، وأحكم معانيها، وفهم أصولها، بما بنيت عليه من الأصول الأربعة، وأحكم وجه القياس، وعرف الناسخ من المنسوخ، وسقيم السنة من صحيحها، وفهم من اللسان ما يُعرف به الخطاب= جازت فتواه فيما ينزل من المسائل باجتهاده، مما لا نص فيه.

ولو لم يبلغ هذه الدرجة، فلا تجوز له الفتوى في النوازل برأيه، إلا أن يُخبر عن عالم، برواية؛ فيقلده فيما يخبر به. وإن كان فيها اختلاف، فما ترجح عنده، إن كان أهلا للترجيح. وجاز للحاكم القضاء بقوله، إن لم يجد من استوفى شرائط الاجتهاد، ويقلده القاضي في فتواه.

وإن لم يتفقه في قراءته فلا يحل له استفتاؤه، ولا يجوز له الفتوى قال – صلى الله عليه وسلم – إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه الحديث وفيه إذا كان ذلك الزمان اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوهم بغير علم فضلوا وأضلوا؛ وقد أدركنا هذا الزمان. والله أعلم." انتهى، من " فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك" (1/85).

 

ثالثاً: الفرق بين نقل الأحكام الثابتة والمتغيرة.

مما سبق تبين جواز تقليد الأئمة المتقدمين، ونقل فتاواهم، ولكن لابد عند نقل الفتاوى عنهم من التنبه إلى أن الفتاوى على قسمين:

1- فتاوى الأحكام الثابتة المبنية على الأدلة، مثل أحكام الصلاة وأركانها وشروطها ونحو ذلك، فنقل مثل هذه الفتاوى كما قرروه: لا إشكال فيه؛ بل هو المنهج الأعلم والأسلم، لما سبق بيانه من رسوخ علمهم، وعظيم فضلهم.

2- الفتاوى التي بُنيت على أعراف، واحتفت بها قرائن، ولابستها وقائع، فهذه ينظر فيها استئناساً، ولا تنقل أحكامها كما هي.

قال الإمام مالك: "يحدث للناس فتاوى، بقدر ما أحدثوا".

قال الزرقاني: "ومراده أن يحدثوا أمراً تقتضي أصول الشريعة فيه غير ما اقتضته قبل حدوث ذلك الأمر" انتهى من "شرح الزرقاني على الموطأ" (1/ 676).

ويقول ابن القيم-رحمه الله- الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة، ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك؛ فهذا لا يتطرق إليه تغير، ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له، زمانا، ومكاناً، وحالاً، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع حسب المصلحة" انتهى من "إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان" (1/330).

وقال ابن عابدين: "إن جمود المفتي والقاضي على ظاهر المنقول، مع ترك العرف والقرائن الواضحة، والجهل بأحوال الناس يلزم منه تضييع حقوق كثيرة، وظلم خلق كثير" انتهى من مجموعة رسائل ابن عابدين (1/47).

وجاء في كتاب "أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله":

"والصواب: ‌أن ‌الوقائع ‌التي ‌أفتى ‌فيها ‌المتقدمون: إما أن يغلب على ظننا أن تغير العصر لا مدخل له في تغير حكمها، أو لا.

فإن غلب على ظننا أن الأعراف والعادات والمصالح لم تتغير في هذا العصر، عنها في العصر السابق، أو أن التغير لا مدخل له في حكمها؛ فلا بأس بنقل فتاوى المتقدمين والعمل بها، من المقلدين.

وإن لم يحصل ظن غالب بذلك، لم يجز الفتوى فيها بنقل مذاهب الأموات، ولم يجز للمقلد إذا اطلع على فتوى المتقدمين فيها: أن يأخذ بها حتى يراجع علماء العصر.

ونتيجة لاكتفاء بعض علماء العصر بنقل مذاهب الأموات في مسائل الاجتهاد، دون أن ينظروا في أثر تغير الزمان والأعراف والمصالح في المسألة؛ وقع خلل كبير في الفتاوى" انتهى من (ص488).

وقد قرر المجمع الفقهي في دورته الخامسة أنه" ليس للفقيه، مفتياً كان أو قاضياً: الجمود على المنقول في كتب الفقهاء، من غير مراعاة تبدل الأعراف" مجلة المجمع الفقهي 5/ج4/ص346.

 

رابعاً: نقل العامي للفتوى من الكتب.

الأصل أنّ الواجب في حق العامي أن يسأل فيما أشكل عليه من الأمور الشرعية العلماء الثقات من أهل زمانه، ويتحرى في ذلك.

قال ابن عقيل "ولا يجوز للعامي أن يستفتى في الاحكام الشرعية من شاء؛ بل يجب أن يبحث عن حال من يريد سؤاله وتقليده؛ فاذا أخبره أهل الثقة والخبرة أنه أهل لذلك علما وديانة: حينئذ استفتاه، وإلا، فلا " انتهى من "المسودة في أصول الفقه" (ص471).

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله في معرض جوابه عن سؤال حول التقليد للعامي: " وإذا كان عاميًا؛ فإنه لا يقلد أحدًا من هؤلاء، بل يسأل أهل العلم في زمانه، أهل العلم بالسنة، أهل البصيرة، يسألهم عما أشكل عليه، ويعمل بما يفتى به؛ لأن مثله لا يعرف يميز بين الصحيح والسقيم من أقوال العلماء، لا يعرف الحق من الباطل، فالعامي يحتاج إلى من يقوده إلى الحق، ويدله عليه من علماء السنة" انتهى من فتوى على موقع الشيخ ابن باز رحمه الله.

فإن لم يجد عالماً، جاز له أن يقبل قول من ينقل له الفتوى عن العلماء الثقات، إذا كان الناقل عدلاً، كما يجوز له النظر في فتاوى أهل العلم المتأخرين، ونقلها عنهم، لسهولة عباراتهم، مع بيان القائل بها، ويكون بذلك ناقلاً ومبلغاً فقط، وهذا أمر سائغ شرعاً للعامي، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يبلغ من هو أوعى له منه) البخاري (1739)..

قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: "إن نُقل له الحكم عن ‌مفت آخر غيره، أو عن ‌كتاب موثوق به، وكان الناقل عدلا؛ جاز للعامي اعتماد قوله؛ لأنه حينئذ ناقل لا ‌مفت" انتهى من "الفتاوى الفقهية الكبرى" (4/296).

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ما حكم الإفتاء إذا علمت فتوى السؤال من شيخ من كبار العلماء؟

فأجاب: "الإفتاء بقول بعض العلماء الذين تثق بهم: لا بأس به، ولكن لتكن صيغة الإفتاء بقولك: قال فلان كذا وكذا، إذا كنت متيقنا من قوله، ومن أن هذه الصورة التي سئلت عنها هي التي يقصدها هذا العالم…. " انتهى من مجموع فتاوى ورسائل العثيمين " (26/409). وينظر جواب السؤال: (228377 ).

خامساً: الكتب المعاصرة التي ينصح بنقل الفتوى عنها

من الكتب النافعة في نقل الفتاوى لغير المتخصصين: مجموع فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية، مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله، مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

ومن الكتب النافعة في أصول طلب العلم وآداب التلقي:

جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر رحمه الله، حلية طالب العلم للشيخ بكر أبو زيد رحمه الله، كتاب العلم للشيخ ابن عثيمين رحمه الله، معالم في طريق طلب العلم للشيخ السدحان.

والله أعلم

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android